وطن الشمس

علي إبراهيم الدغيم

وطن الشمس

علي إبراهيم الدغيم

سورية / ادلب / جرجناز

مالتْ الشمسُ إلى نافذةِ صفنا .

اخترقتْ أشعتُها الزجاج المكسور لتشعلَ الغرفة حراً .

طاولتي الواقعةُ في مرمى أشعة الشمس , تعاني ما أعانيه من الحر الشديد .

الحصة السابعة من يوم الخميس ؛ آخر أيام الدوام في الأسبوع , وهي الحصة التي خصصتها المدرسة للنشاط الطلابي .

الملل والضجر تسرب إلى نفوس زميلاتي , إضافة إلى الجوع الذي عانينا منه جميعاً .

النعاسُ ملَكَ العيونُ , حالةُ التذمر واضحةٌ على الجميع , والصيحات تعلو وتتكرر :

لماذا الحصة السابعة ؟

وما فائدة النشاط ؟

وإحدى زميلاتي تصرخ بسخرية : الآن يدخل أرسطو ( لقب أستاذ النشاط ) , ويبدأ بالتنظير والحديث عن نظرياته وأهمية النشاط في حياتنا , ويملأ فكرنا بكلامٍ لا يسمنُ ولا يغني من جوع .

صيحاتٌ وتهكماتٌ كثيرة قبل موعد الحصة .

أما أنا فعندي حماسٌ شديدٌ لهذه الحصة , وشوقٌ عارمٌ , وأنتظر قدومها من الأسبوع للأسبوع .

دخلَ الأستاذُ الصفَ .

كان الصف هادئاً , فنصفُ الطالبات نائماتٌ , والنصف الآخر متعباتٌ , متذمراتٌ من أطول يومٍ دراسي .

لم يتفاجئ الأستاذ من الوضع , فحالةُ حصص النشاط معروفةٌ لديه , وللمدرسة , ولمديرية التربية والتعليم .

دخل الأستاذ الصف وهو مبتسمٌ , وحيَّانا , وتوجَّه إليَّ بالسؤال :

- كيف الحال يا ( عروبة ) ؟ ما شاء الله أنتِ كالعادة في قمَّة نشاطك .

- أما أنا فتبسمتُ معلنةً احترامي للأستاذ , ومبديةً السرور لتشجيعه لي .

تنبيهاتُ الأستاذ للطالبات , وضرباتُ يده الخفيفة على الطاولة أيقظتْ من نام أو تناوم من زميلاتي .

بدأ الأستاذ كلامه بحماسِه المعتاد قائلاً :

اليوم سنبدأ بالعمل الجاد , وبالدروس التطبيقية , فقد كنا في دروسنا السابقة نُنظِّر للفن بكلِّ أنواعه , ونتحدث عن قيمته , ووظيفته , واليوم سننتقل إلى التطبيق .

تابع الأستاذ كلامه بعد أن أخرج من كيسٍ في يده ( لوحان خشبيان , وأعواد , وعلبة صمغٍ , وبعض قطع القماش ) :

تحدثنا أن الفن هو تعبيرٌ عن شعورٍ خفي لا يُظهره إلا طريقة عرضه في فنٍ من الفنون كالرسم , والشعر , والنحت ..... إلخ.

وعبَّرت كلُّ طالبةٍ عن مشاعرها ونظرتها في موضوعٍ ما عن طريق الرسم , واليوم سننتقل إلى التعبير عن أفكارنا , ومشاعرنا عن طريق عملٍ مادي , نريد أن نعبّر عن المعنويات بالحسي فتكون الفكرة أوضح وأجمل .

الموضوع شدَّ انتباه زميلاتي على غير العادة , وتابع الأستاذ :

سأقوم الآن بتقديم مثال , وسأعبر عن فكرة الحرية بهذه الأدوات .

ووضع الأستاذ اللوح الخشبي على الطاولة , ودهنه بالصمغ , ثم أوقف الأعواد على أطرافه وجعلها على شكل شبكة , ثم رمى بداخل الشبكة طائراً خشبياً , ووضع اللوح الخشبي الثاني فوق الأعواد . فبدا المنظر واضحاً للجميع :

طائرٌ محبوسٌ في قفص , حُرِّم عليه الطيران , بعبارة أخرى : سجن , كبتٌ للحرية .....

