شيء لا يذهب

أماني راضي

القطار اللاهث يسير في الطريق الجميل الى طهران .. قال لنا مفتش القطار قبل ان نغادر عبدان ان علينا أن نحرس انفسنا ، فالطريق طويل ، واللصوص ينتهزون فرصة حلول اليل .. كي يمارسوا طريقتهم الخاصة في الحياة ..

قررت أن لا انام .. فثمة كتاب ملون أستطيع أن أقرأه في الليل .. كتاب الفه إنسان كان يحس أكثر من اللازم .. ويفهم أكثر من اللازم... ومقصورتي في القطار متواضعة .. ايرانية جميلة تجلس في المقعد المقابل تفحصني كي تستكشف بي اللص ، لم تطمئن إلي بعد.. وعجوز، قد يكون أباها ، سقط في النوم قبل أن يخفق القطار بالرحلة الطويلة .. وصديق هادىء يجلس إلى جانبي يستعرض الطريق .. أحسن مافي هذا الصديق أنه لا يثرثر ، وإذا تكلم .. بالغة العربية ..

أحسن طريقة كي أحرس نفسي ومن معي ، كما أوصانا المفتش السمين الذي يعرف سبع كلمات عربية ، أن لا أنام .. لقد أبدى المفتش السمين قلقه علي .. فأنا نحيل ذو وجه أصفر قد لا أستطيع أن أسهر .. ولكنني قلت له إنني أستطيع .. ولم أفهم نكتته الايرانية التي ضحك لها طويلا وهو يغمز مشيرا الى الحسناء .. بينما أحمر وجه الاخيرة .. وصعدت القاطرة مع والدها العجوز ..

قال لي صديقي ان وجه الأيرانية لا يعجبني بتاتا .. وأنها تشبه الدكتور مصدق..الذي لو كان أمرأة لما كان بديعا قط… وهكذا أعتقد صديقي أنه إذا سنح له الحديث مع الحسناء فسيكون سيد الفرصة بلا غريم … بعد أن أطمأن إلى انه أقنعني بملاحظته ..

كنت في الحقيقة لا أرغب في الكلام ..كان الكتاب بديعاً ..طباعته انيقة ، وصوره فذة .. وكلماته ليست سوى غطاء بئر سحيق ، إذا ما تمكنت من رفعه ، فسوف لن ترى القاع البعيد مطلقا ..

كان الكتاب يحمل اسم عمر الخيام …
وقيمته بالنسبة لي غالية جداً هي أنها مدة إلى رباعية بالقلم الرصاص ..
وضعتها الفتاة التي أحببتها .. الرباعية تقول:
“أه ايها الحب … لو أستطيع أنا وأنت أن نتفق مع القدر .. كي ندمر هذا الطابع الوحيد للعالم ..
إلى قطع صغيرة صغيرة ..
ثم نعيد بناءه من جديد .. كما تشتهي قلوبناً"..

فتحت على تلك الصفحة دون ان أشعر … فرائحة الطريق الطويل بدت مثيرة …كانت الدائرة المرسومة حول الرباعية بالقلم الرصاص تكاد ان تختفي . لقد مرت سنوات ثمان على اليوم الذي رسمت فيه هذه الدائرة .. ورغم ذلك فأنا لن أنساها مطلقاً ..

لا اريد ان انام في القاطرة .. لا ..لأحرس نفسي … بل لأستعيد اللحظات الضبابية لما حدث قبل ثمان سنوات ..لقد بدأت العتمة تهبط .. وبدا لوهلة ان صوت العجلات المنتظمة .. موسيقى غريبة تدفع بهذا الرأس المرهق إلى الماضي ..

****

أطمأنت الأيرانية الحسناء اخيرا إلى أنني لست لصا ، أو لست خطيرا على الأقل .. فاستسلمت لإغفاءة قلقة .. وبقي صديقي يحدق في الطريق المعتم دون أن يكف عن التحديق في الحسن النائم أيضاً ..

كانت ليلى تطلب مني ألا أنظر إليها عندما تنام .. كانت تعتقد ان تقاطيع وجهها تكون صادقة عندما تفقد التحكم بها .. وهي لا تريد ان أعرف شعورها الحقيقي تجاهي .. تخاف أن أصبح مغرورا ..

لم يكن اسمها ليلى .. كنت ادعوها ليلى لانها كانت تدعوني (قيسا) ..

دارنا في حيفا لم تكن بعيدة عن دارها كثيراً .. خلف أول منعطف يقع على يمين دارنا ، ليس عليك سوى أن تعد أربعة أبواب ثم تصعد بناية بيضاء إلى الطابق الثالث ، فستجد بيت ليلى لا محالة .. إذا لم تكن هذه البناية قد تهدمت بعد قصف حيفا ، فلا شك ان ليلى ما زالت تسكن هناك ..

لقد خرجتُ من حيفا قبل ان تسقط في يد اليهود .. ولم أمسك بندقية في حياتي قط .. كان الشارع الطويل الذي ينصب فيه شارعنا هو ميداني الوحيد .. كنت مشهوراً في ذلك الشارع بانني احدى علاماته ، وكان شباب حينا يقولون: " إذا أردت ان ترى خيري ، ففتش على أجمل فتاة في الشارع تجده خلفها "...

