عاشت عيوش

محمد الخليلي

[email protected]

كانت الترتيبات تجري على قدم وساق.. قسَّموا أنفسهم فرقاء ليوزعوا المسؤوليات نهباً للوقت بدل أن يسترقهم فيداهمهم يوم السبت ، وما أدراك ما يوم السبت ؟ عرس ياسر النجل الأكبر . طبيعي أن يحصل ارتباك لدى كل فرد منهم فهذا أول اختبار لهم في هكذا مناسبة . صحيح أنهم شاركوا في الإعداد لأعراس أقرباء لهم ولكنها كانت تجارب جزئية فلم توكل لهم مهمات رئيسة .

حُجزت الصالة الفخمة واتُفق على نوعية الضيافة التي ستقدم وفرقة المدائح النبوية التي ستصدح بحناجرها لتلهب جو الصالة غير المكيفة في شهر كانون أول . ربما كان ذلك المثلب الوحيد في الصالة ، ولكن يمكنهم تدارك الوضع بالرقص الذي سيشعل أوار الفرحة وتلتهب الأكف بالتصفيق لتلتحم مع المغنين في جوقة مموسقة تبدل البرد دفئاً وذكرياتٍ ستُطبع في ذاكرة الزمن وعلى جدر الأيام .

مساءً في البيت كان فريق يعد أسماء المدعوين وآخر ينسق النص الذي سيطبع على بطاقات  الدعوة . كل شيىء كان يسري على ما يرام ، حتى إذا ما ذكر أحدهم أن اسم العروس سوف يذكر على البطاقات افترقوا على رأيين ، ففريق لايرى في اسم المرأة عورة ، وآخر يعتبر ذلك من أشنع الرذائل .

قال العريس : والله والله إذا بتحطو اسم سحر على الكرت ببطل الحفل كلو .

رد عليه الوالد : على رِسلك يابني ودعِ الأمر مداولةً .

الأم : مش أنتو يوم عرسنا ماحطيتو اسمي ؟ طيب هادي متل أختها.

تدخلت الأخت قائلة : الزمان تغيَّر ياأمي .

فقاطهعا العريس وقد انتفخت أوداجه : شو فهَّمك أنت يللي لسه مافقست من البيضة ؟ انضبي وروحي على دراستك ياطالبة التوجيهي ، قال توجيهي قال ، والله هاد توجيعي ، لو كنت أباك لأوقفت الدراسة من سن 15 للبنات ، البنات لازم ينضبوا ببيت الزوجية يافالحة  ههه .

كان الأب الملتحي ينظر يمنة ثم يسرة وهم يتمارون بحدة وغير ما موضوعية ، وحالما آنس منهم هدوء دخل على خط المواجهة ليبرد الأجواء الساخنة ويفك الاشتباك بين القوات وببسمته العريضة قال:

أبنائي الأعزاء يا أحيباب قلبي ما على هذه الشاكلة ربيتكم .. لا وربي ، ولمَ أنتم محتدون يكاد بعضكم يقضم أذن الآخر ؟ الموضوع لايتعلق بزمان أو مكان وإنما نعرضه على ديننا الحنيف فإن  وجدنا مايسوغ رأي السماح أو غيره أخذنا بالذي تطمئن له قلوبنا ؛ فديننا الحنيف لم يترك شاردة أو واردة إلا وقد أتى عليها فنظمها وقعَّد لها  ، وأجدادنا قد أشبعوا كل هذه الأمور درساً وتمحيصا .

كان العريس يرفع حاجبيه ويخفضهما إشارة منه بعدم القبول للرأي الآخر ، ويهمهم بتمتمات تشي بازدراء أفكار والده الدينية القديمة ولما استطرد الوالد في الحديث نفد صبره فصاح بأعلى صوته : خلصونا عاد .. كل شغلة بتعملونا فيها دين .. يلعن ... ولم يدعه الوالد يكمل كلمة الكفر بل كمَّ فاه بكفه الناعمة الرقيقة التي لم تمتد يوما لتضرب ولدا  ، وإنما يعتمد النصح والمحاورة سبيلا للإقناع .

