قصة الشهيد محمد عبد الناصر فاخوري 

قصة شهيد

قصة الشهيد محمد عبد الناصر فاخوري 

كنت أتمشى عصر ذلك اليوم في ساحة المزرعة وأجهز نفسي للذهاب لإحضار ولدي تسنيم ومحمد من المعهد المدرسي في بلدة أورم الكبرى إحدى بلدات ريف حلب الغربي.

قاربت الساعة السادسة مساءً سألت أخي طارق وكان موكلاً بإيصالهم وإحضارهم إلى البيت متى تذهب في العادة لإحضارهم، أجابني في الساعة السادسة وعشر دقائق في تلك اللحظات شاهدت طائرة الميغ تحلق في السماء، علّقت زوجتي نور عليها قائلة: جاءت الغولة، رأيتها تحوم في السماء تبحث عن فرائسها وأنا أنظر إليها، قليلاً ما كنت أستطيع تحديدها وفي تلك اللحظة شاهدتها تطلق صاروخ أضاء السماء من نقطتها، قلت لأخي طارق أنها قد ضربت، قال لي: لم تصدر صوتاً، أجبته قائلاً: رأيت النار تخرج منها وبدأت أهم بالذهاب فإذا بباب المزرعة يطرق بشكل غريب وسمعت صوت سيارة مسرعة، أسرعت إلى الباب لأشاهد تسنيم كبرى أولادي تجهش بالبكاء وعلى وجهها آثار الرعب والخوف تكاد كلماتها المتلعثمة والمبعثرة لا تفهم.. "بابا.. بابا.. الحق حمودة ضربته الطيارة في المعهد"، صعدت إلى السيارة وشعرت بالدم الحار يجري في عروق وجنتي ورأسي وعيوني، لم أستطع بالضبط تحديد الصورة، عمدت على تشغيل السيارة وصعد معي زياد وطلب مني القيادة فأصررت على أن أقود بنفسي، وفي طريقي لأورم شاهدت حركة السيارات الغريبة والمسرعة والذعر عند عموم الناس، بدأت أدرك أن شيئاً كبيراً قد حدث، تبعد أورم عن المزرعة 3 كم، وصلت إلى مفرق المعهد، كأن يوم الحشر وكأن الناس يخرجون من قبورهم يبحثون عن ذويهم بين الناس يسيرون حركة السير، أوقفوني يمنعون الناس من الذهاب لموقع الضربة وعندما علموا أن ابني في المعهد قالوا اذهبوا إلى مشفى الأتارب المصابين جميعهم في المشافي، تابعت القيادة باتجاه الأتارب والسيارات تتطاير في طرفي الشارع وصفارات الإسعاف والإنذار تدوي وتطلق في كل مكان والناس على طرفي الشارع يحاولون إفراغه إلا من الإسعاف والمصابين ومع اقترابي من المشفى شعرت بأن شيئاً مهولاً قد حدث وجوه الناس تنطق بالسخط ، حركات أيديهم ترتفع إلى السماء أمام باب المشفى، مئات الرجال والنساء والشباب والبكاء لغة الجميع، كلمة يتناقلها الجميع قولو حسبنا الله ونعم الوكيل دخلت باب المشفى وكأني أولجت لعالم مختلف للوهلة الأولى، تذكرت هيروشيما الأسرة المنقلبة، الوجوه الملتهبة، الأجساد العارية، الجلود المنسلخة، أصوات المصابين والمسعفين والباحثين عن أولادهم وذويهم تختلط مع بعضها، يمتزج الصراخ بالدعاء.. بالبكاء.. بالرجاء ليصوغ لحناً مقاطعة تتأجج بالدماء.

على باب المشفى أراد المسؤول عدم السماح لي بالدخول، وعندما علم أن ابني من بين المصابين، أذن لي على مضض، دخلت قاعة الإسعاف وأحسست بدورة الزمن تتسارع قد ألقاه في هذا السرير، فلا أجده وانتقل إلى السرير الثاني، أتريث قليلاً، الوجوه مشوية والأيدي مسلوخة والأرجل ملتهبة، تمعنت قليلاً أحادث نفسي "أكيد لن يكون بنفس الجمال ولا بنفس الوضاءة وليس بتلك الضحكة والغمازات التي ميزته طيلة حياته ومنذ ولادته" يقذفني سرير ليتلقاني آخر، يصدمني مصاب ليفزعني آخر وأنا في دوامتي أسرع إلي في أحد الغرف طفل من أقران محمد ليناديني "عمو.. عمو.. هل عرفتني أنا ابن جيرانكم ابن أبو الفدا.. الله يخليك يا عمو خبر أهلي أني موجود في المشفى" أجبته "تكرم عيونك عمو بس هل شاهدت حمودة ابني" صمت محمد فدا وبجانبه أخته وضعت يدها على فمها كأنها تريد أن تخفي شيئاً، وأسرعت بالقول أن أخته بخير تعني ابنتي تسنيم، كان محمد فدا يقف على رجليه والنار تلظى جسمه لا أدري ما الذي كان يسيل في جسمه، هل هي طبقات جلده أم أحاسيسه ومشاعره وآلامه، خرجت من الغرفة لأبحث في أخرى بدأت أشعر أني ابتعدت عن محمد وأنه قد بدأت رحلة الفراق خرجت من باب المشفى وأنا أتلفت يمنة ويسرة أسأل وأتوسل وأستجدي وأنادي عن من سمع اسمه أو شاهد رسمه، سمعت في تلك اللحظات زفرة الموت وشهقة الروح وبحة المتوسلين إلى الله وتضرع المظلومين واستغاثة الملهوفين، سمعت صوت السماء وصدى الألم في جنبات الكون.

