ابن الليل

د. عبد الله الطنطاوي

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

عُرف يعقوب بين أبناء بلدته بأنه (صاحب الخط الجميل) وكان بعضهم يطلق عليه لقب (ابن الليل) حتى غدا هذان اللقبان علمين عليه ، لا يكاد أحد يعرفه إلا بهما ... وكان يعقوب إذا مرّ بناس يتحدثون نبه بعضهم بعضهم الآخر بالحمحمة (احم .. احم) عندئذ ينقلب الحديث الذي هم فيه ، مهما يكن نوع ذلك الحديث ، حتى لو كان حديثاً عادياً لا غبار عليه ، ولا يستطيع يعقوب أن يتصيد منه كلمة أو معنى يبني عليه موضوعاً انشائياً من نوع آخر ، يكتبه بخط جميل ، ويرسله مع أول مسافر أو قادم سيعود ، ويجمعه إلى جانب تقارير أخر كان كتبها خلال الشهر أو الأسبوع ، ليقبض ثمنها من سادته في المدينة المجاورة ..

عندما يحضر ينقلب الحديث إلى نكتة يتضاحك لها المتحدثون ، ويلبث يعقوب بينهم لحظات ، ينفث دخانه من جوفه الأسود ، وسحنته الشوهاء تربدّ اربداداً مخيفاً ، ثم يحاول جرهم إلى حديث أي حديث ، فيجاريه بعضهم متحاشياً غضبه ، ضاناً بالكلمات ، مخافة الفخ الذي قد ينصبه له دون أن يدري .

يعقوب هذا عمله (عرضحالجي) ورث هذه المهنة عن أبيه عن جده عن جده عن جده ، وربما وصل الأمر ببعضهم أن يصل بهذه المهنة المتوارثة إلى جده الأكبر قابيل ، فيحتج بعض الظرفاء ويقول : بل إلى جده القرد .. ويحتج هذا البعض بالمشابه الكبيرة التي يراها بين ذاك الجد الدارويني ويعقوب .. الأنف ، الذقن ، العينان ، طريقة التناول لكل حديث .. في الطعام .. إذ يبدو في كل ما يأتي من حركة أو عمل أو قول مقلداً لمن ارتضاهم له سادة ، وارتضى لنفسه أن يكون عبداً من عبيدهم .

عرفنا أباه ، وعرف آباؤنا جده .. كان الأول ذا همسات ناعمات يهمسها في آذان الفرنسيين ومن جاء بعدهم من الحكام الطغاة ، ما يكاد يجلس إلى واحد منهم ، حتى يلتقم إذنه ، ويبث سمومه على شكل تقارير شفهية عما يدور بين الناس من أحاديث .. فالبكّار يحرض الناس في مضافته على هؤلاء الدخلاء .. يعني أنكم انتم الدخلاء يا حضرة المستشار . والجمل متآمر مع البكار ، يحبكان المؤامرات فيما هما يلعبان (بالضامة) .. البكار يجمع عليه أبناء البلدة ، والجمل يثير نخوة أبناء القرى ويغريهم بالشغب ، ويحرضهم على امتهان (الملّيس) لأنهم عملاء لكم يا سيدي .. ولا يتورعان عن جمع التبرعات لآل الهمهوم الذي حاول الاعتداء على أحد أتباعكم .. إن الجمل يدفع إليهم مع أبنائه السكر والشاي والملح وحتى البهارات .. تصور يا سيدي إنه لا ينسى حتى البهار والقرفة .. في العيد الفائت ضحى ببقرة وأرسلها إليهم من الرأس حتى الذنب وعندما سئل :

ـ ماذا يفعلون بالذنب ؟

أجاب :

ـ لو استطعت أن أرسلها إليهم حية لما قصرت ..

وعندما حاولت انتهاره على فعلته هذه ، اعتدى عليّ أحد أتباع البكار .. البكار يا سيدي في منتهى الشراسة إنه سيد أسرته ، ولا يستطيع أحد الوقوف في وجهه .. مصارع ، ملاكم ، ثري ، يشتري الناس بنقوده ..

مهما حدثتك وحدثك الناس عنه فهو أعتى من كل حديث .. لا يستطيع أحد وصفه .. ولا دخيلة نفسه .. يبدو بسيطاً طيب القلب ، ويتظاهر بالكرم ، ولكنه خبيث .. وحش .. هجم عليه ذات يوم عشرون رجلاً فألقاهم أرضاً فرداً فرداً .. إن قوته تعادل قوة سيارتك .. سيارتك بقوة عشرين حصاناً يا سيدي أليس كذلك ؟ أما هو فقوته مئة حصان .. وهو وحده القادر في هذا البلد على إذلالنا .. اطلبه الآن يا سيدي فإنك لن تلقاه إلا في بيت الجمل ، أو الجمل في بيته ، يشربان القهوة المرة ، ويتهامسان .. إذا لم (تدبِّره) يا سيدي فسوف يحرق علينا بيوتنا ، أو سيهدمها .. هكذا قال لابني يعقوب عندما رآه بالأمس .. أرجوك يا سيدي .. أتوسل إليك .. إلا ما قصفت عمره وأرحتنا وأرحت نفسك منه .. لا تخش من أتباعه .. إذا مات أو سجن انفرط عقدهم وهاموا على وجوههم أو جاؤوك تائبين خاضعين ..