قالت لي ليلى بعد أن تعرفت عليها جيدا: " انت رجل مائع ياخيري .. ولكنك لست هكذا في حقيقتك .. ولهذا أعتقد انني سأحبك..

كانت ليلى من نوع اخر ، ، ولكنني لم أكن أعرف ذلك في أيام تعارفنا .. كنت أعرف أنها تخفي شيئاً ما .. ولكنني لم أكن أعلم أن تلك الفتاة الناعمة .. كانت تقوم بعمليات نسف ، يعجز عن تصورها رجل متوسط الشجاعة . ولم تقل لي ذلك مطلقا إلا بعد الحادث المشؤوم الذي وقع..

 في الحقيقة أنني لم أكن أعرف من هو عمر الخيام ، وهي التي علمتني عنه أشياء كثيرة .. كنت أعجب بصور كتابه أكثر من أعجابي برباعيته التي كنت أعتقد انها هذيان إنسان مريض بنزلة صدرية حادة..

الحب العنيف ، الذي كانت تسميه دوامة تغوص في مستنقع ، لم يستطع ان ينسيها القضية بل كانت تتعذب في سبيل أن تفهمني أن حياتنا ليست شيئا .. وانها تبلغ ذروة قيمتها لو قدمت من اجل سعادة الاف غيرنا ..

وعندما فهمت أول رباعية من رباعيات الخيام ، قلت لليلى إن هذا الرجل أنسان انهزامي ..كنت سعيدا بهذا الإكتشاف ، وقلت في ذات نفسي يومها ان ليلى ستكون فخورة بي .. ولكنها لم تقم بما يدل على انها فخورة .. قالت لي وهي تشير إلي الكتاب: ” الإنسان الذي يحس أكثر من اللازم ، خير من الإنسان الذي لا يحس بالمره“...

هذا “الإنسان الذي لا يحس بالمره ” أستطعت أن أفهم مؤخراً انه انا … ولم أغضب يوم أكتشفت ذلك .. إذ كانت قصتي مع ليلى قد انتهت يومذاك ..

لكن ليلى تغيرت فيما بعد .. إذ انه في الوقت الذي كان يناضل فيه بعض الناس ، ويتفرج بعض اخر ، كان هنالك بعض أخير يقوم بدور الخائن ..

وبواسطة هذا النوع الاخير من الناس ، قبض اليهود على ليلى وهي تحاول القيام بعمل لم اتمكن من معرفته قط . وعادت بعد تسعة ايام كاملة .. ولم تستطع أن تحفظ حياتها إلا بعد مجموعة مراوغات لا أحد يدري كيف حدثت ..

اللحظة التي قابلتها فيها بعد عودتها من “الهادار" او "ذلك المكان” لم تزل راسخة في ذهني .. كنت اتوقع ان اراها تبكي ، أو ترتجف .. إذ كنت قد سمعت من أفواه كثيرة قصص الليالي الفظيعة التي امضتها في السجن .. ولكنني عندما رايتها كانت هادئة هدوء مخيفاً .. لم يعد في عينيها أي بريق .. فقط وجه حزين صامت .

قالت لي بصوت منخفض هادىء:
"لقد ضاجعوني طوال تسعة ايام ..
لم أستطع أن أقول شيئاً .. بل لقد خيل إلي أنها قالت ” لقد كنت اصلي طوال تسعة ايام ” ..
شعرت ان الكلمة التي يمكن أن أواسيها بها شىء حقير .. لا قرار لحقارتها أبداً ..
وأنتشلت الموقف بكلمة أخرى:
-يحسن بك أن تتركني .. انا امرأة مهترئة ..
***

كان القطار قد وصل إلى محطة تقع في ثلث الطريق .. وبدأ يئز أزيزاً مزعجا كي يقف ..صحت الإيرانية الحسناء وبدأت تتزين من جديد ، مازال العجوز نائما ، وصديقي يحدق بالطريق .. لقد مرت أمامي أشجار صغيرة .. ثم بدا رصيف المحطة مضاء بانوار باهتة ينسحب امام النافذة …

على الرصيف لمحت طفلاً في السابعة من عمره تقريباً ، كانت ملابسه ممزقة ، ولكنها نظيفة .. كان يعد القاطرات بأصبعة وهي تمر من أمامه ببطء . كان يعد بالغة العربية .. أشار صديقي إلى الطفل .. واصغينا سوية إلى صوته الدقيق :
سته ..سبعة.. ثمانية ..
هز صديقي رأسه وقال باقتضاب
:
-
عربستان …
وتأسف قليلا ، ثم هبط من القاطرة يبحث عن طعام .

الطفل الأسمر جميل الطلعة .. كان يبيع أشياء للتسلية ، ولكنه بدا أنه نسي وظيفته وهو يراقب القطار الطويل .. وكان يبدو منهكاً .. أستدعيته إلى نافذتي وسألته بالعربية :
 – ماذا تبيع ؟
قال وهو يتسلق النافذة:
 – نعم أنا عربي ايضا..
ماذا يشتغل والدك ؟
 – إنه يبيع الصحف . هناك ..