في باحة المشفى من طرفه الغربي، شاهدت سيارة "بيك أب" وصوت الناس يتهامسون عن وجود أربعة جثث متفحمة لطفل و3 بنات، اقتربت من تلك السيارة ومعي أخي زياد، كشفت الغطاء عن أول جثة وأسرعت بتغطيتها، لم أتصور أن هذا قد يكون وجه إنسان، الصدمة أكبر من العقل والجريمة أكبر بكثير من المجرم والمصيبة لا يمكن أن تتصور بحواسنا ومنظورنا وعقولنا تمتمت بتلك الكلمات لا أدري أصداءها وأبعادها (الله يكون بعون أهله ويصبر أمه على هذا المنظر).

الجثة الثانية، شاهدت عظم الكتف وجمجمته متفحمة وبقايا ثدي تذكرت معنى القول (لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر) بحق ثواني من نظرات ولمحة من البصر حفرت في ذاكرتي ما عجزت عنه عشرات السنين.

ماذا حدث:

خرجت من المشفى مع أخي زياد خالي الوفاص صفر اليدين، أبحث عن ألمي.. أبحث عن وجعي.. أبحث عن جرحي.. عن وجداني.. عن ذاتي.

أمني نفسي أن أجدها بين الأسرة المدماة أو بين الجثث المسجاة.

كان أخي زياد يقود السيارة..خرجت من فمي تلك العبارة بعد شرود وذهول (راح الولد يا زياد).

أجابني زياد "وكّل الله يا أبو محمد"

في تلك اللحظات أحسست أني فقدته، أدركت أن يداي أفلتته، في تلك اللحظات بدأ شريط حياته ينساب أمام دموعي من يوم مولده ولساني يحتسب ويحوقل ودموعي تستجدي صوته ورسمه وهمسه وحسه.

محمد يا ينبوع الحب يا معين الطيب.. محمد يا ضحكة الزمان..

محمد يا براءة الأطفال.. محمد يا فرحة الأيام..

محمد يا هدية السماء.. محمد يا أعذب من كل ماء..

محمد يا فرحي يا حزني يا ألمي يا أنسي يا وحشتي يا شقائي يا سعادتي يا بضعته مني ومن دمي يا صرختي يا حسرتي يا زفرتي..

محمد يا وجداني في الأرض ومعراجي إلى السماء.. يا صدى روحي يا طيف ملائكتي يا صوتي في الأرض ودعائي للسماء..

أناديك يا زين الشباب.. أناديك يا زهرة الحب..

أناديك يا طفلي يا صغيري يا عمري يا دمعتي يا عبرتي يا غصتي وشقائي يا أملي وسعادتي يا حبي وفرحي يا لوعتي يا ضحكتي يا جنوني يا تعقلي يا كبدي

أنادي براءتك.. أنادي شقوتك.. أنادي حماقتك.. أنادي جنونك.. أنادي فرحتك.. أنادي حماقتك..

في غمرة الآلام وزفرات الموت شعرت بطيفه حولي يسمعني ويناديني ويشاركني أحزاني وآلامي.

نبضات قلبه تطرق أذني، همسات روحه تداعب عيني، صدى ضحكته يتردد في جنبات الطريق، حركاته نظراته كلماته تتقاذفني من كل صوب.

بدأت رحلة البحث عن الذات، البحث عن أجزائك المبعثرة، البحث عن سكناتك الضائعة عن أحاسيسك الهاربة ومشاعرك التائهة، اركض خلفها ألهث وراءها استجدي خيوطها المتفلتة من مشفى إلى مشفى ومن سرير إلى سرير ومن طبيب إلى طبيب، اسأل الحجر، اسأل الشجر، اسأل القمر، اسأل السماء وأسأل النجوم وقبل كل شيء أسأل الله أن يلهمني الرشاد وأسأل الله ألا أسقط في دوامة الضياع.