هذا شأن أبيه ، أما جده فكان قد طاف في سوق البلدة ، وبشر أهلها بمجيء الفرنسيين ... قال لهم يومئذ :

ـ هؤلاء الفرنسيون كرام .. متمدنون .. وسوف يمدنوننا .. إن (غورو) ضابط عظيم ، قهر الأتراك من أجل تمدينكم .. جلب معه آلاف الأكياس من الحنطة والشعير .. تصوروا أنه لم ينس دوابكم التي أهزلها الجوع ، فجاء بالشعير الوفير لها .. آلاف النساء الشقراوات معه .. يريد الترفيه عنكم .. يجب أن تستقبلوه استقبالاً يليق به .. إنه أكبر ضابط في فرنسا .. فرنسا كلها نعيم .. يقول عنه قومه : لم تلد النساء بعد نابليون أعظم من غورو ..

وعندما تصدى له أحد الشبان المستنيرين قائلاً :

ـ ولكنه ذبح رجالنا في ميسلون ..

قاطعه بقوله :

ـ مسكين أنت يا هذا .. هل صدقت ما يقوله الخونة والمأجورون في هذا الرجل الرحيم ؟ عندما قتل يوسف العظمة أبى إلا أن يغسله بيديه .. وهو الذي كفنه ولحده في قبره .. هل تعلم أنه أمر ببناء قبر عظيم له أشبه بالقصور ؟..

قال الشاب :

ـ يعني قتله .. ثم مشى بجنازته ..

ـ يا ابني عيب .. إذا تحدث الكبارفاسكت .. أنا أعرف غورو منذ كان صغيراً .. زار حلب مع زوجته وطفله .. تصور كم هو جميل ذلك الطفل .. خصلات شعره الأشقر كالذهب . وعيناه الزرقاوان أعمق من بحر اللاذقية .. هل ذهبت مرة إلى اللاذقية ورأيت بحرها ؟.. إنه كبير .. أستطيع أن أقول لك : إن بحر اللاذقية أكبر من بلدتك هذه ، بل إنه أكبر من حلب نفسها ..

قال الشاب :

ـ ولكنه قتل يوسف العظمة ..

ـ يا عيب الشوم يا ابني .. يوسف العظمة قتله الأوباش ، لأنه خرج لاستقبال غورو وجيشه المظفر ، فهجم عليه الأوباش ، وقتلوه وسرقوا فرسه وثيابه وسيفه .. هل تدري كم يساوي سيفه ؟.. إنه من ذهب .. وفرسه أصيل وثيابه ثمينة ، وكان في (خرجه) مئة ألف ليرة ذهبية كان أرسلها كان أرسلها إليه الجنرال غورو ليوزعها على الناس عندما يدخل الشام .. ولكن .. هكذا ابن العرب (نكّار) .. يأكل وينكر ..

جده هذا كان أعجوبة الأعاجيب في التمسح بالعتبات ، وتقديم الخدمات للفرنسيين وصنائعهم في هذا البلد ، وقديماً قال الشاعر : ومن يشابه أباه فما ظلم ..

ولو أنك ذهبت إلى تلك البلدة البسيطة الهادئة في أحضان الزيتون ، وسألت عن يعقوب وأبيه وجده ، لأسمعك العزازيون أطناناً من الأحاديث عن أجداده منذ خلق الله أول جد له ، وحتى اليوم الراهن ..

جلس يعقوب في غرفته القابعة في زاوية من زوايا الدار العربية الكبيرة ، وكان الليل قد آذن بالرحيل ، وهو ممسك رأسه بين كفيه ، وسيكارته تحترق أمامه على منضدته التي شهدت خراب بيوت عامرة ، وسحب من الأحلام السود تطوف في أجوائه .. عيناه الدقيقتان مُجهدَتان ،وفي أذنيه طنين .. إنه يفكر في صيد ثمين رآه اليوم في البلدة ، جاء يزور أباه الجمل الكبير الذي أقعده السن ، وفقد الصحاب وخاصة صديقه البكار الذي واراه التراب منذ يومين ..