****

بدا القطار يخفق من جديد …الطعام الذي أحضره صديق لي ، اكلته الأيرانية ، لم اكن أرغب في الأكل .. كان الكتاب مازال مفتوحاً على الرباعية التي يلفها خط ،يكاد يختفي، بالقلم الرصاص.

 وقرأت الرباعية من جديد ، وبصوت عالي جعل الايرانية تتوقف على المضغ :
“اه أيها الحب ، لو استطيع انا وأنت ان نتفق مع القدر على تدمير هذا الطابع البائس الوحيد للعالم إلى قطع صغيرة صغيرة .. ثم نعيد بناءه من جديد كما تشتهي قلوبنا “…

لم اكن قد أستحق ليلى .. كانت أحسن مني بكثير ، كنت جباناً ، أخاف من الموت … ورفضتُ ان احمل سلاحا كي ادافع عن حيفا .. كنت في رأس النافورة عندما قالوا ان حيفا سقطت في يد اليهود ، ولا أدري لماذا تذكرت وقتذاك جملة قالتها ليلى قبل ان أغادر حيفا :
– انني لا استطيع أن أنس التسعة أيام القاسية .. ولكني اريد أن استمر في .. الدفاع عن حيفا.. انا أعرف أنني قدمت شيئاً أكثر من حياتي .. ولكنني أريد أن أقدم حياتي نفسها فهذا افضل .بأستطاعتك أن تغادر حيفا، أن تهرب من حيفا .. ولكنك سياتي يوم لا بد ان تصحو ..وتكتشف.. وتندم ..

ليلى حزينة ..البائسة .. بقيت في حيفا ورفضت ان تخرج منها .. وقالت لجيرانها عندما أتوا ليجبروها معهم أنها فقدت كل شىء ولا تريد أن تفقد ماضيها الجميل في حيفا الجميلة … تريد أن يبقى لها شىء لا يذهب..

لقد مضى زمن طويل على اليوم الذي خرجتُ فيه من حيفا .. وأشعر اليوم أنني لم أكن أستحق ليلى مطلقا .. بل لم أكن أستحق حيفا نفسها .. لماذا أهتمت هذه الأنسانة النبيلة بإنسان جبان مثلي ؟.. لماذا تلاحقني هذه الانسانة الرائعة طوال ثماني سنوات ؟ لماذا تلح على رأسي كما تلح صفارة القطار قبل أن يدور حول المنعطف ؟

 *****

أستيقظ العجوز من نومه الطويل .. وحدق بعيون ضيقة كأنها شقوق ارض جافة بانحاء القاطرة .. وأبتسم في وجهي ثم هتف بعربية مكسرة وهو يشير إلى الكتاب الملقى على ركبتي:
 - عمر الخيام ؟
هززت برأسي وتركته يلتقط الكتاب ويتفرج على صوره …

كان رفاقي يتهمونني دائما بأنني من عشاق الخيالات . وعندما قلت لهم وأنا في الكويت انني أريد ان أذهب لايران كي أضع باقة ورد على قبر الخيام .. ضحكوا جميعهم وقالوا:
 ” – إنه يريد أن يعيش تجربة عنيفة يوهم نفسه فيها انه يحب ..

شعرت بانني أنسان لا يعيش على أرضه ، وبدا لي في لحظة أن ماضيي شيء مخجل في الحقيقة .. ثماني سنوات أجتر ذكرى ليلى كأنها إنسانة صنعتها فقط لاذكرها .. تراها كانت موجودة حقا إنسانة اسمها ليلى ؟ أم أنني صنعتها ثم صدقتها ؟

فتح صديقي نافذه القاطرة .. فصفع وجهي هواء بارد ، وشعرت باللحظة نفسها ان ليلى لا يهمها مطلقاً أن أضع باقه ورد سخيفة على قبر عمر الخيام .. كي أوهم نفسي بانني ضحية حب عنيف…

لماذا أُصر على الاحتفاظ بكتاب الخيام ؟ إن أحدا لا يعرف الحقيقة .. تراني أريد من الكتاب ان يوهم الأخرين بأنني مازلت مرتبطاً بحيفا ؟

اعاد العجوز كتاب عمر الخيام شاكراً ، وحينما سقط الكتاب على ركبتي انفتحت صفحاته على الرباعية المحاطه بالخط الباهت لقلم رصاص قديم ..

” لم تستطع ليلى ان تغيرني .. شعرت هذا بوضوح الان .. أنسان لا فائدة منه. هذا كل شيء .. باقة ورد على ضريح أنسان ميت .. شيء يذهب ، لقد قالت لهم أنها تريد أن يبقى لها شيء لا يذهب …

أزت العجلات وهي تدور حول منعطف واسع ، وصفر القطار .. ثمة مقبرة في الافق ، وشواهد القبور البيضاء مغروسة في التراب كالقدر .. باردة ، قاسية ، ولا تذبل .. ترى هل يوجـد فوق قبرها رخامة ؟

دمشق 1958