المقامة الشيطانية

عبد الرحيم صادقي

[email protected]

حكى نبهان بن يقظان قال: جاءَني يزيد، يكذبُ ويزيد. كشيطانٍ مَريد، مُترصِّدٍ مُريد. ثم أخذ شيئا من عسَل، وقال ذقْ ولا تسَلْ! فرفعتُ الكُم، وقلتُ بِكَم؟ ولما هممتُ بأخْذِه، أبانَ عن أخْذِه. فضربَ على الكَف، وقال كُف! ثم وضعَه بِفيه؟ وقال ما رأيكَ فيه؟ قلت: ما ذقتُه وما نزلَ ببَطن، قال: من أيّ قومٍ ومِن أيّ بَطن؟ قلت: مِن هاشم، يا غاشم! قال: أراك لستَ بقَبيل، فمِن أيّ قَبيل؟ قلت: وما أدراك، يا درّاك؟ قال: تُعرَف العسلُ بلونٍ وجَمال، كما تُماز الخيلُ من الجِمال. وإني لأعرفُ جيّدَها ولو كان في المشْتَري، فتوكّلْ على اللهِ وكُنِ المشتَري! قلت: لا بيعَ في عَمى، أرأيتَ إن كان عَمى؟ فأخذ النَّحى وتنحّى. ثم أقبل يقول: ومَن يضمنُ لي أنْ لو أعجبَك تبتاع؟ فقلْ بِاسْمِ الله، أشتريهِ والله. فأدّيتُ اليَمين، وأكلتُ باليَمين. ثم كان ما وقَع، وإذا بالعسلِ كالوَقْع. وكأني ولجْتُ السَّم، أو سُقيتُ السَّم. فقلت: ما هذا، يا هذا؟

قال: لا أوقعَك اللهُ في شَرَك! وأعاذَك من الشِّرْك! و حيّاك الله وبَيّاك! ثم أما بَعد، فسِيّان قُربٌ وبُعد. وإني كنتُ من أتباع مَتّى، فقلتُ إلامَ ومتَى؟ فساق إليّ اللهُ مِن أهلِ العِلم، مَن هو أشهرُ من نارٍ على عَلَم. فكنتُ أجلسُ إليه إلى العِشاء، ثم أنصرفُ إلى العَشاء. ثم أنهضُ لأنام، كما يفعلُ الأنام. وبعد أن أصيبَ من الغَداء، أُعِدُّ ما طابَ من الغِذاء. ثم أجفِّفُ ما رَشَح من عَرَق، وأُرَبِّتُ على صُدْغٍ وعِرْق. ولقد تركتُ السُّوق، لمّا ذكرتُ السَّوْق. وأيّ عملٍ بعد النَّزْع؟ وهل يَنبُت شَعْرٌ بعد نَزَع؟ قلت: بَجَلْ! أين العسَل؟ قال: أجَلْ، أجَلْ! لكلّ شيءٍ أجَل. ثم إني حذَقتُ الشِّعْر، وحلَقتُ الشَّعْر. وليس يَضيرُني أَنْ كنتُ عَلاّمَة، له في الحَلْق سِيما وعلامَة. أليسَ قد قال العُمَران، قبل اتّساعِ العُمْران. قلت: ويلَك، مَهْ!

