المعلمة الخرساء

د. أسعد أحمد السعود

المعلمة الخرساء

د. أسعد أحمد السعود

1- القرار الصعب

كل الذين مررت بهم ، وكنت المتحرك وهم الساكنون ، كنت اسير الى هد ف أعلمه ،وهم يجهلونه ، هم وأنا كنا في ذات المكان ، الشوارع والطرق والأزقة ، أحمل هما ثقيلا لا يعلم أي من الذين مررت بهم مدى حجمه  .

هم موجودون ،  يسيرون غدوة وروحة ، وكل منهم يسكن في همه ،  لكن لا أجد مبررا في هذه الساعة للمقارنة معهم ،ولست أدري لماذا أفكر بالآخرين بالرغم من أن همي الذي أحمله بين يدي ، يسيطر علي ويهيمن حتى على أنفاسي  ، ويأخذني الى عالم ، أنا وحدي أعيش حادثته اليوم ، أو هكذا يخيل الي .

كنت وحيدا بينهم ولم أفكر بصغر سني ، متكور على نفسي  بحرص وحذر شديدين ،مشدود الأعصاب ، مركز انتباهي وذهني ،وأنا أشيع ( لمبة فتيل زيت الكاز) في جنازة الى مثواها التقاعدي ، حيث ماتت صباح هذا اليوم، وتلقيت أنا وهي ، القرار الصعب ببدء رحيلنا من البيت القديم الى البيت الجديد المتعجرف ، الذي أعطى فيما أعطى من تعليمات ، وأنا أعتبرها شروطا بأن لامكان لمثل هذه التفاهات بين جنباته  المتفاخرة كثيرا بنفسها .

لقد ماتت لمبة فتيل زيت الكاز بالقرار الوجاهي ، واستغني عن خدماتها جميعا ،ولم يعد لها أي مكان ،في تطور الحياة الذي انبلج صباحه هذا اليوم العتيد  ،كانت تصارعني غصة وطعم مرارة ،ليست لدي القدرة على التخلص منها .

 

2- حوار الطرشان.....!

حملتها بتؤد ة منقطعة النظير ،ضامها وبحنية فائقة بين كفي الصغيرتين،لم أدري كيف ومتى ولدت هذه الجامدة فغلبت على كل تفكيري ، مشيت أشيعها من بين كل المنعطفات والاستقامات ، وكانت بينها محطات ،منتقلا من مجثم بيتنا القديم الى حيث ذاك الذي أطلق على نفسه وبكل غرور أنه بيت جديد بكل شئ  .

لم أعبأ بأولئك الذين يصدمونني عن قصد منهم ، أوعن غير قصد ،ولا بالذين يتملكهم العجب ، أو تصيبهم الدهشة ويعلوهم الاستغراب مما يرونه في حالتي ، وأنا أتلوى في حركتي ومسيري فيما بينهم كتلة واحدة متيبسا أحمل جنازة اللمبة !.

أولاد كثيرون مثل سني يلعبون  ويلهون بين بيوتهم وحاراتهم ، أحبس أنفاسي وأكضم غيضي ، تعليقات من هنا ومن هنا ك بل وضحكات وصراخ من أكثرهم ،وتنبيهات مفتعلة او جادة أسمعها تقرع بي فتنغرز في كالسهام :

ياولد : امشي على طرف الطريق ! .

ياولد : انتبه بطريقك لأ لا تصدمك عربة ! .

ياولد: احرص جيدا لألا تفلت من يديك !.

ياولد: كيف تحملها بهذا الشكل ......!.                                                

 

كنت مغلقا على نفسي ، بل وحريصا على أن لايستيقظ في غضب أوانفعال ،أو تصدر مني ردة فعل ، فيأ خذني أويحيدني أي شئ الى غير هدفي  الثمين الذي أتجه اليه بكل عزم واصرار، منفذا القرار الصعب ، وهو مثوى معلمتي التقاعدي في البيت الجديد كاملة  غير منقوصة، واشهدها على أمانتي وان كانت حية بالأمس،واليوم هي فجأة ميتة.....!.

 

3-هي معلمتي ولكن.......خرساء...!.

قالت لي: وكان ذلك عبر وسيط ،ذلك لأنها غير قادرة على أداء حتى الاشارة :

ان العمل معها والسماع لدروسها ، رتيب جدا ، ودقيق جدا ،لكنه بأي حال من الأحوال غير ممل أبدا..!.

- يبدأ وقت الدرس في زمن لايختل ايقاعه صيفا ولاشتاء ، ولاخريفا أو ربيعا  .

- ولايتأثرعطاؤه بتقلبات أجواء هذه الفصول ، سواء باضطرابها أم بهدوئها ،ولابغضبها أو سكونها .

- جوهر الدرس يكمن بسر عشرتها ،لابهوان هجرتها .

- وانتهاء الدرس في أي يوم يعني انبلاج يوم جديد .

- وغاية كل درس تكتب بعنوان مع ابتداء كل صبح ،نحن متحركون من بيت قديم الى بيت جديد ، والمعلمة تبقى لاقديم لها ولاجديد ، تقول ولانسمع قولها ولانرى اشارة منها ،وانما الوسيط يكتب :

- ستذهبون وسيذهب كل قديم وكل جديد ، وسيأتي آخرون ، وسأظل ثابتة أبث دروسي وأنتم لاتفقهون ....!.