واستمع الأستاذ للدلالة التي يوحي بها عمله من كلِّ طالبة , وكانت الدلالات مختلفةً , وتابع الأستاذ :

والآن ستقوم كلّ طالبةٍ بالتعبير عن فكرة ما بواسطة عمل تطبيقي كهذا , ويُحضَر العمل في الأسبوع القادم . وكتبَ الأستاذ على السبورة المواد التي يمكن أن نستعين بها وهي ( الصوف – الخشب –الجبس – الكرتون –الحجارة – الطينالفخار )

مضتْ الحصة سريعاً على غير عادتها , وقُرع الجرس فغادر الجميع بسرعة , أما أنا فتقدمتُ للأستاذ , وسألته عن تفاصيل العمل المطلوب منا , وبعض الأمور , واستمعتُ لبعضِ التوجيهات ثم غادرتُ الصف وأنا أفكر : ماذا سأعمل ؟

وصلتُ البيت ولا أزالُ أحلِّق مع سحابةٍ من الشرود لا أدري أين تحملني .

تناولنا الغداء , جلستُ مع أخوتي , وكلُّ واحدٍ منا يقصُّ لأمي – كالعادة – ما جرى في المدرسة , وأمي – كعادتها – تتذمر من أحاديث المدرسة !

وكان حديثي أنا عن حصة النشاط , و إعجابي بها .

حلَّ المساء ...

وبينما نحن جلوس نشاهد التلفاز ؛ انقطع التيار الكهربائي , فنهضتْ أمي وأشعلت شمعاتٍ موزعة في أنحاء البيت ...

منظرُ الشمعة لفت انتباهي .

غريب !!!

النور الصادر من الشمعة أشعل بارقةَ أملٍ في غيمة شرودي ....

منظرٌ مدهشٌ , قطعةٌ جامدةٌ , تحترق , تنزف , وتتألم لتنير ... !

عادت الكهرباء سريعاً و وأوقفتْ موجة ذهولي التي حملتني مع ذبذبات النور الصادر من الشمعة .

مضتْ ساعاتُ المساء , وحانَ موعد النوم .

مرَّ اليوم بأحداثه , وكان غريباً .

حملتُ الشمعة , وغادرتُ بها إلى غرفتي ..

وضعتها على طاولتي وأنا أرددُ في مخيلتي :

عجيبٌ ... لمَ لمْ يذكر الأستاذ الشمع من بين المواد التي ذكرها اليوم , إنَه أكثر تعبيراً من الطين , والحجر !!

وبدتْ فكرة عملٍ بالشمع تستحوذ اهتمامي , ورغبتُ أن أفاجئ الأستاذ بعملٍ أصنعه من الشمع .

خلدتُ للنوم وعينايَ لا تفارق الشمعة التي انتصبتْ شامخةً على طاولتي .

صحوتُ على صيحاتِ أمي كعادتها في كلِّ يوم جمعة , وهي تؤنبنا على النوم حتى الظهيرة .

ليلتي الماضية كانت قصيرةً جداً , لا أحلاماً فيها ولا كوابيس , ولا شيء سوى صورة القفص , وصوت الأستاذ , والشمعة !

تناولتُ الإفطار ثم بدأتُ كتابة وظائفي كعادتي في صبيحة يوم الجمعة , الرياضيات ... الفيزياء... وأبقيتُ الجغرافية إلى المساء .

مضى نهار الجمعة قصيراً جداً .

وفي المساء بدأت بوظيفة الجغرافية , وكانت رسم خريطة الوطن العربي بحدوده السياسية لكل قطر .

وضعتُ الدفتر وبدأتُ الرسم , وكانت تنبيهات الأستاذ تتركز على تلوين كل قطرٍ باللون الموجود على خريطة الكتاب , انتهيتُ من الرسم والتلوين , وبينما أكتب اسم الدول انقطع التيار الكهربائي , ونهضتْ أمي متأففة , فأشعلتْ الشمعات وأنَّبتني عندما فقدتْ الشمعة التي كانت بجوار التلفاز .

