عودة الحياة إلى قلبٍ ميّت

فدوى محمد سالم جاموس

الساعة العاشرة ليلاً ، دخل أبو الجود بيته القديم ، الذي عاش فيه طفولته وصباه . عبق العراقة ينتشر في كل ركن من أركانه .نظر إلى جدرانه المتماسكة .. كل لبنة تحكي له ذكريات ، فيبتسم تارة ، ويحزن تارة أخرى !

قال في نفسه : الله يرحم تلك الأيام ، كان المرء فيها حراً ، غير مسؤول عن طعام أو شراب ، أو غير ذلك . دخل مسرعاً إلى حجرته الصغيرة ، وقد عصف البرد بكيانه ، وأضناه التعب .

ردّد بصوت منخفض : الحمد لله .. سكون .. لا صوت .. لا حركة.. الجميع نيام .. سأنام مرتاحاً من الطلبات والنقّ المستمرّ !

خلع سترته وهمّ بخلع بنطاله.. رفعت الزوجة رأسها مرحّبة.. قالت: تأخّرت يا أبا الجود .. انتظرناك طويلاً.. البنات نمن جائعات.

قال بصوت منخفض: أعوذ بالله ! ألم تنم بعد ؟ ستردّد الموال اليومي. نظر إليها وقد اشتدّ غضبه .. صرخ في وجهها .. تعثرت الكلمات في فمه .. لاكها بلسانه .. انطلقت قذائف ، وقد أطلق العنان لغضبه وحمقه !

أغمضت عينيها ، على دمع أحرق بقيّة صبرها .. عاد إلى ملابسه .. خرج .. سمعت صفعة الباب تدوّي ، وقد ارتعدت لها نوافذ البيت .

استيقظت تسبيح وتسنيم ، وبصوت واحد صاحتا: ماما.. ماذا حدث !؟

أما الأخت الصغرى أفنان فأجهشت بالبكاء .. وارتمت في حضن أمّها ، وبيديها أخذت تتلمّس دموع والدتها الصامتة ..

وبابتسامة عذبة ، أخفت الأم اضطرابها .. ابتسمت .. ضمّت بناتها ..غططن جميعاً في نوم عميق .

فُتح الباب ثانية .. نقل رجليه بخفّة وسرعة .. تتابعت الخطوات ..

دخل الحجرة ، يمزّق سكون الليل .. ظلام دامس .. لم يعد يحسّ بحركة .. قال في نفسه : يظهر أنّهن نمن !

أمّا الزوجة المسكينة ، فقد نثر أملها مع كل خطوة خطاها .. تلاشى أملها في تأمين مستلزمات البيت والبنات .. احتسبت.. صبرت ، برغم بعد الأمل ، والرجاء بصلاح أحواله .. لم يخب رجاؤها وأملها بالعليّ القدير ..

ذرفت الدمع مدراراً.. قبّلت بناتها .. ابتهلت إلى ربّها طويلاً.. خرجت كلماتها من بين خلجات نفسها الحرى .. ناجته في دجى الليل البهيم ..ازدادت قرباً في صلاة الليل .. أشرقت نفسها .. تضاءل الهمّ والحزن .. تلفّتت حولها .. شردت بفكرها بعيداً : لماذا يبخل علينا ، وظروف عمله جيّدة (ساءلت نفسها).. لمَََ التقصير في واجباته .. ماذا ينتظر!؟

ظلّت قلقة طوال الليل ، بين مدّ وجزر من أفكارها، تصارع الواحدة الأخرى . لم تنم! لقد مضى على اليوم الذي أعطته فيه مصاغها ، سنوات وسنوات .. يوم وعدها بآمال عريضة رابحة ، منّاها بحياة سعيدة هانئة مستقرّة ، بعد الربح الوفير.. استجابت لرغبته .. رأته متحمساً للعمل .. شجّعته .. رغبت في إسعاده ، لم تأمل بشيء من الدنيا غير الصحّة والستر.. تغيّرت بيان (الزوجة) كثيراً، لم تعد تلك الصبية المرحة.. غابت الابتسامة من وجهها الجميل ، غدت كثيرة الصمت.. تسبقها الدموع في حديثها.. تلوح لها فكرة أهلها.. وإصرارهم على تركه ، والخلاص من الشقاء ، الذي غرقت في لجّته..

دارت بها الدنيا.. كانت في صراع نفسي ، بين عقلها وعواطفها .. سيطرت فكرة التفريق عليها ..عصفت بداخلها..  نظرت إلى بناتها مليّاً.. دفعت الفكرة ، والدموع تغسل وجنتيها طردتها .. أبعدتها ..

قالت في نفسها : لعن الله إبليس .. أراحني من وسوسته . تمتمت ، بصوت خفيض ، بدعاء كانت تحفظه .. ارتاحت من ذلك الكابوس اللعين .. عادت تنظر إلى بناتها ، وهنّ نائمات.. كيف تئد روحها ، وتسحق قلبها .. !؟ أيهنأ لها عيش بعيدة عنهنّ !؟ ستصبر.. لعلّ الله يجعل لها من ضيقها مخرجاً .. إنه أرحم الراحمين .

لاح الفجر ، استيقظ مقطّب الحاجبين ، وكان شخيره قد ملأ  الحجرة بكاملها .. وصار صداه يتردّد في أرجائها ..

تبسّم .. ألقى نظرة إلى زوجته وبناته .. تطلّعن إلى الأم ، ينتظرن إشارة الإقدام والانطلاق ، وقد اشتقن إلى أبيهنّ .. لينهلن عليه بالعناق والقبلات !  نظرت الأمّ مبتسمة حذرة ، تخاف ثورة غضبه المحمومة ..