ولكن ياسر كان كثيرا ما يتمادى ويدفعه تحصيله الجامعي للتطاول على والده وغمزه وهمزه أحيانا لأنه لم يحصل غير العلم الشرعي من المشايخ وليس في الجامعات .

استشاطت الأم غضباً عندما وصلت الحال لهذا الحد من المراء الحاد وأومأت بسبابتها اليمنى لنجلها أن إياك أن ترفع صوتك في حضرة أبيك وأشارت للجميع أن انصرفوا للنوم فقد تجاوزت الساعة العاشرة ليلا .

في غرفة النوم رطبت الأم خاطر الوالد المكلوم قائلة يا أبا ياسر كل الشباب اليوم هكذا ينفجرون كالبارود فاصفح عنه ولانريد أن ندمر كل مابنيناه لهذا اليوم السعيد إذ لم يبق إلا أيام معدودات وغداً يجب أن تطبع البطاقات وتوزع ، وقد يكون رأيك الأصوب ولكن الوعاء الكبير يسع الأوعية الأصغر منه . طبع على جبينها قبلة الرضا بما قسمت واستسلم لقرارها الحكيم .

في الصباح الباكر كانت الأخت بُعيد صلاة الفجر تنتظر أن يسلم أبوها لتضع شفتيها في أذن أمها لتستفسر عن نتيجة الأمس فأومأ لها الأب أن سبِّحي أولاً .. أنهتها بسرعة البرق وعاوت دس فمها في صيوان أذن الأم فأخبرتها فتلون وجهها بألوان طيف قوس قزح وصاحت فما عادت تطيق كتمانا : يعني لازم كل شي تسلكولو ياه حتى لو كان خطأ ، والله بكرة ليصير هو ومرتو حلف ضدكم ... سحر خانم ... سمع الأخ اسم خطيبته فخرج من الحمام قبل أن ينهي الوضوء وطار إلى غرفة الجلوس مرعدا مزبدا وانقض كالصقر على أخته يريد أن ينالها بسوء فحالت دونهما الأم بصدرها... وهو يردد سحر خانم هاه ؟!

مرت الأيام سريعة كومض البرق فالكل يترقب الليلة السعيدة ، وجاءت السيارة التي ستقل العروسين للصالة فأمر ياسر بوضع الستائر على كل نوافذ السيارة خلا الأمامي منه حتى لايرى أحد إظفرا من عروسه وأمر بسيارتين أن تتقدماه وأخريين تتأخرا عن سيارتهما ليشكلوا بمجموعهم حماية  من أية سيارة أن تدخل في وسط الحفل خيفة أن يختلس أحد ما نظرة لسحر فلربما نشب عن ذلك حرب داحس والغبراء .

مضى الموكب مهيبا يشق شوارع عمان البديعة وانطلق زوامير سيارات الموكب تصم الآذان بجرسها الصخب المزعج ، ومشى الركب لايبالون بمن وراءهم من سيارات  فصار خلفهم قطار طويل من المركبات واختلطت أصوات الزمامير مع الشتائم التي كانت تنبعث من نوافذ السيارات المحجوزة وراءهم كيدا . ياسر لايبالي بهم جميعا ونفسه تحدثه علام كل هذا الصخب ؟ أليس العرس ساعة من ليل ومرة في عمر ؟ لماذا لايشاركني الناس سعدي ؟ المفروض أن يهنأ الناس كل الناس لا أن يسخطوا ، وبدأ سيل التساؤلات يصطرع في مخيلته مثلما شلال الأسئلة التي يطرحها فيصل القاسم في برنامج الاتجاه المعاكس .

