مشروع النهضة ‏

المحاور: - تبدأ جميع رحلاتنا وتنتهي .. وتبقى رحلة البحث عن مخارج آمنة؛ مستمرة، حتى نجد لأنفسنا مخرجاً آمناً من دار الدنيا الضيقة إلى دار السلام.

- ‏ ليست رحلة البحث عن مَخرج رحلة فرد يريد أن ينجو من بين جموع الهالكين فحسب .. بل هي رحلة بحث عن طريق آمن للبشرية كلها .. فنحن في قارب واحد، والرياح تعصف بنا، ومن بيننا سفهاء يخرقون قاربنا .. فإما نجاة لنا كلنا وإما موت لنا كلنا.

- ‏ كانت حياة الأنبياء والمرسلين حافلة بالبحث عن مخارج لأقوامهم، وهم يرون أقواما يعبثون بألغام الكفر والعهر، ويتعاطون المهلكات، ويسيرون إلى الهاوية .. فكانت (دعوة ودعاء) هولاء الأنبياء خالصة لإخراج الناس من الظلمات إلى النور .. ولكن هيهات هيهات فمنهم من ركب سفينة نوح عليه السلام فنجا، ومنهم من ركب رأسه فهلك.

- لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم عنوانا كبيراً ومرشدا ودليلا لكل ناهض مستنهِض باحث عن مخارج يتحقق بها له وللبشرية سعادة الدنيا والآخرة .. وكانت هذه الرحلة تعمُّ وتخصُّ؛ فهي تعم البشرية كلها حين وجه خطابا عالمياً لم يدع به حاكماً ولا محكوما إلا أوصل له رسالة السماء، محققا بذلك قول الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) .. وتخص أصحابه الحاملين لدعوته؛ فقد تعرضوا للأذى الشديد، فبدأ يبحث لهم عن مخارج في الحبشة والطائف وعند عموم القبائل، حتى هداه الله تعالى لركوب السفينة متوجهاً إلى المدينة. - ‏ كلفنا الله تعالى أن نبحث لأنفسنا وأهلنا عن مخارج تنجينا من المهالك .. لاسيما تلك المهالك التي لا نجاة بعدها، وإن حاول الهالكون حينها أن يبحثوا عن مخارج فلا يستطيعون، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد ..).

- ‏انتكست البشرية في زماننا انتكاسة شديدة وغفلت ومرضت وتاهت .. فها نحن نشهد علو اليهود وإفسادهم، ونرى بأعيننا شموخ المستبدين من أذنابهم، ونلمس بوضوح أذى أذناب الأذناب من المنافقين التابعين لهم، مما أدى إلى استباحة صريحة ومباشرة؛ للدين والأنفس والأعراض والعقول والأموال .. ولم يبقِ لنا المتحكمون بنا دنيا نفرح بها .. ولا آخرة نرجو خيرها.

- ‏ جرت عدة محاولات مشكورة مأجورة للنهوض وللبحث عن مخارج آمنة؛ فمنها ما قضى نحبه ومنها ما ينتظر .. لكنها رصدت وتوبعت؛ فبعضها تم إجهاضها في مهدها، وبعضها تم حرفها عن مسارها، وبعضها تم تقزيمها وحصرها وقصرها، وبعضها تعرض للحرق أو للخرق أو للخنق أو للصعق .. وبعضها لا يزال واقفا على الرغم مما أصابه من جراح وانحراف.

- ‏ تعددت زوايا النظر في أولويات النهوض والبحث عن المخارج؛ فمنهم من قال بأن الإصلاح الديني الفكري أولاً .. ومنهم من قال: بل الإصلاح السياسي .. وآخرون قالوا: بل الإصلاح الاقتصادي أو الإجتماعي .. والصحيح أن هذه كلها (متعاضدة) توصلنا إلى مخرج كبير .. وإلا فإن تخلف واحدة منها سيؤدي إلى انسدادها كلها. - ‏ إن كلمة النهضة أو النصر أو التمكين لا تعني الفوز في جولة من الجولات أو التفوق على الخصوم في إحدى المجالات، بل لابد من العمل المتقن الجاد والعدالة والمساواة، للمحافظة على تلك المكتسبات وحراسة تلك الإنجازات .. وإلا فلن يلقى الغافلون إلا الانقلابات .. تلك التي ترجعنا إلى الوراء عشرات السنين .. بل مئات.