اقتربت أفنان الصغيرة منه .. ابتسم .. ظهرت أسنانه الصفراء .. أومأ إليها بالاقتراب .. فتح يديه .. أقبلن جميعاً .. أغرقنه بالقبلات .. وضعت أفنان رأسها على صدره .. مرّغت وجهها قُبلته .. بابا : لماذا تأخّرت !؟ لقد نمنا جائعات ..!

ابتسم ابتسامة صفراء وقال: الخير كثير، والحمد لله ، يابنتي..

قالت الكبرى : بابا لقد مللنا فتّة الخبز والماء .. (تابعت وهو ينظر إليها) بابا ألا نصبح علماء ، دون فتّة الخبز والماء ..!؟ دائماً تردّد علينا : خبز وماء أكل العلماء .. ! هزّ رأسه وقال: لماذا هذا النكد ، يا بابا !؟ كثرة الطعام تبلّد الأذهان ، ألم يعلّموك في المدرسة ، أنّ البِطنة تُذهب الفطنة !؟ أجابت : نعم نعم ولكن .. قال الأب : ولكن ماذا !؟  صمتت خائفة ..

نظر الأب إلى زوجته .. وقد أخرج مفتاح الخزانة من جيب سترته ، التي أكل الدهر منها ما أكل ، وصارت الرقع تغطّي معظم أرجائها.. قال لزوجته : أظنّ أن لدينا خبزاً في الخزانة ، أليس كذلك !؟ هزّت رأسها والحسرة تملأ قلبها ، والجوع يعضّ أحشاءها .. ابتسمت .. صمتت .. مال بجذعه ..

انحنى .. أفرج عن الخبز البائت " حدّث نفسه " : ثلاثة أرغفة ، الآن .. والباقي للحاجات القادمة .. إنشاء الله .. ارحموها من أسنانكنّ ، وارحموا أسنانكنّ منها ، فالإفراج يعني العضّ والنهش .. سأوفر عليكنّ عبء ذلك !؟

فرحت البنات ، وصفّقن بأيديهنّ الصغيرة ، والابتسامات تخرج من قلوبهنّ .. لقد اختلسن النظر إلى داخل الخزانة.. من فتحة الباب الصغيرة ، عانقن كيس الشيبس بنظراتهنّ .. حرّكن ألسنتهنّ .. تلمّظن .. كنّ قد أكلن منه ، منذ أسبوع تقريباً .. إنه لذيذ .. تلمّظن ثانية .. نظرت كل واحدة إلى أختها ..

بابا .. بابا .. أسرعَ فأوصدَ باب الخزانة زاجراً : ألن تشبعن من النقّ !؟

لقد ورثتنّ النقّ عن أمّكنّ .. ألا يكفيني نقّها ، بسبب وبلا سبب !؟ أنام على غمّ واستيقظ على همّ ! حدّث نفسه : الهرب ثلثا المرجلة ! فالمكوث بينهنّ سيحمّلني طلبات أنا في غنى عنها .. لقد أثقلن كاهلي برغباتهنّ الجامحة .. خرج مسرعاً الى عمله ، مردّداً بصوت خافت : ماهذا ياناس .. ألا يستطيع الرجل أن يدّخر شيئاً للزمن ..!؟ تباً لهنّ !

تبسّمت الأمّ في وجوه بناتها ، وبراءة الأطفال في عيونهنّ ، وهنّ يقبلن الخبز فرحات ! لقد توافر الخبز في أيديهنّ .. سيأكلن معه الماء والسكّر .. الماء والزعتر .. تعالت ضحكاتهنّ .. رقصن مع الأرغفة المفرج عنها للتوّ .. كانت فرحةَ مناسَبة : لقد شاركن الأرغفة فرحة الإفراج عنها ، والعودة الى الحياة من جديد ..!

سمعت أفنان مواء قطّتها البيضاء الجميلة ، وهي تحوم في فناء البيت.. صاحت: سأطعمها من رغيفي ، وأجلب لها الماء.. ربّما كانت عطشى .. يظهر أن موعد إفطارها قد حان .. هيّا هيّا .. ياقطّتي الحبيبة .. رافقت القطّة أفنان ، كصديقتين حميمتين .. تسرع إذا أسرعت ، وتبطئ إذا أبطأت .. تضع الماء .. تشرب القطّة وتشرب .. حادثت أفنان قطّتها : .. ألم تسقك أمّك ؟ لا بأس ، سأطعمك ، أيضاً ، من رغيفي الثمين .. نعم ، إنه ثمين .. أمّي قالت لي : الأشياء الثمينة توضع في الخزانة ، ويقفل عليها ، محافظة على أمنها .. ! تركت القطّة لتقفز على عصفورة حطّت على الأرض .. لحقت بها أفنان : تعالَي إلى هنا .. هذه العصفورة صديقة أختي تسنيم .. أنت ستفطرين معي ، و أختي مع صديقتها العصفورة . تابعت الأمّ وتسبيح ( ابنتها الكبرى ) هذه المشهد الجميل ، بشغف وحبّ ، فالقطّة لا تكفّ عن المواء ، وأفنان حائرة بما تقدّم لصديقتها..! صاحت الأم : دعيها وشأنها ، يابنتي ، دعيها . وفي الوقت ذاته ، كانت العصفورة تحطّ وتعلو، وتسنيم تتأمّلها سعيدة بزقزقتها ! أمّا تسبيح ؛ صديقة أمّها ، وبيت أسرارها ، فتأمّلت الرغيف ملياً، والشمس تنشر أشعّتها الذهبية ، في أرجاء البيت!  حتّى الرغيف بدا ضاحكاً للشمس .. لقد رآها بعد دهر في سجن مظلم .. ضحك لها .. سرى الدفء في أوصاله .. مالت تسبيح على كتف أمّها ، وهما واقفتان ، ولفّتها بيدها : ماما.. لماذا لا نأكل !؟ هيّا .. عاشت الأمّ لحظات سعادة غامرة .. دخلت الحجرة .. تسابقن بالدخول معها .. هاهنّ أولاء يحمن حولها كالفراشات ! ( حدّثت نفسها ) : ما أروعهنّ ، كيف يقسو القلب !؟