يا رب رضيت بقضاءك، يا رب رضيت بقدرك، يا رب أيقنت أن لا مفر من قدرك يا رب أسألك الهدى، يا رب أسألك أشهيد هو أم فقيد، يا رب أمصاب هو أم معافى، يا رب رحمتك، يا رب كربك، يا رب عفوك، يا ربي إحسانك، يا رب قوتك، يا رب لطفك ثم لطفك ثم لطفك.

عدنا إلى مشفى الأتارب بعد رحلة طويلة من مشفى باب الهوى إلى مشفى الدانا إلى مشفى جواد إلى مشفى أورينت إلى مشفى عقربات ولا خبر ولا شيء عن ولدي إلا دعوات بالصبر، دعوات بتحمل المصاب.

عدت إلى مشفى الأتارب وعاودت البحث من جديد بين الأسرة والغرف والمصابين حتى وجدت ممرض معه ورقة بأسماء الذين أرسلوا إلى تركيا حوالي 25 اسماً تفحصتهم بسرعة لم ألمح اسمه أو كنيته أو شبه اسمه فاجأني الممرض بأنه لم يسمع باسمه أو كنيته من قريب ولا من بعيد.

عدنا أدراجنا إلى البيت أنا وزياد وقلت له "محمد راح يا زياد، محمد استشهد يا زياد.. محمد لن يعود يا زياد.. محمد ليس صغيراً كي يضيع ولا أحد يعرف عنه.. محمد ليس صغيراً كي لا يعرف بيته.. محمد لن يعود.. محمد سلك طريقاً يوصله إلى الله ونحن نبحث عنه في طريق يوصلنا إلى أحلامنا.. محمد سلك طريقاً يوصله إلى الخلود ونحن نبحث عنه في طرق فانية.. محمد سلك طريقاً يوصله إلى أعالي السماء ونحن نبحث عنه في أغوار الأرض.. محمد سما بروحه إلى السماء ونحن نتحسسه بين الأشلاء.

دخلت المزرعة وإخوتي وأخواتي وجيراني وأولادي وعائلتي وكل صغير وكبير ينظر إلى شفتي إلى عيني يمني  نفسه أن أضيء لهم شمعة أمل تخبرهم أن محمد حي يرزق.

لم نجده ولم نجد له على أثر ولم نجد من سمع به.. كلمات مزقتهم، كلمات فرقتهم كلمات شتتهم، تفرقوا عني ضائعين شاردين مذهولين يتكلمون مع أنفسهم وبدأت نفوسهم جميعاً تقترب من الحقيقة وبدأت أحلامهم تبتعد عن أعينهم.

اقتربت مني زوجتي نور وأمسكت بأكتافي "وين راح الولد يا ناصر"

كلمات متوسلة، كلمات مسترحمة كلمات مستجدية، يفيض الدمع في حروفها يتلظى القلب من نارها، يدمي الفؤاد من لهيبها وأشواقها.

كلمات أم منكسرة الجناح، محطمة الفؤاد، جريحة القلب، أحسست ببراكين تثور في رأسي وبحار تزخر في فكري وأعاصير تضطرب في خلدي، أحسست بنفسي رضيعاً طفلاً صغيراً بين يديها أحسست بنفسي انكسر أتحطم أهوي من مكان سحيق.

انتشلتني عناية الله قائلاً لها طولي بالك يا نور.. الله أعطانا إياه وهو الوحيد اللي بياخده، له ما وهب وله ما أعطى لا تنسي أننا مؤمنون ومسلمون، أردت أن أعزيها أن أقويها أن أصبرها بكلمات تطفئ نارها وتأكلني أذكرها بآيات الصبر والتسليم وألم المصاب يمزقني، كان علي أن أعيش بدوامة الناقض والمنقوض الناصح والمنصوح.

ألم الصدمة:

أحياناً يتبادر لذهن الإنسان أن الحياة نهر جار ينساب في الوديان والسهول، تارة يزجز بالحياة وأخرى يذبل ويذوي كما تذوي أوراق الخريف، تمطر ساعة وتشمس أخرى، يضحك برهة ويبكي أخرى.

قاربت الساعة على الثانية ليلاً والمزرعة صغيرها وكبيرها لا يعرف النوم وهاجس المصيبة بدأ يستعظم وهول الحدث أخذ ضخامته وثقله في القلوب والعيون وكأن مدية الموت وخنجره ينهش في صمت هذه المزرعة في سكونها في ليلها في نجومها وسماءها وظلامها وجدرانها وفي أشجارهاوفي أعمق شئ فيها في روحها ونبضها.

