من أشعل النار؟

نصطف، يتلو الرقيب الأسماء، تحاذي الحافلة المُتهالكة الباب، يتمم الرقيب علينا، نصعد الأتوبيس، تُشيِّعنا الشتائم، انحشرنا ، روائح العرق تَزْكُم الأنوف، تـُحيط بنا الأسلحة الآلية، لا أملُك إلا الصبر، نتجهَّم، تَنْخُر الحافلة البيداء، رمال وخِيام منثورة .

تُعانِدُ الحافلة طول المشوار، وأخيرًا وَصَلنا إلى مُجَمَّعِ المحاكم، قُبة عِمْلاقة مُرتكِزة على أعمدة خُرَسَانِيَّة، نَصْطَفّ ثانية، تُلاحقنا الأوامر، نصعد دَرَجَات السّلم في هَرَج مَزكُوم، نَلِج الساحة الفسيحة، توزعنا إلى مجموعات بما يتفق وقرارات الاتهام، انتشرنا في شتى القاعات، موازين العدل تزخرف الحوائط .

يحتويني قفص اتهام، بِضْعَة مقاعد يلتف حولَها سورٌ خشبي بارتفاع نصف متر، ينادي الحاجب :

- ناصر .

أبطؤ الخُطى، الشُرطي يدفعني، أدور في الحَيِّز الضيق ، خلفَ المِنَصَّة صاحب الوجه المُتَبَرِّمُ، يُعْلِنُ دون التفات:

- السِّجْن سنة ،ومئتا جنيهٍ غرامة .

يُنَفِّض المحامي النّعاس، يستجمع كلمة أو اثنتين للتعليق ولكنه ينخَرِس، أضحك، أنظـُر إلى السقف، أخرُج فاقدًا التماسُك، أخبط الأرض بقدمين حائرتين، أحَاطَ بي رجال الشُرطة ، تَبِعهم خالد وجلال والمعلم أبو الرضا ؛ يتهامسون ، تُجلجل ضحكاتي، وفي هذه الأثناء خرج إبراهيم مُترنحًا، يَهْذِي بعِبَارات غير مفهومة، قال الشُرطيّ :

- السِّجن سنة ونِصف ؛ لأنه سبَّ القاضي بالظـُلم .

وفجـأة بكيت، لم أعهد البُكاء من قبل، كل مكونات جسدي المُرتَعِش انخرطت في التشنـُج، جف ينبُوع الدمع، اكتنفني ذهول وشَتَات، أستجدي من الوجوه النجدة ، لا أحدٌ يلتَفِت إليّ، أستشِف في عيونهم الرَّاحة، طال الوقت أم قصُر، لا أدري  ! !

أمسك بي الضابط، دفعني الجنود إلى داخل الحافلة، دفنت رأسي في عبي، لا شيء أفعله سوى إدرار الدموع، صرير باب يُفتَح، وآخر يُغلَق، ووجدتني مُقرفِصًا، يواجه القعدة إبراهيم، أطبَق علينا الصمت، كلما ارتفعت نفس نلتَفِتُ، تتحجر دموعي على عتبات السكون .

من بين عشرات الجلوس نطق أحمد محمود الشرقاوي :

- سنة ونصف تستغرقهما في دور كوتشينة .

أحرك لساني ؛ لا أقدِر على الكلام ، نَهْنَهَات إبراهيم تقلقل حسين الصعيدي فيزعق الأخير :

- ترجل يا خرع ، (بكرة)تَخرج، وتبقى الذكرى .

ولأول مرة تتكوم أمامي السجائر، أمست الأرض رُقعة رماد، مع كل سيجارة مائة حكاية، يعظ محمد الفِلَسْطِينِي:

- بعدَ المُعاناة فرج .

اختنقت الغُرفة بساكنيها ؛ رنين ، صراخ ؛ أحاديث جانبية، يتمطَّى (فاتح )مُترنّمًا، لا يهتم بأحد ، يستل حقيبته من أسفل وِسَادته، فهو من القلة الذين يَمْلِكون فِراشًا، يدس زُجاجة شامبو وصابونة لوكس، يغمغم :

- صابونة وجردل مياه فايرة تُزيل وسخ السجن .

لَغَط الحديث، ينتابُني الشرود، أناطح السراب، أتناجى :

- ماذا فعلْتَ ؟ ؟

- النجاة يا رب ؟ !

