بين نارين

بين نارين

محمد أبو خليل

لا يدري كيف حصل ذلك، يتذكر يوم نادته...كان يهم أن يقيل كعادته، خصوصا بعد أسبوع من العمل المضني... ففي مثل هذا الوقت يسود سكون تام، إلا من الزواحف التي تخرج من جحورها لتصطاد ضحاياها... لبى النداء وهو يأمل أن يجد كأس شاي يخفف عنه حر الهاجرة... حين دلف عتبة البيت، لاحظ غياب الصديقة... توالت عليه الهواجس...طفت في خلده الآية القرآنية: " ثاني اثنين إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا "... ما عساه يقول إن ثالثهما هو... كانت ترفل في الأبيض والأسود... قميص ناصع البياض تتخلله خطوط زرقاء، يُظهر تضاريسها بدقة متناهية، يتدلى منه نهدان مكتنزان في حجم رمانتين في غياب حمالة الصدر... سروال أسود فضفاض يحجب الرؤية... شكلت من شعرها القمحي ضفيرتين، بينما سحنة وجها لا تظهر عليها علامة التطرية ( الماكياج ). كانت منهمكة في ترتيب ملابسها الخارجية حتى الداخلية منها، والتي لفتت نظره بشكل خاص... وطفقت في سرد بعضا من فصول سيرتها... كان ينصت بإمعان إلى حديثها الشجي، ويتابع حركاتها ومن حين لأخر كان يختلس نظرات ليست بالقصيرة إلى طبوغرافيا جسمها... كانت طالبة في مدرجات جامعة محمد بن عبد الله بفاس، وهناك وُئِد حبها واغتيل ووري جثمانه. لم تعد تؤمن بالحب ولا مجال للعشق بعد أن ذاقت مرارته، خيب آمالها وحطم أحلامها من كانت تخاله حبيب العمر ورفيق درب حياتها، وتركها مهيضة الجناحين، لذلك نصحته أن يذع الحب الذي لا يجني منه الحبيب سوى الأسى والأتراح. وفي هذه اللحظة أرته صورة بعلها واصفة إياه ب... أعزكم الله، فأدرك حجم تدمرها من حياتها الزوجية، وأن الأمور الأسرية على غير ما يرام. دامت خلوتهما أزيد من ثلاث ساعات، كأنهما بحران منعهما البرزخ من الالتقاء. ثمة أسئلة طافت في خلده: لِمَ لم يتحرك قمقمه ويشعل نار الغواية والفتنة؟ أمرد ذلك إلى الخوف أم إلى الوفاء والإخلاص؟ أما عفريتها فلا يدري ما الذي أخرصه وكبل جموحه وشل رغبته... هل تعاهدت شياطينهما على عدم ارتكاب الخطيئة في واضحة النهار وهما لازالا في ريعان الشباب؟ كانت جريئة حين روت له تفاصيل ليلة دخلتها، وكيف ارتمت في أحضان الزوج بعد طول الانتظار، إلى درجة نعتها بامرأة لعوب، ناسيا أو متناسيا أنها ليست ملاكا. لم ولن ينسى بعض الوقائع... تناهى إلى سمعه دقات على باب حجرة العمل، ولما فتحه وجد امرأة منتصبة أمامه ملتحفة في إزار، سألته عن ابنها، لكن خانتها ضحكتها فأزاحته عن وجهها وبدت أساريرها، واسترسلت في الضحك حتى بانت نواجذها..،أسرت له أنها ملتفة بهذا الإزار لكونها استفاقت للتو من قيلولتها، وهي لا ترتدي سوى...وذات ليلة تحت ضوء الشموع في جلسة رومانسية حضرها الجميع، شغلت المسجلة التي كانت المتنفس الوحيد لهم في تلك الفيافي، وقامت ترقص في غنج ودلال، على أنغام رائعة أم كلثوم ألف ليلة وليلة، رقصا تضاهي به كبرى راقصات الشرق...طاوعها جسدها وجعلته يتمايل يمنة ويسرة، ويشرئب ويتقاصر حسب إيقاع الموسيقى، كانت تضبط إيقاع جسدها أفضل بكثير من إيقاع الموسيقي. كانت تبدو كنحلة تنتقل في خفة من زهرة إلى زهرة، وتطوف عليهم في بشاشة مائلة على الطاولة بممتلكاتها الخاصة. دعته الصديقة ليشاركهما في هذا الحفل البهيج، وهو الذي يجهل أبجديات الرقص، فقد تتحرك الصخرة من تلقاء نفسها ولا يترك هو من مكانه، وعلى غفلة منه وكزته بأردافها... وفي هذه الأثناء دبت نار الغيرة إلى قلب صديقه فقام لينضم إلى الشلة، بيد أن الراقصتين إن سحبتا من الحلبة، مما أغاظه ورفع عقيرته مزمجرا وغاضبا، رأى في سلوكهما هذا نوعا من التنقيص من شخصيته، إلى درجة نعت نفسه باليهودي...بينما يبقى حلمها لغزا مبهما، والذي كاد يعصف بعلاقة الصديقتين، ومع ذلك وعدته أنها ستنبئه يوم تغادر المكان بصفة نهائية...

 حين مالت الشمس إلى المغيب وهي تلملم خيوطها، سمعا دقات على الباب، إنها الصديقة رجعت من فسحتها. لم تفتح الباب في الحين بل تلكأت بعض الدقائق، الباب قصد إيهام صديقتها بقرب نجاح المهمة... آنذاك تساءل إن كان ثمة تواطؤ ما بين النسوة من أجل اختبار ذكورته ورجولته. فقد سبق للصديقة أن راودته غير ما مرة، وفي واضحة النهار بل أخبرته أنها متيمة بحبه وشغوفة به، وكانت صادقة في كلامها. لكنه لم يجاريها في رغبتها حفاظا على الملح والأخوة التي تربطه بصديقه الذي أفضى إليه أنه يريدها...