آكل النار

أبو الحسن الجمّال

أبو الحسن الجمّال

اعتلى المداح خشبة المسرح وهو يصدح بكلام العشق الإلهى لابن الفارض:

ته دلالا فأنت اهل لذاكا       وتحكم فالحسن قد أعطاكا

ولك الأمر فاقض ما أنت قاض     فعلى الجمال قد ولاكا

أخذ يجود ويعيد وينتقل من مقام موسيقى لآخر..بين الأهات والوجد وطلب المدد .. والناس حوله مشدوهة .. ترقص سكارى على ألحانه ...

  كان الشيخ "رمضان أبو عامر" يقود أهل الحضرة التى تتجاوب رقصاً مع ألحان المداح .. تأتى بحركات تثير الدهشة والتعجب ..هو من أرباب التصوف بالبلدة الصغيرة ..معظم أهلها أناس طيبون ..يعتقدون فيه اعتقادا طيبا ، لا يكل عن التحدث عن خرافات وأساطير عن أولياء الله الصالحين...

 كان يعشق الأكل والشراب، لا يقصر عن الذهاب إلى الموائد العامرة بالفتة والكشك اللحوم والملوخية التى كان يحتسيها عباً...وبعد انتهاء الوصلة الأولى للمداح ذهب إلى مائدة عامرة على هيئة سماط ممتد بأطباق الأرز وأطباق الفتة تتراص عليها قطع اللحوم الكبيرة، وبحوارها إناء كبيرة مملوء بالملوخية، والتهم قطع اللحمة والفتة والأرز بكلتا يديه، ومال على إناء الملوخية وأخذ يحتسيه عبا، وبعد أن املتئت بطنه، مال على حشية وأتكأ عليها وأخذ يحكى للقوم نوادره وتجاربه ...

  كانت المناسبة ذكرى مولد الشيخ "أبى العيس" الكائن بمدخل القرية من الناحية الشرقية .. له مقام يرتفع وسط الزراعات بلونه الأصفر المميز، يحتل مساحة من الأراضى وقفت له على مر التاريخ، وأخذ يقتطع منها حمدان وأولاده بزعم حمايتهم للضريح ...لا أحد يعرف ترجمة أو سيرة  لهذا الولى مثل الذين تتواجد أضرحتهم فى البلاد، وقد سئل أحد العلماء الثقات يوماً عن هؤلاء، فقال:

"كان الأتراك العثمانيين لديهم شغف بالتصوف، وحاولوا زرع هذه الأضرحة فى القرى والبلاد حتى تشغل الناس عن ظلمهم وعسفهم".

  اليوم مولد سيدى أبى العيس ..تكتظ ساحته بالناس الذين توافدوا من كافة أرجاء البلاد لقضاء هذا اليوم فى رحاب هذا العرف يبتهلون ويطوفون بمقامه ويلتمسون البركات بالتمسح على عتباته وضريحه وعمامته الملفوفة فى أحد أركان المقام، والناس ذاهبة وآيبة، ويأخذهم الوجد والجذب فيطفئون أنوار الضريح ويظهر ظل على الحائط فيهتفون هتافات يرتج لها المكان:

 (شهدنا لك يا أبا العيس ...شهدنا لك يا أبا العيس ...مدد... مدد)

  البعض يذهب إلى هذه الموالد وفى قلبه زيغ وانحراف، ليمارس مجونه .. يختلى فى الأطراف المظلمة للساحة لممارسة الرذائل ولعب القمار .

 ارتفعت أصوات الباعة تروج لبضاعتها وتعلن عنها بزخرف الكلام .. والناس تقبل عليهم تشترى بركة سيدى أبى العيس، والأطفال يقبلون على اللعب مع الأراجيح والفرسان الخشبية .....

 ترى المجاذيب وفى أيديهم مواقد البخور يوزعون رائحتها الناس مقابل نقود تلقى لهم ...البعض يمنحهم والبعض الآخر يولى شطره عنهم ...

 تعالت صرخات المداح وهو يتضرع بالمدد الإلهى:

يحشر العاشقون تحت لوائى     وجميع الملاح تحت لواك

لك قرب منى ببعدك عنى      وحنو وجدته فى جفاك

وكلما تعالت ضراعات المداح، كلما حث الشيخ رمضان أبى عامر أهل الحضرة بالرقص والوجد وإتيان غرائب الأشياء ...

أتى على قوم يدخنون الشيشة وبجوارهم "راكية نار"، وقال له أحدهم:

- هل النار يا شيخ رمضان لا تأكل ولى؟

- نعم ..وهل فى هذا شك؟ وسأبرهن لكم على صدق كلامى.

والتقط الشيخ قطعة من النار والتقمها فمه..فأحدث صرخة أهتز لها المكان..والتف حوله الناس وهو مستلقى على الأرض كأنه سقط من أعلى الأدوار وهو يتقلب وتتوالى صراخاته ..واخترق الصفوف رفيق دربه "صفوت الزين"، الذى أخذ يفرق تلك الجموع، ليتيح الفرصة للشيخ رمضان كى يتنفس وأخذ يهوى على فمه بطرف ثيابه وآخذ الشيخ رمضان يصرخ:

"آه ..فمى ..النار ترعى فمى ..أغيثونى يا آل المدد ..يا آل البيت ..يا سيدى أبا العيس ..ارحمونى يا ناس".

 وعلت الدهشة وجوه القوم وهم غير مصدقين ...الشيخ رمضان الذى يتحدث عن الكرامات والأمور الخارقة للعادة والنار التى لا تأكل ولى .. وبعضهم قال:

- أكيد ليس بولى ولا يحزنون. وقال آخر:

- الله !! لماذا يصدع روؤسنا بالثرثرة؟ شىء محير!!!والله فى خلقه شئون.

مازال الشيخ رمضان يصرخ كالأطفال، وأحضر له الشيخ صفوت الزين حماره وذهب به إلى المستوصف الطبى الذى يقبع غرب البلدة، والناس أمام منازلهم تستطلع وتتساءل:

- ماذا حدث للشيخ رمضان؟

لقد اكل النار فى مولد سيدى أبى العيس.