مصعب - شعلة الحب لا تنطفئ

د. "محمد علي" الأحمد

د. "محمد علي" الأحمد

في صباح ربيعي لطيف، تتباهى فيه الأزهار والورود بعبقها وألوانها الساحرة، كانت خطواتي متثاقلة وأنا في عراك مع ذاتي لالتقاط أنفاسي لإتمام صعود طريق ملتوٍ على إحدى التلال غربي المدينة الساحرة عَمّان، ذات العمارات متفاوتة الارتفاع متباينة الطراز، وقد جلّلها وشاح مهيب ، وواجهاتها مرصعة بزخارف جذّابة،  وتكسوها حلل متناغمة من الذوق المعماري الذي يشي بإتقان الصنعة الهندسية، فقد غدت عنوان الأناقة بين مدن العالم، وقفت أمام منزل في الدورالأول من إحدى العمارات، استجمعت نفسي وقرعت جرس "الأستاذ"  عبد الله، فقد ذاع صيته وعرفته أجيال المثقفين والأدباء في كافة أقطار الأمة ناقداً يشار إليه بالبنان، لِمَ لا ورصيد مؤلفاته ينوف على الثلاثين مصنفاً، تباطأتْ اللحظات قبل فتح الباب، تدفقتْ خلالها مشاهدُ وحوادث كثيرة على مخيلتي، لكنها بعض درر مما رواه لي أديبنا المبدع في زيارات سابقة، شق طرف الباب، بدت طلعته المشرقة بالأمل، رجل سبعيني مجلبب بالهيبة والوقار، قابلني مبتسماً مرحباً، سمة طبعه العربي الأصيل، وعنوان سجاياه العفوية، متهلل الوجه مشرقه، مددت يدي مصافحاً، شدّ عليها.. جذبني برفق حتى ولجتُ غرفة الضيوف، وعلى عادتي في الجلوس أثناء زياراتي أخذت موقعي في الجهة المخالفة لفتح الباب !!.. ابتسم الناقد الأدبي، تـنهد.. قرأتُ ملامحه وقد استرخت على جنبات عينيه خطوط خفيفة رسمتها الأيام ...ثم بادرني  ها .. آ  آ... كيف سفرك إلى عاصمة أم الدنيا "القاهرة" ؟ مَن اصطحبك إلى هناك؟! قلت: كان  معي عدد من الشباب، أحدهم يدعى مصعب و... و... وبحضور بديهةٍ كهدهد سليمان تأهب وأخذ التعليق لغوياً على ما يسمع من الأسماء، تمسك بأحدها، سألني: ماذا قلتَ: مصعب؟ ألا تدري أن مصعب، وبالرغم من أنه اسم مذكر، فإنه يؤنث أيضاً، إن حروفه محفورة في خلايا وجداني ... تحفزتُ لأسمع !!! أُصِبْتُ بشرود... لم أكن أدركُ أن تهز الحروف الأربعة التي طرقت مسمعه، قوقعة دماغه، وتنزل كالصاعقة عليه !! فتوقظ في أعماقه إحساساً بالمرارة ، اعتدل واستخرج كلمات:  إنها شعلة لم تنطفئ جذوتها منذ خمسين عاماً ...ثم أردف بحروف متقطعة، آه .. يا ... م ص ع ب، لفظها بصوت متدحرج خافت لا يكاد يبين، قلت: لأي مصعب تُلمِح؟ قال: لا ... ليس رفيقك إلى القاهرة، بل حِبّي الأول، قلت: ماذا !! كيف مصعب و.. و...حبيبتك الأولى؟! أجاب باندفاع: تلك هي الحكاية، ستفاجأ ... صمتَ هنيهة، ثم عرض على عُجالة تصريف لفظةِ مصعب في علم اللغة، واستأنف مُستخرجاً من نبع ذاكرته عسل حُبّ مُصفىً طالما سقى به شجرة شبابه الباسقة أياماً وأياماً .. وتابع : آه  يا بُـنيّ !! كنت ضابطاً أثناء الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش،عقب تخرجي من جامعة دمشق، ثم استدرج شهيقاً صعد بسويداء قلبه وكأن الروح بلغت الحلقوم، تسمّر فؤاده عند حنجرته، خشيتُ أن " تسونامياً " عاطفياً قد التهمه من هول ما تذكر!! حينها قادني الفضول لسؤاله : أما زالت بذرة الهوى مزهرة ً في قلبك يغذيها الحنين؟! أجل .. أجل، قلت: إذاً : دع شريط الذاكرة يستحضر مودة القلب وصباه!! ردّ : نعم لك هذا !! تـُوُفِي لعمي (حَمايَ ) أبو سالم ولده البِكْر مُصعب، فأعتمت الحياة في عينيه، ثم اخضرّ ربيع شبابه!! فجاد المولى