وفي خضم هذه الآلام جاءت ابنتي تسنيم لتكلمني ودموعها تسبقها تكلمني بجراح قلبها وعويل نفسها ونشيج فؤادها وصرخات جنباتها وروحها كانت تكلمني بلسانها وعيون الدنيا تبكيها وأوجاع الدهر تأكلها، كلمات تخرج من فمها لكن ليست كالكلمات.

"بابا أنا شفت كل شيء..(بكاء).. شفت الطيارة..(بكاء).." تتقطع الكلمات تتمزق العبارات تجهش بالبكاء.

"شفت حمودة واقف بالباحة ناديت عليه... حمودة.. ادخل لجوا... نظر حمودة إلي وأشار بيديه مستغرباً وهو يضحك... مافي شي... ثم رأيت النار تشتعل به... شفتو بابا والله شفتو يعني وهو عم يحترق... وشلفتني النار لداخل الصف.. خرجت من الصف أنادي عليه.. محمد.. محمد.. محمد.. لم يسمعني لم يرد علي وشدوني إلى خارج المعهد"

طفلتي صغيرتي حبيبتي ماذا رأت عيناك.. أي قلب أبصر ما أبصرت.. أيعقل ما شاهدت.. في أي زمن عشنا وفي أي كون وجدنا.. لقد شاهدت نفسها تحترق يا رحمة الله يا لطف الله يا ستر الله.

"بابا ما بحسن أحكي هاالحكي لأمي.. حمودة مات حمودة استشهد حمودة احترق"

ولم أعد اسمع منها غير صوت البكاء

بتلك العبارات أوصلتني ابنتي لحدثي أوصلتني ابنتي إلى الحقيقة أوصلتني لعين المصاب بدأت أتيقن أن بعضي أخذ يبتعد عن كلي، شعرت أن جسدي انفطرت بعض أجزاءه وسارت إلي بعيد، شعرت أن روحي تناثرت وتبعثرت في جنبات الفضاء، وأنا أحاول أن ألملم أجزائي وأحزاني وأوهامي.

رثاء:

محمد يا ينبوع الحب محمد يا فطرة الله صافية نقية

لم تعبث بفطرتك يد الخلق ولم تلوثك سموم الحياة

محمد يا طفولة ليس لها نهاية يا طفولة تكبر وتشيخ ولكن لا تموت ولا تنتهي

محمد يا براءة هدتني إياها السماء

محمد يا كنز الله وهل يوجد أغلى من كنز الله

محمد يا ضحكة الزمان تهديها إلى كل إنسان محمد يا زين الشباب

محمد يا وداعة الإنسان في وجه الطغيان محمد يا هدية السماء

نثرتك كقطرات الندى تتهادى مع نسمات الصباح

محمد يا ركب الحب فنعم الركب أنت ونعم الحب

محمد يا زاد الخير فنعم الزاد أنت ونعم الخير

محمد يا ضي الزمان فنعم الضوء أنت ونعم الزمان

محمد يا نبض الأمل فنعم النبض أنت ونعم الأمل

محمد يا غمز الخد فنعم الغمز أنت ونعم الخد

محمد يا وجد الروح فنعم الروح أنت ونعم الوجد

محمد يا ضوء الصباح يا بسمة الأمل يا ضحكة الصفاء

يا ضجيج الحياة يا عمري يا ولدي يا حبي يا صغيري

يا طفلي يا غصتي يا لوعتي يا ألمي يا أملي يا سكينتي يا صرختي

يا حرقتي ويا دمعتي يا وجدي يا حبي يا دائي يا دوائي

يا قلمي ومدادي يا حروفي و كلماتي يا شوقي

يا حرف أبجديتي يا كنزي وسعادتي وشقائي

أبكيك وعلى أمثالك يبكي القلب وينتحب=أبكيك وعلى محراب حبك دموعي تنسكب

أهديك لجنة الخلد وأدعو الله وارتقب=تلاقينا عند الشفيع ووعده الحق يقترب

أبكيك ودموعي تحوقل عليك وتحتسب=وأصبر وصبري جميل عليك ينكتب

اقترب أذان الفجر وجفني وجفن كل من في المزرعة لم يغمض ولم ينم وقبيل الفجر وفي جوف الليل ركعت وزوجتي، ركعتي قضاء الحاجة ودعونا الله والتجأنا إليه وعيوننا تفيض دمعاً وقلوبنا تذرف دماً، نتضرع إلى الله ونلتجئ إليه وكان من جملة دعائنا، يا رب السماوات والأرض يا رب كل شيء ومليكه يا من يحتاجك كل شيء ولا تحتاج لشيء يا بديع السماوات والأرض يا من وهبتنا الحياة وما فيها وكتبت علينا الحياة والموت ووهبتنا وحرمتنا وأعطيتنا ومنعتنا وقضى أمرك فينا سلمنا إليك الأمر كله يا من يرجع إليه الأمر كله.