قال يزيد: فإذا لم تَبتعْ، ولم تسمعْ، فكُن كذِي بِرّ، وَجُدْ ببُرّ، فإن البَرّ إذا ركبَ البَرّ، لم يمسَسْهُ سُوء، وإنّ دائرةَ السّوْء، على البخيلِ ذي المَساك، يحبسُ الماءَ كالمَساك. وليستِ اليمينُ كاليسَار، واهاً لأهلِ اليَسار! ولا يفوتنَّك أني من بيتِ عزٍّ وكرَم، لا يخلو من رُمّان وكَرْم. فأبي شَريف، كجبلِ شُرَيف. نكحتُ من بيتِ عَزيز، وإنك لعَزيز. وكانت الخِطبة بعد الخُطبة. في يومِ جُمعة، بعد صلاةِ الجُمعة. ولقد وُلدتُ مَتمَّ العام، بعد قحطٍ عام. فكنتُ كالعَزاء، في السنة العَزَّاء. وكَثُر الدَّرّ، فللّهِ دَرُّ مَن أنفقَ الدُّرّ! وجزى اللهُ عني القابِلة، إذ أعدّتني لأيامٍ قابِلة. ولقد أهدَتني قُبلة، ووضعَتني إلى القِبلة. ثم شرعَتْ في الحمّام، والنّسوةُ يَحْشونَ الحَمَام. ودُهنْت بالزيتِ من أخْمَصيَّ إلى القُنّة، ثم أُحكِمَ القِماطُ بقِنّة. ويا لي مِن مُزَيْتيتٍ باسِمِ الثَّغْر! كأني أحرزتُ نصراً بثَغْر. ثم جاءت رُقَيّة، بحرْزٍ ورُقْية. تقي السّامَّة، ولا تمنعُ السامَّة. وتحفظُ من العَين، وإن كانت من عَيْن. وتُبطلُ السِّحْر، عند السَّحَر. وبعد نَفَس، طعِمتُ ما نَفَس. وحَلّت البَركة، وعمرَت البِركة. وجرَت العُيون، وأضاءتِ العُيون. وأزْهرَ النَّوْر، وعمَّ النُّور. وشاع الذَّر، حتى ادَّخرَ الذَّر. وابيَضَّ السَّواد، وكثُرَ السَّواد. وكنتَ ترى الحُبّ، يُغْني عن الحَبّ. فكان عامَ اليُمن، وهلَّلَ أهلُ اليَمَن. ألا تعجبُ أني ميمون، ولستُ بميمون؟ فأنا يزيد، ولا أزيد. ولقد كفَلتْني أمّي، وأبي أُمّي. لم يقرأ ولم يكتُب، يصنعُ القِرْبةَ ويكتُب. وما أخذَ عن قُطرُب، وما هو بقُطرُب. فكانت نِعمَ المُعين، كماءٍ مَعين. وذات صيفٍ وأنا أسير، لقيتُ فارسا معه أسير. قد أصابه المنّ، فقلتُ أفدِيهِ ولا مَنّ. فسألت الفارس: أتطلقُه بفَدى، وأزيدُك فَدَا؟ قال: نَعم، قلت: نِعم! ثم إنّ الفارسَ توجَّه تلقاءَ فارس. بعد أن أهدانيَ الفَرس الذي ابتاعَه من الفُرس. فامتطيْتُ الصَّهوة، أطلبُ الصَّهوة. وإني لذُو جَدّ، إذْ نِلتُه بلا جِدّ. وحُقّ لهذا الأصيل، أن يبلُغَ قبل الأصيل. وبينا أنا في عَجَلة، أحملُ عِجْلة. أمشي بلا عِوج أو مَيل، وقد قطعتُ نصفَ مِيل. قلت: صَهْ، صَهْ! هلّا قصيرةٌ من طويلة! اختصرْ يا ابنَ قَصَرَة! أو أضربنَّ القَصَرَة.

قال: جفّ البَرْد، وغادرَ البَرْد، وحلّ البَرْد، فجُدْ بِبُرْد، قبل أن نُرْمى ببَرَد، فإن عليك حقا قد بَرَد، فرُبَّ حيٍّ أمْسى وقد بَرَد. ولم يجدِ الرَّوْح، بعد أن رَقيَت الرُّوح. أكرِمْ يا بَشَر! لا أُصِبتَ بِشَر! ولاتكنْ كالجراد إذا بَشَر، وأنتَ سعْدٌ وبِشْر! جعلَ اللهُ أمرَك سَهْلا! إذا نزلتَ حَزْنا أو سَهْلا. ووقى دارَك السَّهْل! فلا يَطمعُ في وجهِك السَّهْل. فإن الغرابَ يقتفي الجِيَف، ومَن حَرَم جُيِّف. ورُزقْتَ الفَجَر، حين الفَجْر! وغنِمتَ الظَّهْر، ومَنحْتَ عن ظَهْر، وحفَّك أقرانُ الظَّهْر، وأنت على ظَهْر، ووُقيتَ قاصِمةَ الظَّهْر، ساعةَ الظُّهْر! وأبدَ الدَّهْر، وأُعطِيتَ الدَّهْر، وبَلغتَ الدَّهْر، وعُلُوَّ الدَّهْر! ولا أصابَك الحُزْن، ولا وَطِئتَ الحَزْن! فأعْطِ تنلِ البَوْص، وتُحمَدْ على بَوْص! ولا تكنْ كمن أدّى البَيْعة، وقصدَ البِيعَة! أنفِقْ وقاكَ اللهُ الغِرَّة، وجعلَك في قومِك غُرَّة! ونِلتَ من العيشِ غَريرا، وكنتَ للَّطيمِ غَريرا! ثم إني عتقتُ رقيقا بأرضٍ رِقّ، وكتبتُ له في الرَّقّ، امْضِ لوجهِ الله، واحْمدِ الله! قلت: أنت تعتقُ وفي مالك رَقَق، وفي بَدَنك رَقَق؟ قال: فدُونَك القِصّة! كانت لي قُصَّة. قلت: حسبُك، حسبُك! قبّح اللهُ أُمّاً زكَأتْ بك! ثم نَقدْتُه، ونَقدْتُه. فمضى وهو يتحسّسُ أرنبتَه ويقول: لو ذاتُ سِوارٍ لطمَتني، قبَّحَ اللهُ أيّاما خذلَتْني!

قال نبهان بن يقظان: فوالله أذهلَتني فصاحتُه، وأعجبَتني براعتُه. ولولا ذلك ما نَقدْتُه. ولَكُنتُ كلَمْتُه، وما كلَّمْتُه. ولولا خشيةُ أن يمتطيَ مطيّة الإسهاب، ويركبَ مركبَ الإطناب، لاستَزدْتُه وما نَهَرتُه. لكنّ العلمَ كثير، والعُمرَ قصير. ويزيدُ كَلْماني، وأيّ كَلماني!