نهضتُ سريعاً إلى غرفي , وأشعلتُ شمعتي وكان دفتر الجغرافية بيدي .

بدا الوطن العربي على دفتري يشع بلونٍ واحدٍ في عتمةِ الغرفة .

الفكرةُ لاحتْ بالأفق ؛ لمَ لا أرسم الوطن العربي بالشمع .... وألوانه بالشمع !!

لا ... لا ... لمَ الرسمُ ؟ لمَ لا أبني الوطن العربي بناءً بالشمع , فأنا اسمي ( عروبة ) , لمَ لا أعبر ولو بالشمع عن حلمٍ تمناه أبوايَ عندما أسمياني عروبة ؟!

الفكرةُ ملكتْ تفكيري , وعاد التيار الكهربائي ليطفئ تفاصيل فكرةٍ أنارتها ظلمةُ غرفتي , والشمعة !

خلدتُ للنوم باكراً , وأنا أنوي بداية العمل في صباح اليوم التالي .

في صباح السبت , حدَّثتُ أمي بالفكرة , وأبدت إعجابها الشديد بها على غير عادتها , ووعدتني أنها ستساعدني .

وبدأتُ العملَ ....

علبةُ الحلوى كانت تحوي على مربعاتٍ فارغة لقطعِ الحلوى التي أُكلتْ , أفرغْتُ بقية القطع , وسكبتُ الشمع لأصنعَ لبنات بنائي العظيم .....

علبةُ البيض كذلك كانت قالباً لقباب العز التي سأتوّج بها بنائي الشامخ !

بعضُ الأواني و الشمعات الطوال كانت أكبر عونٍ لي في تشييد البناء , وتشييده على أعمدة عالية ...

كانتْ أمي تساعدني في إذابة الشمع وصنع القوالب , والقناطر , والقباب ......

وأنا أتخيرُ الألوان ؛ حتى يبدو البناءَ جميلاً .... وشامخاً .

مضتْ أيام الأسبوع ( الأحد – الاثنينالثلاثاء – الأربعاء ) سريعاً , وأنا جادةٌ في بنائي , أعود من المدرسة إلى ورشتي في البيت , وحلمي مع الشمع !

اليوم الأربعاء , وقد أنهينا صنع المواد الأولية , وحان موعد البناء .

أتيتُ بلوحٍ خشبي , وثبّتُ عليه خريطة الوطن العربي التي رسمتها , وبدأتُ البناء .

لبنةٌ فوق لبنة , والبناء يعلو , وأخوتي وأبواي يشاهدون هذا العمل الجميل . لم يستغرق البناء طويلاً .

قليلٌ من العمل , والمثابرة حتى بدا الوطن العربي قلعةً عاليةَ الأسوار !

اكتمل البناء سريعاً ..

وحان الآن وضع القباب , وضعتُ القباب على أعمدة الشمع العالية , وقمتُ بإذابة بعض الشمع فوقها حتى تلتحم القباب بالأعمدة والأسوار .....

اكتمل البناء .....

يا الله !!!

بنيانٌ شامخٌ !!

قلعةٌ عظيمةٌ مهابةٌ في وسط العالم ...

عملٌ خارقٌ ., توالت صيحاتُ الدهشة والإعجاب من أخوتي وأبواي , ووقف الجميع وقفة احترام لهذا الحصن المنيع , والبناء الشامخ .

لم أكنْ أدري هل كانت دهشتهم وإعجابهم بعملي – مجسم الشمع - أم هو هيبة الوطن ؟!

المهم أن العمل أدهشهم .

حملتُ المُجسَّم ووضعته على الطاولة في غرفتي , وأنا أتأمله بفخرٍ واعتزاز .

الوقتُ تأخر , ولا أستطيع الخلود للنوم , المشهد كان خارقاً ...