يا رب إن كان قد كتبت له الشهادة فنحمدك ونشكرك ونحتسبه عندك فلك ما أعطيت ولك ما أخذت رضينا بقضائك وسلمنا بقدرك.

يا ب إن كان من المفقودين طمأن قلوبنا برؤيته أو خبر يطمئن قلوبنا وتسكن له أفئدتنا يا رب لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه ونحمدك يا من لا يحمد على مكروه سواه.

وختمنا دعاءنا رضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام ديناً وبسيدنا محمداً نبياً ورسولاً، لله ما وهب وله ما أخذ، إنا لله وإنا إليه راجعون، حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومضت الدقائق كالسنين على قلوبنا وأذن الفجر، هذه أول ليلة يغيب فيها شمسنا عن بيته، هذه أول ليلة يحتجب قمرنا عن فراشه، هذه أول ليلة يفترق قلبنا عن نبضه، هذه أول ليلة يمتنع عن تقبيل أيدينا قبل نومه، هذه أول ليلة يغيب عن البيت صوته ورسمه وحركته وصراخه وضحكته وأنفاسه ولمساته، هذه أول ليلة أتأمل فراشه فارغاً وأنا أتصوره واستحضره بمخيلتي، استجدي دموعي وعبرتي، التمس طيفه.

صباح الثلاثاء الساعة السابعة والنصف وأنا في طريقي إلى المجهول، إلى قدر الله أمضي، إلى لملمة شتاتي وأجزائي المبعثرة، أمضي إلى حتفي إلى مقتلي إلى مصرعي إلى صاعقي.

سألني أخي زياد إلى أين قلت له إلى أورم الجامع الكبير نتفحص الجثث المتفحمة ومن بعدها لكل حادث حديث، دقائق ونصل إلى الجامع، الساعة الثامنة والقرية غارقة في حزنها وصمتها وذهولها كأن جدرانها تحادثني تشفق علي ترثيني تناديني تواسيني تبكيني، على باب الجامع وقف بعض الأهالي يتفقدون ويسألون كالضائعين غير مصدقين، كأننا في عالم الضياع والخيال، سألنا عن الجثث المتبقية فأجابنا أحدهم أنه لم يبقى إلاجثة بنت ميتة واحدة وأن الآخرين قد تعرف عليهم ذويهم وأهليهم، في هذه اللحظات التقيت مع جيراني من بيت سعدة يبحثون عن ابنهم، طالب بكالوريا ولا يجدون لهم أثر وتشاركنا الأخبار، أخبار المصابين وتواجدهم، أخبرتهم أني سمعت اسم ابنهم مصطفى أنه قد غادر إلى تركيا من مشفى باب الهوى، وجاءني جاري ليوجز لي بعض الكلمات "يا ابو محمد شاهدت في مشفى الأتارب جثة لطفل في الخامسة عشر من عمره، صغير الحجم متفحم عاري إلا من سرواله الداخلي عليه ايتكيت حمراء وقع في نفسي أنه لن يكون إلا محمد.

سارعت إلى السيارة وأخي زياد وطارق إلى مشفى الأتارب وفي الطريق أيقنت أني وجدت ضالتي أقتربت من الحقيقة لا بل لمستها، استشهد محمد.

السيارة تسير وشريط عمره يدور في مخيلتي محطات عمره صورته تسبح في مخيلتي وطيفه يداعبني يمسح عبرتي.. يديه تداعبني وجنتيه تبكيني ضحكته تنتشلني من فاجعتي  الحب في عينيه الرقة في حسه الطفولة بضجيجها وبراءتها في قلبه، الإنسانية بقدسيتها تختزل في عفويته وطيبته، وصلنا المشفى وقلبي يسبقني وحدسي يتقدمني، لا شك 1% أن يكون غيره.

ذهبت إلى الجهة الشرقية في المشفى أبحث عن الجثة، فأجابني أحدهم بأنها موجودة في الجهة الغربية وهناك وجدت كيساً فضياً له حمالات في الجوانب مسجاة بزاوية من زوايا المشفى، اقتربت من هذا الكيس وأنا أقول يا رب صبرني يا رب لطفك يا رب أمدني بقوتك مدني بصبرك.

فتحت سحاب الكيس وشاهدت صورة وجهه وأكملت السحاب لأشاهد سرواله الداخلي ماركة حنين الحمراء على سرواله الراحل، أيقنت أنه محمد.