عليه بمولود آخر كان أنثى، أصرّ على تسميتها مُصعب، من شدّة ولعه بفقيده الصغير، وقدّرالله  لي أن كانت مُصعب "البنتُ" جوهرة شبابي وفارسة أحلامي، ثم أصبحت "درب" آلامي في العقود الخمس الفائتة، صَمَتَ بُرهة، تلهفتُ لأسمع ما حدث!! فجاء الشطر الأعجب من الخيال مما خبأه القـَدَر لأديب العروبة وناقد أدبها، قال: أحببتُ "الملاك" مصعباً حباً ملائكياً، فخطبتها "رسمياً " وامتدت فترة الخطوبة لأكثر من عام، ولكي لا تجمع رياح الصبا غـُباراً على هذي الزهور، وتجنباً للدخول في ثقوب الظنون والشبهات إذا امتدت فترة الخطوبة أكثر، عقدتُ قراني عليها، وأكثرتُ الغدو والرواح، وكنتُ كلما عدتُ من إجازتي أثناء السنوات الأربع في الخدمة الإلزامية، أذهب لأقف أتأمل "ديار" مصعب، ثم أحلّ عندها في بيت أهلها  زائراً مُدّللاً ، وكان بعيداً نسبياً حينذاك عن منزل أهلي في مدينتنا عاصمة شمال الشام، فأمكث لفترات تمتد أحياناً النهار بكامله، وأستجيبُ لرغائبهم فأشاركهم وجبات طعامهم التي يُعدّونها لي بعناية، وفي الوقت ذاته أفاجئ مصعب وأتحفها بما أحضره لها من هدايا، إلى أن ...أن ... دمعات حرّى ... تأوه ... ماذا... ماذا  بعدها؟!! أرجوك أتمم يا أستاذنا! أيتساقط جُمان من مقلتيك..أنت رجل كـُبّارا..  أحقاً ...!!  إن هذا لشيء عـُجاب؟! لا يا بُنيّ !! هذه لحظات تستولي فيها مشاعر الحنين على وجدان المرء، وتتغلب معاني الرحمة على عقله وجنانه ... صمتَ بُرهة فاستجمع ملكاته وأردف ... إلى أن جئتُ ذات مرة في إجازة ، ويممتُ وجهي شطر حييهم، فطرقتُ الباب واستأذنتُ، فأذِن لي، وأدخِلتُ إلى غرفة الضيوف، فوجدت والدها (حَمايَ ) وأخاه، جالسين، وبصدر الغرفة صورة لزعيم طالما قدّسَتْه "جماهير" من أبناء أمتنا تقديساً أعمىً، بالرغم من أنه قد ولغ في دماء الكثيرين من أبريائها، ونصب المشانق وملأ السجون بالأحرار من خيرة شبابها ذوي الكفاءات والنوابغ الذين تـَنهضُ الأمم بجهودهم وخبراتهم !!! لم أتمالك نفسي !! كأن صعقة كهرباء صدمتني برؤية الصورة، يا لله !! تخيلتُ الزعيم يقف أمامي مزهواً يسحق كرامتي، وصورته معلقة بصدر المجلس، فاندفعتُ وعيناي تدوران في أفلاك رأسي، مستعرضاً شريط جرائم هذا الزعيم بحق بلاد العروبة وأحرارها، هاجمتُ الصورة انتزعتُها من على الجدار ... مزقتها وضعتها تحت قدمايَ، وأنا أهتف لا شعورياً : اخسأ اخسأ أيها القاتل، انتفض عمي (حَمايَ ) ما دهاك يا عبدالله ... ماذا تعمل ؟؟ كيف تعتدي على حرمة بيتي وتتصرف بدون إذني: وبدون أي تمهل أجبتُ: كيف تـُعظم يا عمي هذا الطاغية وتعلي صورته في صدر غرفة ضيوفك ؟!! تدخل أخوه ... أجل هذا اعتداء على البيت وأهله، أجبتُ الأخ : وأنت أيضاً توافق أخاكَ ؟!! ردّ بحدّة : ولـِم لا؟ قلتُ: وتنتصرُ له بالباطل؟ قال : وكيف تسميه باطلاً ؟ أنتَ لا تـُحبّ الزعيم، هذا شأنك !! لنا الحقُ أن نفعلَ داخل بيتنا ما نشاء، طالما أن تعليق الصورة لا يُخلّ بالآداب العامة، رددتُ بغضب: إذاً .... كنتم ؟؟ .. وهنا دخلتْ خطيبتي مصعب مع أمها إثر سماع أصواتنا المرتفعة واحتدام النقاش، وسألتْ أباها بدهشة: ماذا يا ابتِ ؟!! أجاب أبوها "عمي" أبو سالم: ألا تـَرَيْ خطيبُك ماذا يفعل ؟!! لقد مَـزّق صورة الزعيم، سألـَتني مصعب: أهكذا يا ... وقفت الكلمات في فمها .. لِمَ لِمَ ؟! قلتُ: حتى أنتِ مع أبيكِ ؟!! تسمّرتْ مصعب في موقعها، ثم ارتجفتْ، كأنها تمثال أصابه زلزال، ترتجف تتأرجح من فزعها، وقد أشرفت على الانهيار وهي واقفة .. آآآآآآآآآآآآهههه وفي لحظة خارج الزمن ردد لساني بلا وعي وأنا في حالة هياج شديد، حصاده المرارة والألم المزمن : أنت طالق ... طالق ... طالق ... سادت لحظات وجوم ، بدت الأم هي الأخرى ( بعد صمتٍ وذهول ) في حالة انهيار، ثم سقطت على الأرض من طولها، صاح الأب وهو يرى زوجه طريحة: يا أهوج ماذا فعلتَ ؟! أهكذا تُعالَج الأمور !! عقـّب العمّ وقد ضبط أعصابه : باطل عليك يا ابني عبدالله !! وقفتُ مرتبكاً بلا إجابة، خرجَتْ مصعب تهرول ... تنتحب ... لا تلوي على شيء، أفاقت الأم بعد دقائق، وقد بلل الأب وجهها بالماء، تداخلت المشاعر والأصوات، استرجعتُ ... عدتُ للوعي بعد شرود وذهول، الجميع يحاولون تهدئة الموقف وتدارك الأمر، عادت مصعب بصحبة أختها تترنح من هول الصدمة وهي تستند على كتفها، وبصوت متهدج قالت: يا ح بي بي قتلتني !! قلتُ بعناد عاطفي مقيت: طالما تفضلون هذا الطاغية عليّ ؟ إذاً الفِراقُ بيني وبينكم، اتجهتُ مُسرِعاً نحو الباب لأخرج، أمسك بي الأب، استمهلني العم، تحاملتْ حماتي على نفسها انتصبت لتهدأتي، بالرغم مما هي فيه من الألم والإرهاق النفسي، لم يفلحوا !!  بكتْ مصعب وهي تلاحقني بدموعها ونظراتها المحبطة، تصدّوا بعنف مرة ثانية لخروجي، علت الأصوات من جديد لاغتنام الفرصة الأخيرة، أملاً بالتفاهم وحلّ العقدة، لكن دون جدوى، استدرتُ واندفعتُ نحو الباب مغادراً ذلك البيت الذي غُمِرْتُ فيه بالحنان والمحبة والأمان، بيت العفوية الاجتماعية، بما لهذه الكلمة من معاني مافتئت تنغرس في أعماق ضميري !!! أقول هذا وقد تعاقب أكثر من خمسين سنة على مرارة ذلك الخروج، لكن حبّ مصعب أبداً لم يغادر فؤادي الذبيح، عدتُ للبيت أعلمت ُ أمي وأبي بما حدث، تأسَفا على تـَسَرّعي واندفاعي العاطفي، وشدّدا على الخسارة الكبرى للجوهرة الثمينة مصعب، حاوراني كثيراً للعودة للعقل والاعتراف بالخطأ، لكن كبرياي الشبابي الأهوج لم يترك لي فرصة المكاشفة مع الذات، والثبات بجرأة أمام فوران الفتوة، صارت مُصعب من الماضي مع تقادم الزمن، خطبَتْ لي أمي عروساً أخرى "عائشة "، إنها أم أولادي الآن، عمرٌ مزدحمٌ بالذكريات الجميلة معها، أجل امتزج حبها في دمي، واختلط عشقها بمشاشتي، وما زال يسري وفاؤها في ثنايا فؤادي، إنها رفيق دربي إلى أن يداهم الأجل حياتي، لكن حُبّ مصعب لم تدفنه الأيام في مجاهيل النسيان، ولم يندمل جرحه الراعف في قلبي، لقد تغلب الكبرياء الأعمى وجنوح العاطفة المجنون على عقلي الراشد حينها، لكن أيقنتُ أن وهم الغلبة المزعوم لم ينتصر على حقيقة الحب الفطري الناصع، حب القلب والعقل معاً، كان بالإمكان تدارك لحظاتٍ لا مسؤولة، فالعقل يخرج المرء من كل مأزق، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لكان لي موقف آخر، ماذا لو أبقيت صورة الصنم معلقة وحاورتهم قبل تمزيقها، وأطلعتهم على حقيقته متسامياً على غلو الشباب المتعجل غير المسؤول، لكان في ذلك الخير كله ؟؟ لكن ... ولكن ... !!!  لكن القـَدَر الإلهي غالب، وقد رضيتُ به وفوضتُ أمري لله، ومع الأيام يبقى التسليم والرضى بالقـَدَر،  سلام عليكِ يا مصعب آه  آه  آه  أينَما أنتِ ؟ دربُـك ِ خضراءُ مزهرة بالأمل والعطاء حيثما توجهتِ !!.