شردت بذهنها بعيداً .. رسمت لهنّ مستقبلاً باهراً ، مفعماً بالفرح والخير العميم ، لهنّ ولأطفال العالم جميعاً .. إن قلبها واسع ، ونفسها طيّبة ..!

جلست ، بعدها ، تمشّط شعر تسنيم الأشقر الجميل .. التفتت تسنيم إلى أمّها : لماذا لا تقصّين شعري وشعر أخواتي !؟ قالت الأم : إنه شعر ذهبي جميل لا يُضحّى به يابنيّتي .. إنه منحة من العليّ القدير ! لقد ملكن عليها قلبها ، بصفاء أرواحهنّ ، وبياض بشرتهنّ ، وحمرة خدودهنّ !

عاد أبو الجود ، بأسماله البالية ، يحمل بطّيخة حمراء كبيرة ، مبتسماً .. قال لزوجته بجفاف : تفضّلي .. طلبات ثانية !؟ أوامر أخرى !؟ أسمعينا ..! 

ابتسمت ، نظرت إلى بناتها ، وضحكاتهن تعلو وتعلو .. اقتربن منها ، وهنّ يتحسّسن البطّيخة بأيديهن الغضة الجميلة.. أرادت الصغيرة أن تطوّقها ، وتحملها بكلتا يديها..  صاحت أمّها: ما زالت يداك صغيرتين يا بنيّتي ، وغير قادرتين على حملها . فتح الأب باب القبو .. نزل الدرجات الأولى .. صاح بزوجته : هاتيها . أخد البطيخة .. وضعها في القبو .. ثبـّتها على الأرض بحرص .. أقفل باب القبو بسرعة .. سيذهب إلى عمله . أسرعن الى نافذة القبو .. جلسن أمامها ، يرمقنها بنظراتهن .. تلك البطيخة اللذيذة الحبيبة . وقفت الأم عند باب الغرفة ، فرحة بهذه الصورة السعيدة ! قالت في نفسها : لا بأس بمشاهدتها والتمتّع بلونها الأخضر الزاهي . تابعت : ما هذا النهار الجميل ؟! الحمد لله على نعمائه وآلائه ، لعلّ الله استجاب لدعائي .. وأحسّ أبو الجود بواجباته الأسريّة . تُردّد : أبو الجود..! لا أعرف لمَ سمّي بهذا الاسم ! هل أطلق على نفسه هذا اللقب ، ليكون  غطاء لبخله !؟ أم سماه به أولاد الحلال ( رفاقه ) الذين عانوا منه ما عانوا !؟ صحيح .. تذكّرت .. لقد أطلق أصدقاؤه عليه هذا اللقب ، وهو سعيد به ، لأنه اسم مجّاني جاءه هدية ، دون أن يكلّفه قرشاً واحداً من جيبه ! لذا ، فهو لا يعرف من الجود إلاّ اسمه ..!

دلفت إلى حجرتها تنظّفها ، وترتّبها فرحة مسرورة ، وضحكات البنات تعلو وتخفت . ثمَّ اختفت ضحكاتهنّ .. كنّ يتدافعن ، ليتمكنّ من رؤية البطيخة بشكل أفضل .. ماذا حدث !؟

خرجت من الحجرة . لقد نامت الصغيرتان على الأرض بجانب نافذة القبو ، وهما تحلمان بطعم البطيخ اللذيذ ..! اقتربت الأمّ منهما ، وحملتهما إلى فراشهما . لفت نظرها بثور انتشرت في أيديهما ، وعلى عنق إحداهما . فكرت مليّاً .. ساءلت نفسها طويلاً .. طردت الوساوس .. دعت ربّها أن يخيب ظنها ، بما أوحته لها هذه البثور !