يا ربي أين وضاء ته يا ربي أين جماله أين ضحكته يا ربي أين غمازاته يا ربي أين سحره يا ربي أين تلاميح وجهه يا ربي يا أرحم الراحمين يا مالك الملك.

من سرق من ابني جماله من سرق من ابني طفولته من سرق من ابني انسانيته من أضرم النار في ولدي وقلي من أحرقه وأحرقني من فحم قلبه وفحم قلوبنا عليه.

يا ربي أي قلوب سوداء تفعل هذا يا ربي أي إجرام يتجرؤ على هذه الطفولة.

يا ربي أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت الواهب وأنت المانع حسبنا الله ونعم الوكيل

يا ربي في أي زمن نعيش وفي أي زمان نحيا

سألت خالقي إلى متى.. إلى متى ستطعم الذئاب ما وهبتنا سألت خالقي وكلنا سأل لمن لمن تركتنا.

قبلت وجنتيه المحروقتان قبلت جبينه أمسكت بيده من فوق الكيس ودموعي تغسلني دموعي تمزقني دموعي تتحدث عني تناديه تذكرت أنه لا ينفع في تلك اللحظات إلا الدعاء.

الله يرحمك يا حمودة الله يتقبلك في الشهداء يا حمودة

اللهم اجعل نزله نزل الشهداء وارزقه مرافقة الأنبياء

الله يرضى عليك يا ابني الله يسمح عنك يا حمودة

الله والسماء والعرش يرضى عنك يا محمد

يا رب احتسبته عندك واستودعتك إياه

يا من لا تضيع عنده الودائع والأمانات

حملني وشدني أخي طارق وزياد إلى السيارة وحملوا جثته إلى السيارة وخرجنا من المشفى.

زياد يقود السيارة بصمت وأنا غارق بالدموع والشرود

سألني زياد إلى أين أجبته إلى أورم الجامع الكبير، كنا قد شاهدنا بقرب الجامع مقبرة وكانوا يجهزون قبراً للجثة التي تركناها خلفنا عسى أن نجد في هذه المقبرة قبراً ندفنه فيه وهنا سألت زياد، تذكر يا زياد يوم مولده كنت معي وكيف كنا نركض فيه من مشفى لمشفى لنبحث له عن حاضنة ما أسرع هذين اليومين يوم ولادته ويوم دفنه.

وصلنا إلى جامع أورم الكبير وأنزلناه من السيارة ووضعناه في جنينة الجامع وكان أصحاب الجثة قد تعرفوا على ابنتهم وفي المقبرة ثلاثة رجال يحفرون القبر، طلبنا منهم أن يجدوا قبراً ندفنه فاقترح أحدهم أنه لا يوجد قبر ولا مكاناً ولكن بالإمكان أن نوسع القبر الذي نحفره ونجعله قبرين، ولكن اطلب من مؤذن الجامع أن ينادي على الناس لمساعدتنا، ذهب طارق ليخبر أهل البيت بأننا وجدنا محمد وجلست بقرب رأسه أحادثه آخر حديث وأناجيه: "يا من رحلت بجسدك وسكنت روحك جوارحي يا من أضرمت نيرانك التي ألهبتك وأحرقتك في قلبي وكبدي يا من رحلت إلى جنة الخلد وتركتني في شقائي ووحدتي يا من رحلت ولم تستأذن بالرحيل، حتى ضننت علينا بالوداع، يا من تركت غصة في قلوبنا وأحداقنا، يا من قتلتنا بطيبتك وبراءتك، يا عمري يا قدري يا ولدي، بماذا أناديك وبماذا أحابيك وبماذا أبكيك، أنادي فيك الطفولة أم أنادي فيك البراءة، أم أنادي فيك الحب أم أنادي فيك الإنسانية جمعاء، يا ابن الخامسة عشر ربيعاً ماذا فعلت وكيف رحلت وأي أثر تركت وأي غراس زرعت وأي ذكرى أبقيت، ماذا فعلت، فعلت ما لم يفعله الرجال، تحطمت أمام طفولتك عنجهية الطغيان، كيف رحلت، رحلت من دون خبر أو استئذان، رحلت كبرق خطف في غفلة الزمان، أي أثر تركت، تركت بصمتك في قلوب الصغار والكبار، ضحكتك أبكت قلوبنا، بسمتك أدمت عيوننا، ضوضاءك ضجيجك جنونك حبك صوتك عجلتك أشعلت في نفوسنا نيرانا وأحزانا، أي غراس زرعت، زرعت الحب وتركت لنا حصاده، زرعت الطيب وتركت لنا ثماره، زرعت الخير وتركت لنا آثاره، زرعت لنا المجد والخلد، أي ذكرى أبقيت، أبقيت لنا ذكراك لا يمكن أن نتذكرك دون أن نذكر ضحكتك، لا يمكن أن نذكرك دون أن نذكر حبك أو براءتك وطيبتك، يكفيك فخراً يا ولدي أنك أصبحت نبراسي ومشكاتي، يكفيك فخراً يا ولدي أنك أصبحت معلمي وأستاذي، يكفيك فخراً يا ولدي أنك أصبحت مثلاً ومذهباً ومرجعاً، يكفيك فخراً أنك علمتنا ما عجزت عنه العلوم وعقرت عنه الكتب والمراجع، علمتنا أن الحب يكبر ولا يكبر عليه، علمتنا بأن الحب يزيد ولا يزاد عليه وأنه يجبر ولا يجار عليه، علمتنا أن أمام الحب تتقزم الكلمات وأن الحب يفتح قلاعاً ويجتاح مدناً ويشيد أمماً ويخر أمامه طواغيت الزمان وتتحطم أمامه قسوة الزمان.