رأى يعقوب محمداً في السوق ، تبدو عليه سيماء النعمة ، والناس يهشون له ويبشون .. آلمه أن يمر به محمد ويبدأه بالسلام .. ليته لم يسلم عليه .. لقد ترك في نفسه جرحاً غائراً .. ابن الجمل يهزأ بي بسلامه هذا .. إنه يقول لي : انظر أين أصبح ابن الجمل الذي شرده أبوك وأسياده ، وأين أصبحت أنت يا يعقوب يا ابن الكلب .. لا بأس يا محمد .. أنا ابن الكلب أليس كذلك ؟.. سترى من هو ابن الكلب ؟.. لأسطرن فيك تقريراً يتركك في السجن مدى الحياة .. سيقتلك تقريري من السجن إلى القبر .. لن يراك أبوك العجوز ، ولن تراك أمك الحيزبون . أنا أفهم أكثر منك .. أعرف معنى الحيزبون ، ولست أنت وحدك تفهمها .. سيموت أبوك ، وستموت أمك دون أن يرياك أو تراهما .. سأترك أولادك أيتاماً ، وسأمنع الناس من التصدق عليهم .. سأطرّز تقريراً بكل من يقدم إليهم معونة .. سأجعلهم شحاذين لا يجدون من يتصدق عليهم .. لقد رأيت ابنتك عندما كانت تزور جدها .. إن آثار النعمة بادية عليها .. لقد رأيت هذه من وراء جلبابها الفضفاض .. لا بأس .. ستسمع عنها .. ستسمع أنها تلبس القصير ،وتخرج حاسرة الرأس .. صار عمري خمساً وخمسين سنة ، ولم يرضَ واحد من أبناء اللئام أن يزوجني بنته .. حتى أعمامي وأولاد أعمامي رفضوا تزويجي .. وأمي كالحية تشتمني بلسان كلسان الحية وتقول :

ـ يا خسارة ! طالع لأبيه وجده ..

أمي كالبقرة الريانة .. تجيد الرفس .. لذا كانت عقبة في طريق زواجي .. كل الناس يخشونها .. يخشون لسانها السليط .. لا .. إنهم يحتجون بأمي ولكنهم لا يرغبون في تزويجي لأنني (مُخبر) .. هكذا يقول الوقحون .. سأريهم قيمة المخبر .. سأنغّص عليهم حياتهم .. سأسلبهم راحتهم .. هذا القلم أمامي يراودني على الكتابة .. يا ابن الكلب .. يا قلم .. ألا تراودني على شيء آخر ؟..

أما نسيت ابن الجمل.. ولكن ماذا عساني أكتب عنه ؟ صحيح .. تذكرت .. إن زوجته وبنته تضعان النقاب .. إذن هو رأس من رؤوس الرجعية في هذا البلد .. إنه عميل للامبريالية العالمية وللماركسية اللعينة .. ولكن .. هل يصدق أولاد الكلب إذا كتبت لهم هذا الكلام عنه ؟ سيقولون عن هذا الكلام : هذيان .. لأنهم أغبياء .. ولو عرفوا الحقيقة ، لعلموا أن هذا الجاسوس ابن الجمل يستطيع التلون بألف لون .. كأبيه .. كجده .. آه لو أستطيع نبش قبورهم قبراً قبراً .. إن حفار القبور لن يشفي غليلي إلا عندما يحفر قبور آل الجمل من أول جمل خلقه الله إلى آخر جمل .. سموه جملاً لأنه بدين .. طويل .. عريض .. خافوه .. هابه الناس .. فأنزلوه هذا المنزل الكريم في (عزاز) .. ولكن .. من أكون أنا إذا لم أحفر لهذا الجمل الصغير قبره ..

وأحست أم يعقوب أن النور لم يطفأ بعد في غرفة ابنها يعقوب .. نهضت من فراشها القذر ، وسارت تجاهه وهي تسب وتلعن :

ـ طول الليل وأنت سهران يا ابن الكلب ؟.. أطفئ النور يا شقي .. طلع الصبح وأنت تفكر .. بماذا تفكر يا ملعون ؟.. بالمرأة ؟.. النساء في المدينة كثيرات .. تريد الزواج ؟ لن يزوجك أحد .. تريد الأولاد ؟ لماذا ؟.. لن يلد البغل إلا بغلاً .. هذا إذا ولد ..

اقتربت الأم من يعقوب .. حقاً إنها كالبقرة الريانة . تجيد الرفس .. رفست كرسيه فدحرجته ودحرجت صاحبه على الأرض .. نهض يعقوب :

ـ يا بنت الملاعين .. يا بنت الشياطين .. يا عجوز الجن .. طيرت القصة من رأسي ..

ـ أي قصة يا بليد ؟

ـ أريد أن أخرب بيت ابن الجمل محمد ..

ـ وماذا فعل حتى تخرب بيته ؟

ـ لم يفعل شيئاً .

ـ اتركه يا خنزير .. هذا ابن مشايخ .. ابن جد .. والله إذا آذيته بعجوا لك بطنك ..

طغى الحقد الحزين . وعصف بيعقوب ، فتناول الكرسي ورمى به أمه وهو يجعجع :

ـ اخرجي يا وجه النحس ... من هذا البيت ، وإلا حطمت رأسك بهذا الفأس ..

هجمت البقرة الريانة على الثور الهائج :

ـ أنا وجه النحس يا منحوس .. يا ابن الكلب ؟.. أنت تحطم رأسي ؟.. أبوك قبلك لم يستطع تحطيم رأسي ..

ـ اخرجي لعنة الله عليك وعلى زوجك ولو كان أبي ..

وتناول يعقوب الفأس .. وأهوى به على أمه ، وإذا هي صريعة تتخبط بدمائها ..

نظر يعقوب نظرة متشفية وقال :

ـ انتهينا من هذه الملعونة .. وجاء دورك يا ابن الجمل ..

وأمسك بقلمه يكتب تقريراً مغموساً بالنجيع.