أمّا تسبيح ، فما زالت أمام نافذة القبو، وقد عدّلت جلستها، لتصبح أمام البطيخة تماماً! تحرّكت طويلاً قبل أن تجلس ، كمن يريد أن يصوّر شيئاً. كانت بعمر الورد ! تجاوزت ظاهر البطيخة إلى داخلها ؛ إلى لونها الوردي الجميل ، وحلاوة مذاقها اللذيذ . غاصت في داخلها.. تربّعت على عرش أحلامها .. انطلقت في عالم جديد ، مندفعة ، محلّقة سعيدة . رأت عالماً سامياً بكل معانيه.. رأت قباباً ، وخياماً من اللآلىء ، كلّ واحدة منها مجوّفة ، كبيرة ، يتلألأ داخلها من خارجها ، لبنة من فضة ، ولبنة من ذهب ، ملاطها المسك ، ترابها الزعفران ، على سرر موضونة ، منسوجة بالذهب ، ومشبّكة بالدرّ والياقوت ، يطوف عليهم ولدان صغار ، وأكواب من الذهب والفضّة ، أكواب لا خراطيم لها ولا آذان ، وأباريق وكؤوس تملأ من عين جارية معين . أناسيّ كثيرون ينهلون من هذي العين ، لاتصدّع رؤوسهم ، ولا تنزف عقولهم .. يطاف عليهم بما يتخيّرون من الثمار ، ولحم طير ناعمة ، كنعومة أهلها ، وحور عين كأنهن اللؤلؤ الرطب ، في بياضه وصفائه ، جزاء بما كانوا يعملون ، لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً . وهنّ يتحلّقن حول أمّهنّ ، صورة كل واحدة منهنّ أجمل ممّا كانت عليه من قبل ، كبدر في ليلة تمامه ، والغلمان يطوفون عليهنّ ، أيضاً ، بصحاف وأكواب من ذهب وفضّة ، كل كوب من هذه الأكواب ألذّ وأطيب من الآخر ، ينهلن من عين ماؤها سلسبيل ، تحيط بهنّ أنهار من عسل ولبن ، والأشجار الباسقة تحيط بالمكان ، بظلالها الوارفة ، وقطوفها الدانية  . أكلن جميعاً من الفواكه والأعناب ، دون تعب ومشقة . صاحت الأم : تسبيح ، تسبيح . لم تتحرك تسبيح .. اقتربت منها .. تابعت حديثها : ماذا حدث لك !؟

فركت عينها .. صحت على واقعها .. قطّبت حاجبيها .. تذكّرت .. إنه حلم ! تمنّت من أعماقها ، أن لا تصحو لترى البؤس والفقر ،  يضربان أطنابهما في كل مكان . فكّرت طويلاً بما رأت .. تذكّرت سورة الواقعة التي حفظتها أماناً من الفقر ، وكذلك الحديث الشريف الذي حفظته عن الجنّة .. ردّدته في نفسها : ( من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس ، ولا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ، في الجنة مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) . تساءلت : ولكني لم أرََ في حياتي مارأيت .. كيف أبصرت عيناي هذه الصور البديعة !؟ تذكّرت والدتها ، كم قصّت لهن عن الجنّة ونعيمها ، وما حفظته من القرآن ، وكيف سيعوّض الله لهنّ ، في الآخرة ، درجات ودرجات في الجنّة .. والدنيا بكل بهارجها زائلة لا محالة ، بل لا تعدل عند الله جناح بعوضة !

حمدت ربّها ، وتذكّرت أسماءهنّ ، المختارة من نعيم الآخرة وآلائها .

تهلّلت  .. صاحت : أماه .. سأحكي لكّن ما رأيت .. إنها حقيقة لا حلم . اقتربت من أختيها ، فرحة مسرورة .. تريد أن تشاركاها فرحتها .. صاحت الأمّ : اتركي أختيك فهما مريضتان ، رقبتاهما محمرّتان ، يسيل منهما سائل أصفر، وأصابعهما كذلك .. أخاف أن تكونا..! تردّدت.. صمتت.. اغرورقت عيناها بالدموع . صمتت تسبيح لِما رأت من أمّها .

استيقظت الصغيرة تحكّ إحدى يديها بالأخرى : أمّاه ما هذا !؟ إنه يحكّني !

قالت الأمّ : لا بأس ، يابنيّتي .. لا بأس ! ستشفين قريباً.. إن شاء الله .

قالت أفنان : ماما .. البنات في الصفّ أيديهنّ مثل يديّ ، والمعلّمة طلبت منهنّ أن يعتنين بالنظافة .

قالت الأم : الله يلطف !

في هذه اللحظة فُتح الباب ، دخل الأب وسمع جزءاً من حوارهن . صاح : ما الأمر !؟

أخبرته بما ألمّ بطفلتيها . قال الأب : لماذا لم تخبريني!؟ وبصورة غير شعورية ، بدأت الأمّ تحكّ يديها .

صاح الأب : ماذا !؟ وأنت كذلك تهرشين ..!؟ رفعت الأمّ يدها ، متجاهلة حكّة في وجهها وإحدى رجليها .

تابع حديثه : منذ متى وأنتنّ على هذه الحال ..!؟

صمتت خائفة من غضبه .. تحوّل برأسه ، تبرّم . ماذا يعمل ؟ ضاقت نفسه .

قالت الزوجة : طوّل بالك يارجل ..  ليس هناك ما يضرّ إن شاء الله .. حكّة عارضة ، وستزول بإذن الله .. ما جعل الله من داء ، إلاّ جعل له دواء .

هزّ رأسه وقال: الله يلطف .. ماكان ينقصنا إلاّ المرض! مرض يعني حفنة دراهم . قال في نفسه : ما هذا البلاء الذي انصبّ عليّ !؟ ألا يكفيني !؟ مصروف البيت عجزت عنه .. مرض !؟ يا سلام ..!

هيّء نفسك ، يا أبا الجود ، لسيل من الدارهم لا ينتهي !

أطرق ببصره أرضاً يفكّر مهموماً . قالت الزوجة : يارجل .. ستّون قرشاً ثمن مرهم ، تزيل البأس ، إن شاء الله .

صاح الزوج : إيه !؟ ستّون قرشاً ! ردّدها مراراً ، وانصرف .. خرج من بيته ، والعالم كلّه يزداد ضيقاً من حوله ، فكيف بملابسه التي تلفّ جسده !؟ فتح أزرار قميصه .. تنهّد طويلاً .. صفع جبهته ، وسار متابعاً طريقه ..

