أمام قصر البارودي

أبو الحسن الجمّال

أبو الحسن الجمّال

جاء الأمير الشاب إلى مصر فى أول زيارة له، وقد سمع عنها كثيراً، واستمتع بها وهو يتخيلها مع معالمها عند مطالعة أخبارها فى بطون الكتب، التى كان يلتهمها .. إنها حقا درة الأمم، وقلب العروبة النابض بالحيوية...وعند وصوله هاله منظرها ومدى ما وصلت إليه من تحضرٍ ورقى ومدنية، إلا أنها كانت تكسوها سحابة قاتمة تخيم على كل ضوء.

 وكان أول ما جال بخاطره هو الهروع لمقابلة الأستاذ الإمام محمد عبده، معلمه الذي كان يدرس له فى "المدرسة السلطانية" فى بيروت بعد أن أخفقت الثورة العرابية التى كان من أبطالها ورموزها وأصابه ما أصاب أبطالها من النفي والتشريد، فكان نصيبه بيروت التى عمل فيها بالتدريس وإذاعة العلم والوعي بين الناس، فسعى إليه فى بيته بضاحية عين شمس ذلك الحي الهادئ..الذي فضله الإمام مسكناً.

وتقابلا بالترحاب والعناق ورحب به الإمام، وشكر له الزيارة، وعرفّه على أصدقائه ومريديه أمثال: حافظ إبراهيم، ولطفي السيد، ومحمد رشيد رضا، وأحمد تيمور، وإبراهيم المويلحي، وعلى يوسف وغيرهم.

قال الأمير شكيب أرسلان: طالت وحشتك أيها الإمام، والله إن كلَ شبر فى بيروت ليعرف مكانتك وقيمتك الفكرية..وفى اليوم الذى فارقتنا فيه اهتزت لواعجى وسروري فى آن واحد، لواعجى لفراقك، وسروري للعفو عنك، ورجوعك إلى مصر.

 كانت مصر فى ذلك الوقت تعانى ذل الاحتلال البريطاني عقب إخفاق الثورة العرابية، ونفى زعمائها خارج الوطن، ساد شعور باللامبالاة على كل الناس، الشوارع حزينة .. والأماكن تبكى لفراق الأبطال .. وكانت بالأمس القريب شاهد عيان على الثورة ضد الطغيان، والمناداة بالنظام النيابي الديمقراطي، ولكن المؤامرات حيكت وحالت دون جنى ثمرة هذا النضال.

 لاحظ ذلك الأمير الشاب الذى جاء مصر ظانا أنه تنفس الصعداء، جاء من مكان يعدم فيه صفوة الأحرار بأيدي أحمد جمال باشا الذى استبد بالأمر، وأعمل القهر والجور فى بلاد الشام ...

 اغتم الأمير لهذه الظروف وصار لا يفارق الإمام فى ترحاله وتجواله بين قاعات الدرس والمنتديات الثقافية وفى الصالونات الأدبية، يتعرف إلى كبار الأدباء فى ذلك الوقت، ويطرب للمساجلات والمناقشات التى تفرز المُلح والنوادر وتأتى بالشوارد والأوابد، وأثرى ذلك من معارفه.

 وبينما هو يسير مع الإمام بعد أن أقبل الليل، وتمهلا الخطى، وتوقفا أمام قصر فخم رائع البنيان على الطراز العربي الأصيل، الزخارف تزين الجدران والمداخل، وحتى الأسوار والحدائق المحيطة بها، أصبحت كأنها فى الخريف .. كل شيء حزين وعندما نظر إليها الإمام ترقرقت عبرة فى مقلتيه .. لاحظ الأمير هذا التأثر على وجهه، وسأله عن صاحب هذا القصر:

- إنها سرايا محمود سامى (باشا) البارودي، كنا نلتقي فيها مع أبطال الثورة ..أردَ الله صاحبها من المنفى هناك .. من (سرنديب)، إن هذه الأحداث لتؤلمني عند تذكرها.

- دع عنك أيها الإمام، إن التاريخ ليدور دورته، وسيكتب تاريخ هؤلاء الأبطال بأحرف من نور، وسيذهب الخونة والمرجفون إلى مجاهل التاريخ ، فى ركنه الأسود..