علمتنا أن الحب أقوى من الظلم وأن الحب أقوى من الموت وأقوى من القتل وأقوى من الظالم، علمتنا أن الحب رغم القتل والألم والظلم والطغيان ينتصر، علمتنا كيف تضحك في مواجهة الموت، علمتنا كيف يصبح الإنسان عظيماً أمام قاتليه بوحشيتهم، بطغيانهم، بجبروتهم، ببطشهم وإجرامهم.

علمتنا أن ضحكتك أكبر منهم، ضحكتك أقوى من نيرانهم ضحكتك أقوى من طائراتهم، ضحكتك أقوى من ألمهم، ضحكتك يا ولدي قزمتهم وأصغرتهم ضحكتك يا ولدي هزمتهم.

 علمتنا ياولدي أن الحب لايحتاج لمدرسة يرتادها الأنسان ولا لكتب يتعلمها  ولا لكلمات يرددها أو حروف يهجئها الحب يا ولدي فطرة من الله أستودعها الله قلب من أحب الحب يا ولدي لا يشتريه مال ولا جاه  الحب يا ولدي هبة من الله أعطاها آياك فطوبى لك بهذا العطاء. بعد قليل جاءت نور مع أختي عبير إلى المقبرة وأنا جالس على جثة ولدي رأسي على رأسه ويدي على يديه أهمس في أذنيه أقرأ القرأن وأدعو له وأحتسبه عند الله جلست نور بجانبي ودموعي تغرقني طلبت مني رؤيته فأجبتها لا تقدري على رؤيته يا نور فأصرت أريد أن أرى عظامه لن يبرد قلبي إلا برؤيته أستسلمت لطلبها  وفتحت سحاب الكيس فرأت وجهه وشعرت انها لم تطمئن فأكملت السحاب حتى رأت سروال الداخلي وعليه ماركة حنين الحمراء أيقنت أنه حمودة لا شك بذلك حمودة بلحمه وشحمه رفعت يديها إلى السماء وقالت بصوت مسموع سمعه كل من كان حاضرا معنا روح يا حمودة هديتك لله يا حمودة وهبتك لله يا حمودة الله يجعلك في عليين في جنان الخلد يا حمودة يا ربي وهبتك تقبله ياربي شهيد وأحتسبه من الشهداء . بهذه العبارات نعت أم محمد وليدها بهذه الكلمات زفت نور ولدها بهذه الكلمات أطفأت نارها وحرقتها .أيقنت أن النار التي محمد قد وصلت لقلب أمه  سمعت صراخه بكلماتها سمعت ألمه بنبراتها رأيت وجعه بدموعها بلوعتها شعرت بسكين تمزقها وتمزقني شعرت بألم الكون يعتصرها ويعتصرني .هل تعلم كيف يتمزق الانسان .عندما تفقد الأم ولدها يتمزق الأنسان عندما تفقد الأم ولدها على نحو حمودة يستوطن الألم قلبها ويسكن الحزن أحشاءها عندما تفقد الأم ولدها تموت الأمومة .        تكلمت كثيرا عن ألمي ولكن يعجز قلمي ان يتحدث عن ألمها ووجعها قد تبرني كلماتي وحروفي عن أفصاحي عن مشاعري وأحزاني  لكنها لن تستطيع أن تختزل ملحمتها.

من حمودة بالنسبة لنور

حمودة كان حبها الأوحد بلا منازع، حمودة لم يفطم عن صدرها، حمودة فرحتها وألمها حمودة رضيعها وصغيرها وولدها وشبابها حمودة هوائها الذي تتنفسه، حمودة كان هدية الله إليها، حمودة ذخرها وكنزها حمودة حلمها ومستقبلها، ورجائها، كم من مرة التجئ إليها والتجأت إليه، كم من مرة جلست تحاكيه ويحاكيها، يقبلها ويغازلها يبكي بين يديها، يشكيها يناديها، حمودة لا يمكن أن يفارقها حمودة سكن فؤادها واستوطن قلبها ومشاعرها، حمودة نبض يبعث في قلبها الحياة، حمودة طيف يهب لها الضياء والنور، حمودة كان لها كل شيء، همها وفرحتها وسعادتها، هذا كله قبل وفاته.