إلى أين لا يدري . وهو يكرّر ستون قرشاً..!؟

وفي المنزل قُرع الباب .. جاءت العمّة بشيرة .. كانت مقلّة في زياراتها لبيت أخيها ؛ إذ طالما سمعت أخاها يردّد: ضيوف يعني مصاريف إضافية !

رحّبت الزوجة بها ، وهيّأت مكاناً لجلوسها . كانت رقيقة ليّنة الجانب .. مرهفة الحسّ ، ذات ذهن متفتّح ، كريمة .

علمت بما ألمّ بالأسرة .. خرجت مسرعة .. وأحضرت الدواء .

إنّه دواء خاص بالجرب ، إنّها ذات حنكة ، وخبرة بالحياة وشؤونها . دخلت الصغيرتان فراشهما ، احتضنتا اللحاف ..

انكمشتا تحته . كانت دموعهما تنساب بصمت .. نظرت إحداهما إلى أختها خلسة ، وهي تعبث بخصلات شعرها.. رأت الدموع تنساب بغزارة ، ترسم خطوطاًعلى وجه أختها ، غطّت وجهها .. أدارت ظهرها .. وغطتا في سُبات عميق ..

وما هي إلاّ أيّام ، حتى تماثلت الأسرة للشفاء التامّ . شكرت الأمّ ربّها على نعمائه . مضت الأيام ، والأب بعيد عن أهله وبيته .. لا يعرفون له مقراً ولا سكناً .. قلقوا عليه .. سألوا عنه في كل مكان .. خافوا أن يكون قد أصابه مكروه .. كرّروا السؤال عنه ، المرّة  تلو المرّة .. لا جدوى ! بكت الأمّ كثيراً لغياب زوجها .. تصدّع رأسها .. تقرّحت عيونها . ظلّت كلماته الرعناء تقرع رأسها : أمثالك هنّ سبب المجاعات في آسيا وأفريقيا ، وسائر أنحاء الدنيا ! في البداية حسبته يمزح ، ثمَّ رأت الجدّ في عينيه . قالت في نفسها بلوعة وانكسار: ألا يكفي ما أنا فيه .. حتى أحاسب على مجاعات العالم !؟

أحسّت بجفاف في حلقها ، وغصّة تتلوى في روحها .. سحبت جسدها المنهك إلى فراشها.. حاولت الهرب إلى النوم..  لم تستطع .. هربت من التعب ، وانكسار روحها بالأمس أمام العمّة ، التي مازالت تتردّد يومياً لتأمين طلباتهنّ بكرم وسخاء .

إنها نعمَ المرأة .. هي على طرفي نقيض مع أخيها ..

ياسبحان الله .. ولله في خلقه شؤون ! تساءلت : لولاها.. ماذا كان سيحلّ بنا ..!؟ ثم استدركت في نفسها : إنّ الله يهيّء الأسباب. استجمعت أفكارها المشتّتة ، وعواطفها المتناثرة.. تماسكت .. عادت إلى رشدها صابرة متصابرة .. تطرد من خاطرها ما ألمّ بها ، من لسعات الحاجة والعوز الحارقة ، وهي تستعيد ما سمعته منه مراراً ، وهو يناقش صاحبه بالصفقات الرابحة ، وعائداته السنوية ، وصاحبه يصفه بالاقتصادي الواعي .. يضيف ربح السنة كاملاً، إلى أمواله ويستثمرها ، دون أن يفرّط بقرش واحد منها ، خارج إطار التجارة ! حينما طلبت منه ملابس ، بمناسبة العيد ، زجرها قائلاً : ولمَ التبذير يا امرأة . ألم يقل جلّ شأنه : ( إنَّ المبذّرين كانوا إخوان الشياطين ) !؟ ألم يقل: ( ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً ) !؟

ردّدت في نفسها ، ولم تستطع أن تواجهه ، خوفاً من الزجر أمام بناتها : أيّ فهم لكلمات الله هذا ؟! مثله مثل الذي يترك صلاته متذرّعاً بالنهي الرباني ( ولا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى ) آخذاً بالشطر الأول من الآية ، وتعمى بصيرته عمّا يليها ! صحيح ( إنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) !

يا سبحان الله ! حتّى آيات القرآن الكريم ، نفسّرها تبعاً لأهوائنا !

سرت حرارة الإيمان في دمها .. لا شيء يريحها ، ويذهب همّها ، إلاّ رحيق كلمات الله ، تنهلها عذبة ، فتريح نفسها في كل كلمة .. تابعت آياته : ( ومن يوقَ شُح نفسه فأولئك هم المفلحون )  قالت في نفسها: لا حول ولا قوة إلاّ بالله .. كلمات واضحة وصريحة ! وكذلك حديث رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، في قوله : " إيّاكم والشُحّ ، فإنه أهلك مَن كان قبلكم " .. وفي قوله : " لا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب عبد أبداً " .

اعتادت أن توقظ بناتها لصلاة الفجر ، وقراءة جزء من كتاب الله . صلّين قبل الفجر ما شاء الله لهنّ , وجلسن لسماع تلاوة القرآن . كان صوت تسبيح جميلا وعذباً .. انهمرت الدموع سخيّة .. غسلت أدران القلوب .. صفت النفوس وهنّ يتذوقن  نبع الإيمان.. ارتشفن حلاوته .. إنه النبع الذي لا ينضب .. تُجلى به الهموم .. وتُذهب به الأحزان !