 

4-أمي والمعلمة والقوانين الفيزيائية :

كان التكامل يتمثل بتوجيه دقيق من أمي ، فأقوم بضبط قوانين المعلمة الفيزيائية برتابتها المتتالية : فيكتمل الدرس بذروته بالتنفيذ عالي الهمة : لا تضعها في مكان عال ولا منخفض ، فأتبين ضبط ذلك الاختيار من خيالي المتشكل من ضوئها ، فاذا كان كبيرا ، فذلك يعني أن موضع اللمبة المعلمة منخفض ،وأما اذاكان صغيرا فان مكانها عاليا أكثر مما يجب .

ويهدأ صخبنا واحتفاؤنا بالمعلمة حين أضبط المسافة بيننا وبينها ، فأقوم بمحاولاتي الهزلية أحيانا والجادة أكثر، فأستمتع بتغيير وجهتي من موضع المعلمة ، فمرة أجعلهاعلى يميني وأخرى من شمالي ، وثالثة خلفي ثم أمامي  فأراقب خيال قلمي المسكين بين أصابعي وهو يكبر حينا ويصغرأخرى على صفحات وريقاتي، الى أن أجد ما كانت توجهه أمي مطابقا لما أحتاجه وأتبينه من وضوح أحرف  الكتابة الصحيحة ، عندما يكون الضوء القادم من اللمبة المعلمة من جهة كتفي الأيسر .

لم أتبين حينها أنه  كان قانونا صحيا وفيزيائيا بآن واحد ،حفظته وأتقنته قبل أن أتعرف عليه بتتالي السنين  .

وكيف نضبط الزمن في حلقنا اليومية حولها ، وقد تأخذنا هموم حفظ الدروس وتأدية الواجبات الدراسية ، من دون تباطؤ أو تقاعس  ، وننسى (نفاذ الزيت من خزانها ) فنعده كساعة  لاستشعار الوقت الذهبي المنقضي والمتبقي ، فنتبادل التنبيهات  المحذرة   لانهاء الكتابة و القراءة :بقي النصف  من خزانها أو الربع، أو بقي مقدار عقلة أصبع ،أو يكاد  ينتهي ، فينذر بعضنا بعضا قبل أن  يأخذ (شحوار) الفتيل الأسود بالتراكم على سطج الزجاجة ، فيكسوه من الاعلى ثم ينزل شيئا فشيئا حتى يصل النصف  ،  حينها يخبو نورها فيصعب رؤية الأحرف بعدها ،وتكبر الظلال ثم تضطرب وتختلط بباقي الاشياء في المكان ، فتنفض الحلقة من حولها فورا، ويحين وقت النوم القاهر .

كنا نترجم تعليماتها وقوانينها ، وايضاح مواقيتها ودروسها اليومية وهي الخرساء الراعية للانضباط والالتزام  ،تبدأ بزمن حياتي صارم لاتراخي ولاهوادة فيه  ،  فتنتهي كذلك بمثل ما ابتدأت ، وكل من يلازمها ويواكبها يعيش ذات الحيثيات المتقاعدة العتيقة.

 

5- هروب جماعي.......!

هنا ك في بلاد الشام ،حيث كانت تعيش المعلمة الخرساء ،  ماتت فيها بكل عز وكبرياء..! ، أصبح كل شئ ...اسمه هارب ..!!

كل شئ اسمه ضوء .........هرب .

كل الطفولة .................هربت .

كل البيوت القديمة والجديدة هربت .

كل الدروب منها واليها هربت .

كانت هنا ك قبور ،خافت واندثرت.!..والجديد منها ظل خائفا..أو هرب.

مدن ...حاضرة التاريخ الأول والثاني والثالث دمرت بل.....وهربت..!!

عمت الخرائب كل شئ ، أو كل شئ أصبح خرابا...صارهاربا...!

الظلام..أصبح عرفا فيها....ولا تكتب في ذاكرتك العلم نور........!!

فالنور أصبح جريمة ..!

-الفضيلة..ومقومات القوانين سحقت بل وقتلت وهجرت..يقول الشبح المتجول في الظلمةعن ذلك........بح هربت.....!!

- ادفع الثمن...لتعود المعلمة الخرساء وتضيئ لك حياتك...محاولة يائسة..!!

- كانت الضرورة شديدة والالحاح قاهرا..........!

صرخت المعلمة الخرساء من شدة الأوجاع وقسوة الآلام ،  لقد شفيت من دائها وصار لها لسان ينطق    ، غمرتها النشوة وتفاءلت ،عادت الى دروسها بحيوية ونشاط ولكن لم يكن هناك من يستمع اليها او يترجم لها او يضبط زمنه معها ، لم يعد  أولئك....لقد هربوا ، وظلت غريبة مع وجوه غريبة .! لاتدري وتتساءل ، أهي في بيت قديم أم جديد.!يعتصرها فشل بتراكم السواد بشكل سريع..!

-أنت غريبة...؟أين بطاقتك الشخصية..؟ أين جواز سفرك..؟

- كل الأوراق...كل الانتماءات .......هربت !!!

6- القديم الجديد :

 في يوم لاحق من أخبار بلادي الجديدة ...اغتيلت المعلمة الخرساء الناطقة..!!.

عاد الظلام...وصدر قرار من س ( مجهول) بتعيين معلم ضبابي الملامح، يعلم ويبشربقوانين فيزيائية حديثة ...أولها  :

كيف يتعلم الابناء في البيت الجديد ، في الظلام العتيم العتيد ..........!!.