بعد وفاته حمودة أصبح بقاءها وفناءها حمودة صوتها نبضها دمعتها حمودة غصتها دنياها وآخرتها، حمودة أضحى سراب عينيها تلهث خلف صدى ذكراه يتردد في جنبات روحها ونفسها، حمودة حلم يداعب مخيلتها يناديها يهفو إليها يداعبها يناغيها، حمودة عالمها ماضيها حاضرها مستقبلها.

حمودة على ذكره تغفو وعلى ذكره تصحو ولذكره تضحك وعلى ذكره تبكي، حمودة مشعل حب أضاء جنبات بيتنا وهوى ذلك المشعل، لم أشعر كم من الوقت مضى وأنا بجانب جثتي وانتهى الطيبون من حفر القبر ونادوا على صلاة الجنازة، وقفت على رجلي وشعرت أني أحمل حزن العالم وألم الكون، حملت جثته إلى داخل المسجد ووقنا نصلي عليه هذه آخر جماعة تصليها معنا يا ولدي وهذه آخر فاتحة تحضرها معنا يا ولدي وهذه آخر تكبيرة تشاركنا فيها يا عمري، هذه آخر لمسات تمسك يا حزني يا فرحتي لم أعد أعي إلا بالدموع تغسلني، تطهرني، تفرقني، تجرفني، دموع محب، دموع مكلوم، دموع دموع...

وعندما أنزل إلى القبر شعرت بنفسي على حافة عالمي على حافة هاوية وأيدينا تفترق وأجسادنا تنفصل من عالم الحياة وعالم القبر شعرت به يبتعد يمضي يطير يضحك يحلق في السماء.

وسد في القبر انهالوا على قبره بالتراب فقبضت بيدي حفنة من التراب وقبلتها بشفتي وحثوتها على قبره ونترتها على قبره قائلاً: الله يرضى عليه يا حمودة الله يسمح عنك يا حمودة الله والسماء والعرش يرضو عنك يا ولدي وختمت قول الملقن والمشيعين بالدعاء له وللقبر الذي كان بجواره.

اللهم أبدله داراً خيراً من دارك وأهلا خيراً من أهله وجيرانا خياً من جيرانه اللهم اغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس

اللهم اجعل نزله نزل الشهداء ورزقه مرافقة الأنبياء، بتلك الكلمات ودعت ولدي احتسبته فارقته خرجنا من القبرة ووقف الزمان عند هذه اللحظات، وقفت هذه الحكاية عن الدوران لكنها لم تصمت.

عدنا إلى المزرعة صحوت من رحلتي من سكرتي لأشاهد الفراغ لأتحسس حجم المصيبة وهولها، اقتربت السيارة من باب المزرعة من سيفتح الباب من سيقبل يديك من سيركض حولك من ومن ومن

جدرانك باكية أشجارك شاكية، أرضك صامتة تغوص في الحزن والألم، لا أستطيع أن أستوعب هذا فعل ابن الخامسة عشر ربيعاً نعم كان حبه أكبر من خمسة عشر قرناً

حبه تجاوزنا كبر علينا وسما به إلى الله، أصبحت ذكرى يا ولدي لن أنساك ما حييت لن أنساك ما بقيت، لن أنساك ما تنفست، ستبقى يا ولدي ملهمي ومعلمي، ستبقى يا ولدي حزني وفرحي، ستبقى يا ولدي رجائي ودعائي.

علمتني الكثير علمتني كيف يصغر الوالد أمام ولده علمتني كيف يبر الولد أباه علمتني كيف يفوق التلميذ أستاذه، علمتني كيف يحب الله عباده، علمتني أن الحب هدية من الله إنك لا تهدي من أحببت لكن الله يهدي من يشاء، علمتني أن الفطرة كنز لا يفنى.

علمتني أن الخلود ثوب ينسجه الإنسان بيديه فطوبى لمن نسج خلوده بالحب، طوبى لمن عمر قلبه بالإيمان، طوبى لك يا ولدي، طوبى لمحياك ومماتك، طوبى لذكراك.

سلام عليك يا ولدي يوم ولدت

سلام عليك يا ولدي يوم قتلت

سلام عليك يا ولدي يوم تبعث حياً

نحتسبك من الشهداء ونرجو لقاءك مع الأنبياء في مقعد صدق عند مليك مقتدر "الرحمن".