مرّت السنوات سراعاً ، وهنّ يتابعن دراستهنّ . وبمضيّ السنوات ، أصبحت تسبيح في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية ، وأختاها تسنيم وأفنان في المرحلة الإعدادية ، وهنّ بحاجة إلى كل دقيقة ، لتحقيق رغبتهنّ ورغبة الوالدة الغالية ، في الدراسة والتفوّق . تأمّلت الأم بناتها طويلاً ، وهن يدرسن بجدّ واجتهاد . لقد رسمت لهنّ مستقبلهنّ ، عبرأحلام جميلة ، تلائم رغبة كل منهن وإمكاناتها ! تسبيح طبيبة أطفال ، وتسنيم مهندسة مدنية . أمّا دلولة أمّها آخر العنقود ، فأديبة لامعة ! كنّ يبتسمن ، موافقات على تحقيق مخطّط أحلامها وآمالها ! استعدّت كل واحدة منهنّ لتذهب إلى مدرستها . ودّعتهنّ بعيون برّاقة ، تشعّ ذكاء وفراسة محبّبة .. نظرن إليها ، أكبرن صبرها وجلَدها بصمت .. حفظت لهنّ صورة والدهنّ ، على مر السنوات ، بعيدة عن أيّ خدش أو تشويه ، معلّلة تصرّفاته وأفعاله بما يناسب الظرف ، دون مبالغة أو تقصير ..

ما زالت تبذل الجهد غير اليسير ، لتلقينهنّ مبادئ الخياطة والأشغال اليدوية ، في كل عطلة مرّت عليهن . إنها مثال الأمّ الصابرة المبدعة . دلفت مسرعة إلى حجرتها .. اغرورقت عيناها بالدموع ، خوفاً من المستقبل الغامض لغياب زوجها ، وهي لا ترى أملاً محسوساً يعينها على تصوّر عودته .. لا أمل إلاّ بالله .

وتتوالى السنون ، وما يزال أبو الجود غائباً .

فجأة ، سمعت صوتاً ، قُرع معه الباب .. فتحت الباب.. دخل الزوج متهللاً مسروراً . قبّلها .. غاب بعيداً .. قبل يديها .. اعتذر طويلاً ، نسيت قسوته وقسوة الأيام . ضمّها مراراً .. التأمت روحها الممزّقة ونفسها المحطمة .. تبادلا الأحاديث .. عاتبته طويلاً .. وضعت رأسها على صدره .. غفلت كطفلة صغيرة بين يديه.. زالت الجراح .. عاد أبو الجود ، بسترة جديدة !

وعدها بالتزامه بواجباته الأسرية .. أعادت تتويجه على مملكتها الصغيرة ، تربّع من جديد ، اعترف لها بحبّه وإعجابه، فهي التي حافظت على بيته من التشرّد والضياع .. أدارت شؤونه .. رعت بناته ، ربّتهن على الفضائل ومكارم الأخلاق ، هيّأت لهنّ سبل الدراسة .. أزاحت عنه عبء المصاريف بحسن تدبيرها وحنكتها .. سهرت الليالي الطوال ، وهي تعيد صياغة ملابسها لبناتها .

تفقّد بيته غرفة غرفة .. سرّ بهدوئه ونظافته وترتيبه .. تساءلت في نفسها : أين كانت تلك المحاكمة العقلية ..؟!.

أحسّت أنه إنسان جديد . مضت شهور وشهور . صحيح أنه لم يكن كما وعدها ، لكن الأصحّ أنه لم يستطع ، ولكنه أقلّ سوءاً واضطراباً ، منه في تلك الأيام الخوالي .

ها هي ذي تستعدّ لاستقبال مولودها الجديد . تألمت كثيراً .. عانت .. اشتدّت آلام الوضع .. صرخت صامتة ، تأمّلت صابرة ، كعادتها .. لم تعد تطيق الألم ، وهي بين يدي القابلة أم أحمد ، الجارة الطيّبة البسيطة . طلبت منه أم أحمد ،   الإسراع في طلب سيارة الإسعاف ، فوضع زوجته محرج للغاية ، وعليه الإسراع ، فهي تحتاج إلى مستشفى . 

قالت أمّ أحمد : إن ولادتها صعبة جداً ، والعلم عند الله !

ارتعدت فرائصه ، دوّت كلماتها في أعماقه : ماذا..!؟

تململت الزوجة ، دار رأسها يَمنة ويسرة .. بصوت مرهق مخنوق صاحت .. نظرت إلى بناتها مشفقة ، مودّعة ، كمن أحسّ بدنوّ أجله ..!

أُدخلت إلى غرفة العمليات .. رافقوها إلى نهاية الصالة..  أُقفل الباب .. جلسوا في بهو الانتظار ، قلقين ، مترقّبين . مرّت الدقائق ثقيلة ، وئيدة . مضت ساعة .. ساعة ونصف..

فُتح الباب ، هُرع الجميع إلى الممرّضة ، سألت الممرّضة عن زوجها ، وقد التفّت البنات حولها " الحمد لله ، لقد أنجبت لكنّ أخاً وسيماً مثلكنّ " . صاحت تسبيح : أمّي ، كيف حالها ؟

صاح الزوج : اخبرينا بالله عليك ..هل زوجتي بخير ؟

صمتت .. تلعثمت .. أدارت ظهرها.. عادت إلى غرفة العمليات . بعد لحظات أُخرجت عربة المستشفى . الأمّ ممدّدة غُطّي وجهها! فزع الجميع ، انكبّوا عليها، والممرّضة تدفعهم.