-عبرتْنِي سنوات سبعة عِجَاف !!

- الصبر .

باتت رأسي ماكينة خَرِبة، ضُرُوسُها مهدومة الحَوَاف، صداع ... وصداع ... رأسي (يا بوى)انفلق ، صَخِبَت الزنزانة ، تصدُمني الرؤى :

تتوارد أمام عيني ، تتبختر، تتمنع، ألهَث خلفها، تصُدّني، ننتقل من مقهى لمقهى والقلب لا يحزن، جميلة بحديثها، تتقول في حُبُور :

- الحب يعني زواج والزواج يعني مال !!

أطرُدها من مُخيلتي، أتأسى بالتدخين، أمست الزنزانة مطفأة، مع التدخين لا عَفَن، لا شيء يُفيدني الآن سوى النوم، أُغمض جِفنِي، ينوح إبراهيم :

- يا عين لا تبك، فلا الأخ أخ ،و لا الخِل خِل .

- يا ما قالوا الولد فرحان وهو في الحُزن غرقان.

يخطُب بصوت جَهُوري :

- طَمِعَ الأخ في الأرض، احتال واستولى على كل شيء، لفّ دول العالم، في كل بنك حساب باسمه، لا يشبع .

وأمي تحتل البيت الكبير، غُرَف كثيرة وفاضية، وقبل أن أطلُب منها شيئـًا تصرُخ : 

- لا مطرح عندي لزواجك .

تـُدميني الأشواك، أهرب، إلى أين ؟ ؟  .

يَلْطِم وجهه بفرْدَتَي الحذاء ينهض، تَسْبِقه الدوخة، يتهاوى على (جاك )الغافي فيفزعُ  ليمسكَ بجُثة إبراهيم الضخمة، يفترسها ؛ تحفُر مخالبه الجروح، يسقُط إبراهيم مُمَزَّقـًا، توسد (جاك )، تمُر لحظات، لا نملُكُ أنفـُسَنا من الضحك والتنكيت ؛ فجاك هذا زار بلدانًا كثيرةً، وأثناء نومه طافت به صديقته البرازيلية الجميلة، تُداعب رجولته، يخلع عنها الثياب ، يضمها إلى حضنه، وفجأة أيقظه إبراهيم من الحُلْم.

لم يَجِد إبراهيم بديلًا عن النوم، هاج وماج البحر ولم يُخَلِّف إلا الأملاح الكاوية ، عُدت إلى مجلسي، يحبو أيمن الصغير مُقتربًا مني يهمِس :

قُلت للقاضي :

- أحْكُمْ عليّ بالإعدام .

أتساءل :

- لماذا يا فالح ؟ ؟

يجيب والأسى يَعْتَرِي وجهه :

- أحببت بنتًا أصلها صعيدي ؛ حلوة وجدعة، رُحنا القناطر للنزهة، ركبنا فلوكة مُكَهرَبَة بالنيون وسط النيل ، ومع الغروب والهواء المُنعِشِ ولحمها الطري هجمت عليها بالتقبيل ، تتلوَّى، أجذبُها بقوة، تَخْمِش وجهي بأظافرها، تقفُز في المياه، تستنجد، جَبُنْتُ، لا أجيد العَوْم، أزعق على الإنقاذ النهري، تَغْطِس وتطفو، (تطبش) بذراعيها، لا أجروؤ على القفز خلفها، فاختبأت في خُنِّ المركب، كيف أعود بدونها ؟ ؟ هَرَبت إلى المدينة هذه، يكتريني العمل نهارًا، وفي المساء تُطارِدني، لا يُغادر طيفها فراغ الغُرفة الباردة التي اسكنها، ابتلع حبوب التخدير، زاحمَ طيفها الهواء فلأجرب كيف أتخلص منه ؟ ؟ الحبوب المُخدرة فقدت التأثير ، فلأجرب الهيروين ! في الليل هيروين وفي النهار هيروين وطيفها يكويني، يعذبني، ولكن أنى لي بالثمن ؟ ؟ زعيق المُغني الشهير يُنْقِذني أسرقْ ... حَطّمْ ...  أقتلْ ...

أجرب السرقة، لقفتني الشُرطة .