من بعيد لمح ضوء سيارة الإسعاف فطنش ولم يعرها بالاً ، ولما لم يروا منه اكتراثا أطلقوا صافرة الوي وي فاستشاط غضبا كمن اغتصبت أرضه وعرضه معاً فطنش أكثر وكأن في أذنيه وقراً وأقسم إلا أن يمر ركبه وئيداً ، ثم طرق مسمعه صوت الضابط في سيارة الدفاع المدني وهو يصرخ : سيارة مرسيدي 200 بيضا روح عاليمين ، فركَّب أذناً من طين وأخرى من عجين وطنش للمرة الثالثة ، وعندما تفاقم الأمر صرخ الضابط بالمايكرفون :

 شو أنت أطرش؟ فأخرج ياسر رأسه وصرخ بكل ماأوتي من قوة : لأ مو أطرش بس عريس وهي ليلة دخلتي وشو يعني اللي معكم بدو يموت بهالدقيقتين؟! فصاح به الضابط صف علاليمين وإلا ، عندها همَّ العريس بالترجل ليلقن الضابط درسا في التفاضل والتكامل بأنه صاحب الأحقية بمنع سيل السيارات من الانسراب وأن الناس جميع الناس يجب عليهم أن يصابروا ويرابطوا وراءه تضامنا مع فرحه  ، ولكن سحر تدخلت في اللحظة الحاسمة وجبذته إليها قائلة : حاج فضايح سودت عرسنا الأبيض بسواد تناحتك يازلمة خلي الاسعاف يعدي وبلا هبل!! . نظر العريس إليها شزراً وحدثته نفسه بالانتقام لرجولته لولا أن رأى برهان ربه فقد كانت سيارة والده صارت بمحاذاته ونادته أمه يابني لاتركب عقلك فانصاع على الفور فأوامر أم ياسر لايكسرها أحد .

على باب الصالة لم يدخل ياسر إلا بعد أن أحاطت حرامات حول العروس كإحاطة السوار بالمعصم صوناً لها من أعين وألسن الناس فهي ولو لم تك غادة أترابها لكن مجرد اسمها سحر يجعل الشباب يهفو إليها ...... هكذا كان ياسر يحدث والدته طوال فترة الخطوبة فتنغض رأسها فكان ياسر يفسرها موافقةً ...وأخته معارضةً .

سار كل شيء على مايرام تماما كما رسم له حتى إذا ما جاء موعد إلقاء قصيدة للعروسين نزل العريس من على أكتاف الراقصين واندفع يشق الصفوف إلى الشاعر الذي أمسك بالورقة يهم بالقراءة وبسرعة البرق اختطفها من يده وانتزع منه مكبر الصوت وقال ممنوع تلقي القصيدة . هههه

هاج الحفل وماج وشطر الناس فريقين : قوم وقفوا انتصارا للعريس لأن القصيدة تضمنت اسم العروس وأن هذا معيب بحق الرجولة والشهامة العربيتين ، والشطر الآخر لم ير في ذلك أية منقصة للمرأة في ذكر اسمها سيما وأن حفل عقد القران في حقيقته إنما هو لإشهار النكاح على الملأ ليعرف الناس أن فلانة أصبحت زوج فلان . رجع العريس واعتلى الأكتاف ثانية ليراه جمع المدعوين وخطب فيهم : طز في كل واحد عندو رأي تاني ..  والله والله إذا بتذكر اسم مرتي لأخرب العرس ، فقال له أبوه وكان على أكتاف الذين يقابلونه : طيب ياحبيبي ياسر مو مشكلة بس عيب تقول لضيوفك طز ...

طلب كل فريق أن يعين الفريق الآخر مندوبا عنه للتفاوض على حل للمشكلة التي أربكت جو الحفل ووسمته بالنوَرَية . جرت المفاوضات وامتدت لأكثر من ربع ساعة وكانت  النتيجة حلا وسطاً بتغيير اسم العروس الحقيقي ليصبح عيوش .......

وانطلقت الموسيقى تصدح مع حناجر العنادل المغنين ترافق الشاعر في قصيدته التي كسر وزنها وقافيتها عندما تم تحويل الاسم من سحر لعيوش ، وصرخ جميع من في الحفل قاطبة عاشت عيوش ..........