أحلام أسيرة!!

عبد الوهاب جميل القطراوي

عبد الوهاب جميل القطراوي-غزة

[email protected]

كان الوقت فجراً، رائحة الزنزانة العفنة تفسد عليه أحلامه، حاول أن يطلق لها العنان خارج جدرانها، لكن عبثاً، جدرانها المتشققة، والعفنة تحاصره، راح ينظر إلى الفتحة الوحيدة التي تربطه بالحياة، قضبان مغطاة بالشباك، لا يتجاوز ارتفاعها بضعة سنتميترات، يراقب خيوط الضوء الباهتة والمنكسرة وهي تعبرها على خجل لوقت قصير وتمضي، بالكاد استجمع قواه وجلس على حافة شيء يشبه السرير يسمونه (البرش) في الغالب يكون مطلياً باللون الأبيض، مكوناً من طبقتين، الصدأ ينخر في زواياه الأربعة، استسلم لغفوة، استعد أن يستأنف خلالها أحلامه مجدداً، فاجأه نعيق الغراب الذي فتح عليه باب زنزانة العزل، وهو يصرخ "يلا كوووم، عدد" أدرك حينها أن يومه قد بدأ وعليه أن يعتدل على برشه ليتأكد ضابط العدد من وجوده، في كل مرة يكرر فيها هذه العملية على مدار اليوم والليلة.

تحوقل في داخله، صار متيقناً أن عليه أن يمارس أحلامه مستيقظاً، تمتم بينه ويبين نفسه "في الزنزانة لا وقت لأن تحلم وأنت نائم، عليك أن تحلم بعينين مفتوحتين!!" للوهلة الأولى راح ينظر صوب سقفها الأسود، تجاوزه بعينيه ، قفز عنه بإحساسه، إلى شوارع المخيم، يقول لنفسه :" أشتهي هذا الصباح أن ألبس أفضل ما لدي، أن أخرج على عجل من منزلنا القديم وسط المخيم، أن اعبر شارع السوق الرئيس، دوي الحياة يصبح أكثر ضجيجاً ،قوافل الطلبة والطالبات يملئون الشوارع، طفلة بشعرها الكستنائي تتأبط ذراع شقيقها الأكبر، تعلو وجهها ابتسامة الحياة رغم حقيبة الكتب التي تبدو ضعف وزنها، وأخريات يقفزن كفراشات على جانبي الطريق المزدحم، وهؤلاء يتقاسمون ما يصطحبونه من أنصاف الأرغفة المحشوة، فيما نتقاسم نحن انقسامنا،وعارنا!!!

الحياة تكون في أوجها مثل هذه الساعة، أفتش عن سيارة أجرة تقلني إلى ميدان فلسطين "الساحة"... يتابع "كنت أستعد لمثل هذا اليوم كـأنه عيد، الذهاب إلى الساحة كان حلماً يراودنا ونحن نكتشف الحياة رويداً رويداً في ذلك الوقت ، كأن تسافر في رحلة سياحية، لها طقوسها المعدة سلفاً، تبدأه عند بائع الخروب المميز في الزاوية اليسرى لشارع فهمي بيك المتفرع من الساحة، سرعان ما تأخذك قدماك تلقائياً أمام شاورما "الشيخ" كان المطعم في بداياته ضيقاً في ذلك الوقت، بالكاد تجد لك متسعاً في الداخل، تصلك على الفور "فرشوحة الشاورما" التي طلبتها مع صحن صغير مليء بالفلفل المكبوس، هنا تحديداً بدأ يشعر بالفعل أن لعابه تسيل بغزارة، ينتهي منها على الفور ويعبر الشارع الى محل الحلويات المقابل لها، كان الأشهر في ذلك الوقت، عليه أن يتعاطى قطعة من الحلويات النابلسية قبل أن يكمل سيره حتى نهاية الشارع هناك على الجهة اليسرى أيضاً بائع العصائر الطبيعية، هو يحب المانجا، سيطلب كأساً كبيراً قبل أن يستأنف رحلته".

قطع أحلام يقظته مجدداً، صوت الشرطي وهو يفتح طاقة صغيرة أخرى في وسط الباب ويمد له بوجبة الإفطار، قبل أن يغلقها بعنف ويمضي، حاول أن يستأنف أحلامه مجدداً لكن دون فائدة، زنزانة العزل القميئة تفرض نفسها أحياناً، حاول أن يتحرك قدر المستطاع داخل الزنزانة، الساعة الوحيدة التي يسمحون له بالخروج فيها لا تكفيه للحركة، استسلامه لقانون العزل يعني أن يستسلم للموت البطيء بإرادته، "عندما تكون معزولاً عليك أن تؤمن أن كل ثانيه تعيشها يجب أن تنتزعها من فك سجانك، الذي يحجب عنك الحياة بكل الطرق والوسائل" خطر له خاطر أن يكتب رسالةً لوزير الأسرى يحدثه فيها عن معاناته ومعاناة إخوانه المعزولين لكنه احتار أي وزير سيخاطب، والبلد محكومة بوزارتين وحكومتين.

قرر أن يكتب شيئاً لحبيبته التي أوصى والدته أن تنتظره، في العادة عندما يعبرك الحزن من "ساسك لراسك" تنتظر أٌقرب الناس لقلبك ليربت عليه، ليهدهد قلبك كـ طفلٍ صغير، كنت في تلك اللحظة ذلك الطفل الصغير، بالكاد استجمعت ما تبقى من حروف وكتبت إليها ": حبيبتي، الحياة بدونك تشبه أن أعتاد العيش "ميتاً" ،أن أضحك "باكياً"، أن أتنفس "اختناقاً"، أن أتعقل "جنوناً"،أن أشبع "جوعاً" أن أفرح "ألماً"، أن أحتال على الحياة وأن أحلم "بعينين مفتوحتين"!! انكفأت، أغمضت عيناي عنوةً وغفوت!!.