زفر الصغير مكنونه ، انتحر الليل بعد أن تناول برطمان مُسكنات الحكي والتأسي، يتمطى السجان ليفتح الباب آمرًا:

- الشاي .

أتململ في رَقْدَتِي، وقفت وبطنَ يدي يدعُك عيني ، تحركت مُقدِّمًا خُطْوة ومُؤخِّرًا الأخرى، وقبيل الوصول إلى الباب لمحت شُرطيًا يضرِب ويركُل الخارجين، تكوّمتْ الأجساد أمام الباب ، تراجعت، سألني أمين :

- لماذا عُدتَ ؟ ؟

قصَصْت عليه ما رأيت، ضَحِك وكأنه لم يسمع شيئـًا ، تذمَّر من ضَعْف قلبي ، شد الزجاجة وكأنه لم يسمع شيئـًا ، شد الزُجاجة من يدي مُدمْدِمًا :

- مصيرك التعود .

نفش جسده، طوح ذراعيه يمينًا ويسارًا في عُنف ، شهق وزفر، خرج مُندفعًا، سبقه الصراخ، عاد بعد رُبع ساعة وبيده زُجاجة الشاي، وقميصه مُمزق وخدوده مليئة بآثار الأصابع، تُضَعْضِعُ جسده الناحل، رشف بُق شاي مُتمتمًا:

- يهون في سبيلك أي عذاب .

قام إبراهيم من النوم، وجهه مزرود وجِفناه متورمان، لا نملُك إلا الجلوس وتبادل شوارد الكلام ؛ فلا شيء يهزم الوقت سوى حديث الذكريات، يُكركر بالضَّحِك الهيستيري ، ويتحسس مواطن الوجع، وعلى غير المتوقع نادى علينا الشُرطيّ لنتبعه إلى مكتب قائد السجن، أبلل أصابعي بريالتي، أمررها على عيني ، قدماي تتداخلان. تَبِعَنَا إبراهيم، صعدنا إلى الطابق الثاني، قعدنا على دكة أمام مكتب العقيد، تورم الوقت قبل أن يهل محمد رمضان، تبدو على وجهه الغِبْطَة، يُبادرنا بالقول :

- لكم عندي مُفاجأة .

نرنو إلى  جميع الاتجاهات، الهدوء يركب الموقف، انفتح باب غُرفة العقيد، دخلنا، الغـُرفة واسعة ، تتوزع فيها المقاعد الوَثِيْرَة، على الحائط تتقاطع الأسلحة ؛ سيوف خناجر ، بنادق ، طبنجات ، هِرَاوَات ، العقيد يهتز بالمِقْعَد الدوار ، بيده عصًى من الأبنوس، وبالغُرفة تاجر أتى من مِصر خصيصًا للسؤال عن إبراهيم، تبادلنا الأحضان والمُجاملات ، ولم يتعدَّ الحوار مِضْمَارَ الحديث المتكرر، دماغي كادت أن تنفلق، ألُفّ في دوامة لا أدري مداها ، فالمدينة تعدو وتقفز وتتبهرج والناس فيها يلهون، يَنْصِبُون الفخاخ وما أغبى الفرائس ، وأنا هاهنا لا أقوى حراكًا تكبلني قيود الخديعة، يجرّوني الآخرون إلى هُوَّة سحيقة لا فِكَاكَ من ضلوعها الضامة، أصْبِرْ وَكُن رجلًا فما ربك بظلام للعبيد، انقضت الزيارة، عُدنا وجيوبَنا مُنتفخة بالسجائر، استقبلنا أمين كويناكو بزُجاجة الشاي، مازحته بالقول :

- لابُد من تسخين الشاي !! .

قطع جزءًا من البطانية، لفه كإسطوانة، مزق عُلبة بلاستيك طوليًا، أشعل فيها النار، يسيل البلاستيك على الـُّلفَافة، انصهرت تمامًا ، صُب الشاي في عُلبة زيت فارغة، ثم أشعل اللفافة المُسندة أسفل عُلبة الشاي، سخن الشاي، نتناوب الارتشاف فإذا بالشُرطي يدخُل من باب اللارية (فِناء يتوسط الزنزانات )، يتجه نحونا، يريد بنا الشر لا مُحَالة، زعق بغضب :

- من أشعل النار ؟ ؟

وسوم: العدد 624