قابيل عصري

همس في أذن أخيه، بعد أن تلفّت يمنة ويسرةً، فلم يجد أحداً في البيت يمكن أن يسمع همسه:

ـ غداً ستكون مظاهرة كبيرة وأريدك أن تهتف ضد النظام، وتدعو إلى إسقاطه، وإلى قيام نظام إسلاميّ مكانه .

نظر يوسف إلى أخيه في دهشة، فهو لم يعهد فيه مثل هذه الحماسة للإسلام، على الرغم من اللحية التي اختلط بياضها بسوادها، وعلى الرغم من اللسان الذرب الذي اعتاد على الوشوشة بكلام معسول حول الإسلام والأخلاق و الوطنية ، لأنه يعرف أن أخاه هذا يسوق هذه المبادئ  في حضرة المغفلين من أبناء مدينته التي اشتهرت بمدينة الأذكياء والشياطين معاً.

فالشاب الصالح يوسف قد شهد أخاه قدوراً ـ وهو اسم الدلع له منذ كان صغيراً ـ

أقول : شهد يوسف أخاه قدوراً وهو يهمس أكثر من مرة بصوت كالفحيح لأحد شركائه، لخيانة شركائهما الآخرين، وكان قد رآه مراراً  يؤلب أمه على زوجة أخيه الكبير، وعلى أخته الصغرى، بل بلغت به التفاهة أن يبتز أخته العانس بعض مالها، ويكتب هو لها الحجاب تلو الحجاب الذي سيفرج كربتها، ويأتيها بابن الحلال، زاعماً أن الولي الفلاني هو الذي يكتب لها تلك الحجب، وكل حجاب بثمنه كان يسرق أخته العانس هذه، ويسرق أباه وأمه وما تصل إليه يده من تحفيّات البيت ، وما يتساقط من نقود الأطفال، ناهيك عن أموال الشركة التي تسلم إدارتها، وأبدى كفاءة منقطعة النظير في السير بها إلى حافة الإفلاس، وهو يسوغ الخسائر وتدني الأرباح بكساد السوق، والمضاربات الوهميّة ، والمنافسات وسواها

لاحظ قدور سهوم أخيه يوسف، فهزه من كتفه وقال له :

ـ أين وصلنا؟

ـ إلى المضاربات والمنافسات.

قال قدور في تكشيرة اعتاد أن يجعل منها ابتسامة تسبق أي أحبولة يغزل خيوطها بكلمات يلقيها على لسانه إبليس:

ـ أريدك أن تكون أول المضربين، وأشد المنافسين لأولئك الذين يزعمون أنهم وطنيون مخلصون، وهم في الحقيقة، كسائر الناس في الكيد والخبث والمكر... وحذار أن يغرك تشدقهم بالكلمات الكبيرة، فأنا ـ مثلاً ـ أستطيع أن أملأ فمي بكلمات أكبر من كلماتهم ليس المهم الكلمات، المهم الفعل وأنت مجاهد مخلص، وأنا أخوك، والنظام آيل إلى السقوط، ولا ينبغي لغيرنا أن يسبقنا إلى القفز على المناصب والمغانم التي خسرنا الكثير منها بسبب هذه اللحية الشمطاء

وأمسك شعرات منها بأصبعيه، واقتلعها من جذورها، وطرحها أرضاً، ويوسف مازال في سهومه وذهوله.

قال يوسف :

ـ ولكن النظام سيدافع عن نفسه بشتّى الوسائل، وأقسى الأساليب، ولا أستبعد أن يواجه المتظاهرين برصاص رشاشاته، وقذائف مدفعيته ودباباته، كما فعل قبل عشر سنوات.

قال قدور في عنفوان:

ـ أحسن ... إذا أطلق مدفعيته ورصاص رشاشاته على المتظاهرين، فسوف يحفر قبره بأظافره.

قال يوسف:

ـ ولكنه سيقتل العشرات وربما المئات كما فعل من قبل.

قال قدور :

ـ أحسن ويا ليته يقتل المئات، بل الآلاف ... عندئذ يثور الشعب في سائر المدن، وينتهي النظام، وتحلون محله.

*          *         *

في اليوم التالي انطلقت مظاهرة كبرى، وراحت تجوب شوارع المدينة الكبيرة، هاتفة بسقوط النظام العميل، وكان يوسف في طليعة المتظاهرين، وكان أخوه قدور إلى جانبه، يتعالى صياحه فوق سائر الأصوات الهاتفة. كان يهتف حيناً، وحيناً يشجع أخاه يوسف بقوله:

ـ لا يجوز أن تنفض هذه المظاهرة، قبل أن تثور بقية المدن والبلدات... يجب إسقاط النظام الفاسد بأي ثمن ...

 ثم وضع رأسه بين رجلي أخيه، وحمل يوسف على كتفيه العريضين، وارتفع به فوق هامته المديدة، وحثه على الهتاف، وانطلق هو يلفت أنظار الناس إليه ، خاصة إخوان أخيه، وكان يصرخ بأخيه :

ـ اهتف بأعلى صوتك... بكل ما أوتيت من قوة ... ناد إخوانك ليلتفوا حولك ... ليرددوا هتافك ... فاليوم يومك يا يوسف ...

وفيما كان قدور يصرخ بأخيه، انطلقت الأعيرة النارية من الدبابات والمصفحات والسيارات العسكرية التي كانت تشكل سداً نارياً في وجوه المتظاهرين لإرهابهم وتفريق جموعهم، وتمزيق صفوفهم التي بدت كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً... وبحركة بهلوانية، قذف قدور أخاه يوسف من على كتفيه، وهو يصيح به :

-  اليوم يومك يا يوسف ... تقدم يا يوسف ولا تخف ... ليعرف كلّ الناس أنك البطل المقدام ... إلى الأمام يا يوسف ... إلى الأمام...

كان قدور يدفع أخاه إلى الأمام لاستقبال الرصاص الغادر بصدره، فيما كان هو يتراجع، ثم دلف إلى أحد متاجر مواد البناء ليبرم صفقةً مع أحد أزلام النظام من التجار، وفي هذه اللحظات كانت تنساب سحابة من عبير، فوق يوسف الذي انبثق من رأسه وصدره ينبوعان يتضوعان بأشذاء الشهادة، ولكنهما لم يتمكنا من الهيمنة على نتن قابيل، وتطلعاته الطينية.

*        *        *

وسوم: العدد 795