قبر في الظلال

بعد أن تحدثنا وشربنا عصير البرتقال والقهوة في ظل شجرة الجازورينا ذات العساليج اللدنة الكثة ؛ دعاني للتجول في بستانه الصغير الذي يستقر بيته في جانبه الغربي . البستان دونم ونصف مثلما علمت منه . زرعه أشجارا متنوعة وإن كان الزيتون هو السائد عليها . تعارفنا في تصحيح اختبارات الثانوية العامة . كنا في غرفة واحدة . وفي الورقة الثانية من مبحث العربي تشاركنا في تصحيح السؤال الثالث ، وتوافقنا توافقا شبه كامل

في درجات التصحيح زاد سرورنا وقربنا نفسيا . وفي الاستراحة صرنا نأكل ونشرب العصير والقهوة معا ونتنافس في دفع ثمن ما نشتريه منها . صدق الرسول ( ص ) إذ يقول : " الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف " . ائتلفت روحانا كأننا نعرف بعضنا بعضا من سنين . وهأنذا أزوره الآن عصرا

في الإجازة . طاف بي يحدثني متى اشترى الأرض ، وكيف يعتني بالبستان عزقا وسقيا وتشذيبا ورشا بالمبيدات

لقتل الآفات . البستان يحيط به سياج من السلك المكسو بقماش الحواجز الأزرق ، ويعزله عن كروم الجيران وأراضيهم . لفت خاطري أنني لم أرَ ابنه أيمن الذي كنا نكنيه به أيام التصحيح ، ولم أشغل نفسي بالأمر . قد يكون في البيت أو في أي مكان سواه . اقتربنا من الزاوية الشمالية الشرقية للسياج الذي تحف به أشجار متنوعة .

لمحت في الزاوية بناء أبيض تحجب الأشجار معظمه . أهو قبر ؟ رمقت وجه أبي أيمن فرأيت فيه تغيم شحوب وأسى . ازددنا اقترابا من الزاوية . كان قبرا بين رمانتين تلاصقهما من الشمال زيتونة ومن الجنوب حمضية يوسف أفندي . نظرت إلى وجهه ثانية تنقيبا عن تفسير . نظر إلي . كان في عينيه ندى دمع . قال يفرك عينيه

بإبهامه وسبابته : قبر أيمن . رحمه الله .

قلت مفجوءا : ابنك ؟

رد مقاوما البكاء : الوحيد .

_ سأقرأ الفاتحة لروحه .

وقفنا أمام القبر وقرأنا الفاتحة ودعونا لأيمن بالرحمة . كانت دموع أبي أيمن تتزايد وسرت رجفة البكاء في صوته حين قال : سأحدثك بالقصة .

ودخل قلب زيتونة سادلة الأغصان وعاد حاملا كرسيين أبيضين سار بهما إلى زيتونة أخرى ترتفع أغصانها

عن الأرض . قال : اقعد !

سألت قبل أن أقعد : منذ متى توفي ؟

_ استشهد في عدوان الرصاص المصبوب . يا أبا معاذ ! في شعرنا روائع نفيسة من المعاني التي ينفذ

شعاعها إلى أخفى حقائق الحياة وغريبات حوادثها . تعرف البيت الذي يقول : يوشك من فر من منيته ،

في بعض غراته يوافقها .

هذا ما حدث لحبيبي أيمن . في ليلة من ليالي الغارات والقصف لممت أسرتي : أم أيمن وأيمن وأربع البنات . قلت : غلط أن ننام كلنا في البيت . يجب النوم متفرقين . واتفقنا أن تنام أم أيمن والبنات طبعا في البيت وأن يتناثرن في

غرفه ومماره . نريد تقليل الخسائر إذا قصف البيت . وكان علي أن أسأل نفسي : من الذي يهون أن نخسره من أفراد الأسرة وفق تلك الخطة ؟ لا أطيل . قلت : سأنام مع أيمن في الكشك الذي تخبز فيه أم أيمن أحيانا على فرن الطين وتطبخ عند انقطاع الغاز . باغتني أيمن _ كان في الصف العاشر _ بقوله : سأنام وحدي بين الرمانتين ،

وضحك واستتلى : وإذا استشهدت ادفنوني في نفس المكان ! آه يا ولدي الحبيب ! استنكرت كلامه واستهولته .

برودة ليل يناير تخترق العظام نافذة إلى نخاعها . كيف ينام في الخلاء العراء ؟ حاولنا منعه . قلت : نم في الكشك وسأنام أنا في البيت ، أو نم أنت في البيت ! قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ! ألح على مراده . لدينا  _ الحمد لله _بطانيات كثيرة . أخذ ثلاثا وأصرت أمه على رابعة . كانت فكرة مجنونة حقا . لو صيف لو خريف لكانت سائغة . زيغ شباب لا تنفع معه حكمتنا . زمن عملي في السعودية كان لي صديق نازح من غزة رزق ولدا بعد عشر سنوات من قنوطه وزوجته من الإنجاب . لم ينجبا سواه بعد ذلك . وحين كبر شيئا كان أبوه لا يرفض شراء أي شيء له مهما كان مستغربا ولا حاجه إليه . تصدق ؟ مرة أشار في المحل إلى سم فاشتراه الأب . الولد الوحيد مجاب الطلب . وافقنا على ما أراد أيمن مكرهين . صحوت الثالثة إلا ربعا على انفجار ضخم رج المنطقة رجا .

سمعت صوت الطائرة تبتعد مشرقة . ماذا قصفت ؟ لا أدري . حاولت النوم ثانية فعصاني النوم . دخلت البيت وتوضأت وجلست انتظر الصلاة في غرفتي المظلمة . كانت الانفجارات تسمع في الأنحاء المجاورة . في دير البلح والنصيرات وخانيونس . ما أرعب أن تسمع صوت انزلاق الصاروخ على صفحة الهواء متوقعا أن يكون بيتك هدفه ! فإذا دوى انفجاره في مكان آخر حمدت الله على النجاة ، وفي ثانية يجتاحك الحزن والتخوف على من هوى الصاروخ على بيته . اصطراع عاصف وحشي في المشاعر . لا أطيل . عند الفجر وانكشاف الأشياء في بياضه المشوب بأدخنة القصف والقذف قصدت منام أيمن ، وغربي هذه الشجرة ذهلت حين رأيت كتلة طينة يابسة يلون السواد بعض جوانبها مستقرة في حفرة سطحية . من أين جاءت ؟ هل سقطت قذيفة هنا ؟ ما علاقتها

بانفجار الثالثة إلا ربعا ؟  وتلفت حولي فرأيت كتلتين أخريين . قدرت _ وصح تقديري تاليا _ قوة الانفجار الضخم انتزعت أحشاء الأرض الرطبة وقذفتها يابسة في ثوان . أسرعت إلى أيمن . صرخت وسمعت شبه غائب

عن الوعي صرخات أم أيمن والبنات . اندفعن خارجات صارخات . م .. . ما . . . ماذا أقول ؟

وصده البكاء عن الكلام ، فبكيت ، ثم تابع بين شهيقه الذي كان  يدفع رأسه إلى أعلى مع كل شهقة : هوت كتلة على صدر أيمن فقتلته . رأى الناس في الضحى مكان الانفجار . حفرة واسعة غائرة في أرض خلاء لجيراننا

استعانوا بجرافة لردمها .

وسوم: 639