كانت صدمة قاسية أذهلت الجميع ، صُعقت النفوس .. اضطربت ! كانت الملاذ الأوحد لهم .. كل دنياهم ، وعماد حياتهم . وقف الزوج بعيداً ، شارد الذهن ، مطاطىء الرأس ، ينظر إلى الطفل ، ويتلفّت حوله يمنة ويسرة . لم يعتد على تحمّل عبء المسؤولية .. لقد دُمّر بيته . فكّر مليّاً..

عادت الأفكار القديمة تراوده ، فالوفاة تعني أعباء إضافية ! أجرة نقل ، أجرة دفن ، قبراً.. قال في نفسه : متى أنتهي من نزف الدراهم !؟

عاد الجميع إلى البيت ، بغيمة حزن ضبابيّة . عادوا والأسى يرافقهم ، والحزن يعتصر قلوبهم .

كانت صورة والدتهنّ تشعّ من كل ركن ، كل زاوية ! حملن الصغير.. أشفقن عليه .. مولود يتيم .. صدى صراخه يتردّد في أرجاء البيت ، فيعمّق آلام الجرح الذي تركه غياب الأمّ ! إنهنّ في ضياع قاتل ، وفراغ رهيب ...

أخذت العمّة الطفل ، وضمّته إلى صدرها. بقيت أياماً بينهم.. فكّرت بإسكان الأولاد كلهم ، في بيتها ، فهو أوسع لهم ،

والبيتان واحد .. لا فرق !

عرضت الفكرة .. تنحنح الأب قليلاً ، وهو يتصنّع الاهتمام..  أدار رأسه إلى جهة بعيدة .. أخفى رغبته في ذلك ، علّه يخفي ماعُرف عنه من تقصير ...!

تلفّت حوله ، قال : لا بأس ، لابأس . قالت العمّة : لي طلب واحد : أن تحضر إلينا ، ألاّ تغيب عنّا ، فكلنا بحاجة إليك . نظر متخوّفاً.. قال في نفسه ممتعضاً : يبدو أنني لن أرتاح .. لن أرتاح من هذه المسؤولية ووجع الدماغ !

أمّا العمّة الطيّبة ، فقد توفّي زوجها ، وترك لها أموالاً طائلة،   وثروة بشريّة هي أعزّ وأغلى ، إنهم شباب ثلاثة ، في غاية الصلاح والتقوى ، والنبوغ ! أكملوا دراستهم الجامعيّة بتفوّق ونجاح ، وهاهم أولاء ، يعملون في مستشفى خاصّ بهم ، بذكاء  ودأب ، ومثابرة . برعوا في ميدان الطبّ الجراحي ، وأمراض القلب ، والطبّ النفسي .

مرّت الأيام سراعاً ، والبنات يتابعن دراستهن الجامعيّة . لقد عملت العمّة بوصيّة والدتهنّ ، الخاصّة بمساعدتهنّ على مواصلة تحصيلهنّ العلمي .. وضعتها أمانة في عنقها !

ومرّت الأيام ، والأعوام .. وبدأت المرأة تشعر بميل أبنائها إلى بنات خالهم..! قرّرت ، بعد موافقتهن ، أن تعقد قرانهنّ .. كل واحدة منهنّ آية في التدّين والأدب والجمال .. لن تحظى بزوجات لأولادها أفضل منهنّ !

رفرفت السعادة في ديارهم .. وأقام الودّ بينهم ، بفضل ما تمتّعت به تلك المربّية الوقور، من دين وأدب !

أمّا رامي الصغير .. حبيب الكل .. فقد أصبح شاباً .. رضع الحبّ والحنان على يدي عمّته بشيرة ، وسيكمل دراسته الجامعيّة في الطبّ البشري . أمّا الأب ، فكان نادراً ما يحضر إلى بيت أخته..! إنه يتوجّس من الطلبات .. ربّما طلبت البنات شيئاً من الدراهم ! يُقصي عواطفه درءاً للطلبات !

في أحد الأيام ، يطرق باب الفيللا ، بعصبية ونزق .. تخرج أخته بشيرة ( أم سليم ).. إنه منهار ، كمن خرج ، تواً ، من تحت الأنقاض ! أسرع ابنه رامي ، حضنه بقوّة .. مسح دموع والده ، التي انساحت عبر الأخاديد في وجهه ! إنها المرّة الأولى ، التي يرى فيها الأحزان ترتسم على وجهه ، تستحوذ على تعابيره كلها ! ذرف دموعه  بغزارة .. طأطأ رأسه لا يريد أن يرفعه ، كمن أخفى جريمته بين جنبيه .. وكأن جبال الأرض أطبقت على صدره !

وصل غرفة الجلوس بمساعدتهم ، أومأ لهم بأنه يريد أن يستلقي .. لم يستطع .. حاول مرّات عدّة .. وهم ينظرون إليه بذهول وحيرة ! ولم يستطع أيضاً ، أن يخبرهم شيئاً عمّا هو فيه .. إنهاغصّة قاتلة ..!

التفّ أولاده حوله .. كل منهم ينظر متسائلاً ! كان يشير إلى صدره ، إنّه يُذبح ! لقد عرفوا ، أخيراً ، أنّ أمواله التي لا تُحصى ، ولا يعرفون عنها شيئاً ، نهبها صديق محتال ..!