دخلتْ أمي الغرفة , وتبسَّمتْ عندما رأتني أقف بإجلالٍ أمام قلعتي العظيمة , ولا أستطيع النوم , وقالت بهدوءٍ وسرور :

تعالي يا ( عروبة ) لقد صنعتُ لك صندوقاً كبيراً كي تضعي فيه بيتك الجديد , وتفاجئي الأستاذ !

أحضرتُ الصندوق , ووضعتُ البناء فيه , وأغلقتُه , كي أفاجئ الجميع غداً .

كانت تلك الليلة طويلة جداً , ولم أستطع النوم فيها , فمقلتاي لم ترتوِ من بيتي الجديد المتألق .

جاء الصباح بعد ليلة انتظار .

غادرتُ البيتَ باكراً , وأنا أحمل مفاجأتي للجميع .

وصلتُ المدرسة , وكانت المجسمات , والمنسوجات , والرسومات في يد كلِّ طالبة .

فتمثالُ الحرية منحوتاً بجذع شجرة ..... وأخرى نسجَتْ بالصوف أسداً ينقضُّ على فريسته , وتلك صنَعَتْ مجسماً لنملة وحبةِ قمحٍ .... وكلُّ واحدةٍ من زميلاتي تتباهى بما صنَعَتْ .

أما أنا فمنظرُ الصندوق الكبير المربع لا يعبّر عن شيءٍ , ولم يُدهش أحداً .

تقدمَتْ فاطمة وحاولَتْ معرفة ما بداخل الصندوق , لكنني رفضتُ , وبقيتُ مصرةً على أن يكون عملي مفاجأةً للجميع .

بدأ اليوم الدراسي , والجميعُ ينتظر الحصة السابعة على غير العادة !

وبعد انتظارٍ طويلٍ ... جاءَتْ الحصة السابعة ...

وكالعادة :

الشمسُ تُلهبُ طاولتي والصف ...

لكنَّ الجديد هذا الأسبوع النشاط الذي بدا واضحاً على الجميع , والمجسمات , والأعمال , وصندوقي الكبير الذي خبأته تحت طاولتي منذ بداية اليوم منتظرةً هذه الحصة .

دخل الأستاذُ بوجه البشوش المعتاد , لكنَّ ابتسامته هذه المرة وزَّعها على الجميع , ولم يخصّني بها كالعادة , فالجميعُ ينتظرون قدومه ليقدموا أعمالهم .

بدأ الأستاذ يتجول بين الطالبات , ويرى الأعمال ويثني على الجميع , ولكل مجتهدٍ نصيبٌ من الثناء كما يُقال .

أما أنا فكنْتُ أنتظر وصوله لطاولتي بفارغ الصبر لأدهشه بعملي الخارق .

وما هي إلا دقائق حتى وصل لطاولتي , وقال :

ما في هذا الصندوق يا ( عروبة ) ؟

نهضتُ بسرعة فأنا أنتظرُ هذه الدقيقة منذ أيام .

لم أجب الأستاذ عن سؤاله بل بدأتُ بفتحِ الصندوق قائلةً :

- سأدعُ الفنَّ يتكلم يا أستاذي , ألسْتَ مَنْ علَّمتنا : الفن : رمزٌ وإيحاء فدعوه يتكلم , ويعبّر ....

ابتسم الأستاذ إعجاباً بكلامي , أما أنا فأكملتُ نزع غطاء الكرتون ...

نزعتُ الغطاءَ العلوي للصندوق أمام تجمّع زميلاتي فوق عملي ...

قهقهاتُ زميلاتي وضعتني في حرج شديد ...

ما هذا ....؟!

مشهدٌ كادَ أن يفقدني صوابي ...

تقدَّم الأستاذ ليرى سرَّ هذه الضحكات , نزع الغطاء الكرتوني بأكمله , وإذا بكتلةٍ من الشمع تكوَّمتْ في وسط اللوح الخشبي وبدأتْ تسيل , وخريطة العالم العربي بألوانها بدت واضحة , والأستاذ يقرأ بتهكمٍ شديد :

تونس .... فلسطين .... مصر ... ليبيا .....

ويسألني بدهشة :

ما هذا يا عروبة ؟؟!!