اعترى الذهول الجميع ، وهم يسمعون بالمبالغ الطائلة التي ذهبت سُدى ! حرموا منها جميعاً ، بجشع والدهم ، الذي كان يسري في أوصاله ! كلما حاول أن يُخرج شيئاً منها ، تخرج يده خائبة ذليلة ! عظُم المال في عينيه ، وصغرت كل مصيبة أمامه !

 تحركّت عواطف والدهم المجمّدة ، أخيراً.. تحرّكت أمام فجيعته بالمال ، الذي وضعه الله أمانة بين يديه ، فقاسوا من ضنك الحياة مرارات شتّى ، ومن العوز والحرمان ألوناً شتّى ! لقد عصف البؤس بنفوسهم ، لتجمّد عواطفه ! أجهش بالبكاء.. انهمرت الدموع من أعين الجميع .. ! آه .. لقد عرفت العواطف ، أخيراً ، طريقها إلى قلبه الحجري ، حين نسِِف حصن الجشع،  وتناثرت أشلاؤه ، فعبرت المشاعر الإنسانية الدافئة ، إلى جنبات الصدر المتجمّد ، دون قيود ..!

انزوت العمّة تتأمّل .. تدفّقت الحِكمة من بين شفتيها ، بكلمات رصينة بديعة : " مَن كان بخيلاً ، ورث مالَه عدوّه " ! تأمّلت طويلاً ، هذه الصورة المحزنة ..! تكلّموا كثيراً .. الاحتساب والصبر خير دواء : تجرّعناه أطفالاً ، واعتدنا عليه شباباً..! نظر إلى أبنائه .. قطع الحزن والندم قلبه .. ضمّهم مراراً .. غُسلت صفحات وجوههم بدموعه .. شعر بالصَغار ..

دخل الحجرة التي أُعدّت له .. استلقى على سريره .. قلبه يتمزّق .. يُذبح .. يصارع الأفكار .. جمع ثروته من جوع أطفاله وزوجته ، وآلامهم .. صبروا واحتملوا .. عوّد أذنيه على ألاّ  تسمعا لهم صوتاً ! عملت الزوجة ، جاهدة ، لتحفظ له غيبته وكرامته .. تلك الحنون الصابرة .. كثيراً ما تجاهل حديثها .. هرب بأذنيه ، بعيداً عن موجات صوتها ! كانت طبولاً تقرع ، في أعماق شحّه الراسخ ! نسي ان خالق العباد خلق أرزاقهم.. ضعف الإيمان يورث ضعف الثقة بالرازق الوهّاب ! صارع شبح الفقر بالشحّ والجشع ، وهاهو ذا يقع صريعاً.. صفر اليدين ..!

جراح الحزن أدمت قلبه .. نهض مسرعاً بين يدي خالقه ، يطلب العفو والغفران .. أقبل بأشلائه الإنسانيّة .. نطقت خلاياه بالتوبة والاستغفار.. قضى ليله يبتهل ، يصلّي ، لعلّ الله يقبل توبته . بزغ فجر جديد .. تسابق أبناؤه إلى إيقاظه ..

وقف عند الباب شاحباً .. تسابقت نبضات قلبه المتسارعة إليهم .. هرب مرّات ومرّات من عيونهم .. إنهم شواهد ماثلة على بخله ، وإحساسه بالصَغار سيجهز على قلبه ، لا محالة .. بالأمس شعر بسكاكين تمزّق قلبه ..

نادت الأخت بشيرة : الفطور جاهز، يا أبا الجود .. هيّا .  عاد إلى سماع لقبه من جديد ، ذبحته مأساته .. تحامل على نفسه .. جلس بينهم على الطعام بجسمه ، وقلبه ينزف ألماً..

كانوا خير مؤنس له ، يخففون ألمه وأعراض مأساته .. جال بصره في وجوههم .. وقال في نفسه : ما أجمل الحياة .. حياة هانئة سعيدة ! تسابق أبناؤه إلى وضع الطعام في طبقه ،أولاً.. تصنّع الابتسامة .. اختلس نظرات إلى الجميع مرّات ومرّات .. الجميع فرحون بعودته إنساناً سوياً ! تجاسر.. تماسك .. طلب من رامي أن يقيم مستشفى خاصاً به ، مكان البيت القديم ،  يخصّص فيه يوماً للفقراء والمساكين .. وأن يجعل الجهة الشرقية من الأرض مسكناً ، والطابق الأرضي مضافة يؤمّها كل معوز . نظر رامي باستغراب : لماذا الجهة الشرقية ، بالذات !؟  نظر الأب ، وهزّ رأسه : مكان القبو القديم . تقطّعت كلماته.. وقع على الأرض.. التفّ جمع الأطباء حوله..  فاضت روحه .. عجزوا أمام قلبه الذبيح .. { إنّا لله وإنّا إليه راجعون } .. .

حمدت العمّة بشيرة ربّها ، على توبة أخيها.. فقد سمعت مراراً أن الأرض تقول ، والحفظة يقولون ، إذا مات البخيل : اللهمّ احجب هذا العبد عن الجنّة ، كما حجب عن عبادك ما جعلت في يديه من الدنيا !

لقد عاش الرجل بقلب ميّت ، إلاّ أنه مات بقلب حيّ . فجيعته بزوجته الصابرة المحتسبة ، لم تعِد الحياة إلى قلبه المتيبّس ..

أعادها شيء واحد ، هو تحطّم الوثن الذهبي ، الذي تعلّق به ذلك القلب ..

إنّه المال .. أمات قلبَه بوجوده .. فأحياه الله بنزعه من بين يديه ، لحكمة لا يعلمها سواه ..

وسوم: العدد 664