 مما ينبغي لفت الانتباه إليه أثناء رحلة النهوض والبحث عن مخرج حتى تؤتي تلك الرحلة أكُلها وتحقق غاياتها ومقاصدها ما يأتي (معالم مشروع النهضة):

١. وضوح الرؤية البعيدة والقريبة وإدراك آفاق المسير .. ووضع خُطى المسير على أول الطريق. ٢. الانتباه للفرص المتاحة (وقد تأتي في لحظة غفلة المتربصين أو عند صراع المصالح المحموم بينهم) بالقدر الذي نعالج فيه التحديات الطارئة.

٣. التحذير من استنساخ تجارب النهضة والبحث عن المخارج؛ فما كان يصلح من مسارات البحث والنهوض في غزة أو إسطنبول قد لا يصلح في الضفة أو أنقرة، فضلا عن عدم صلاحيته لعمان أو القاهرة .. وإنما يستفاد من التجارب كلها، حتى ما كان منها ناجحا في اليابان .. ولكن دون استنساخ.

٤. التفريق في التعاطي والتكييف الفقهي أو في الفتاوى الشرعية، بين من يفتي لمن يبحثون عن مخرج ونهضة لجماعة أو لمؤسسة أو لأسرة محدودة .. وبين من يبحثون عن مخرج لوطن يحوي البرَّ والفاجر .. أو لأمة متباعدة الأطراف متعددة الأزمات .. أو لبشرية تنتظر الخلاص .. والأمر إذا ضاق اتسع، لكنه إذا اتسع ضاق .. ولابد هنا من تحرير لمصطلحات الثوابت والمتغيرات. ٥. الصبر والتفاؤل والاستبشار مطلوب .. فالعبد (الشرير الظالم لنفسه) يغلق بابا .. والله الرحيم الكريم يفتح أبوابا أجمل وأعظم وأطهر.

٦. الجمع بين التكتم والظهور .. لأنه لا ينصح بالإفصاح عن جميع نواياك الطيبة .. كما أن الظهور الساطع لا يقل قوة عن الكتمان العميق.

٧. تحضير البديل عن كل أصيل من البرامج والشخصيات .. حتى لا تذهب الفكرة بذهاب أصحابها، وكي لا تنتهي عند أول منعطف من منعطفات إجهاضها

. ٨. لابد من عين تبحث وتتابع كل طاقة وخبرة .. وتستوعب كل صاحب عقل أو قلب أو قلم أو يد أو رِجل يمكن أن يكون لهم دور طليعي في رحلة البحث عن مخرج .. فالكل مستهدف .. وعلى النخب تحمل الأحمال. ٩. النظرة النسبية في وزن وتقدير الأمور فالكمال لله وحده .. والسيء أفضل من الأسوأ، والفاجر أفضل من الملحد .. وإن كنا نسعى نحو الأحسن في كل شيء.

١٠. توقع الاختلالات والوهن والضعف على الطريق حتى من أطهر القلوب وأنقى العقول وأحسن الأصحاب والشركاء في رحلة النهوض والبحث عن مخرج .. فكما أنك تشتغل على الأشرار لتصلحهم؛ هناك من يشتغل على الأطهار ليفسدهم.

١١. البحث عن نقاط القوة وأدوات الضغط؛ سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو علمية تخصصية أو غيرها .. لأننا في عالم لا يحترم إلا الأقوياء.

١٢. الإبداع والابتكار وتوفير عنصر المفاجأة، التي تفوت الفرصة على المتربصين وتمنحك فرصة للتوغل وحرق المراحل.

١٣. الجمع بين الخفض والتصعيد، وعدم اتخاذ سياسة واحدة فيها إفراط أو تفريط .. ولكل مقام مقال. ١٤. الوصول إلى نقاط ضعف الخصوم والمتربصين .. ولعل من أعظمها وأخطرها إدراك بشريتهم، وبالتالي حصول الضعف والخلل في منظومتهم .. ومن ذلك وجود تعارض وتضارب وتناقض في مصالحهم؛ فهم مختلفون وإن حسبتهم متفقين (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) وهم جبناء وإن رأيتهم أقوياء .. فما قوتهم إلا على ضعفنا (لا يقاتلونكم جميعا إلا ..).

١٥. المبادرة وصناعة الأحداث والأفعال، وعدم الاكتفاء بردود الأفعال والانفعال. ١٦. صدق اللجوء إلى الله تعالى فهو القوي القدير .. ولزوم استخارته عند كل خطوة فهو الحكيم الخبير. ١٧. مراعاة حقوق وواجبات الأجيال والأجناس .. فللكبار خبرتهم التي تُحترم ولا يجوز التفريط فيها .. وللشباب حماستهم التي ينبغي عدم هدرها بل ينبغي استثمارها وتوجيهها .. وللأطفال آمالهم وأحلامهم التي ينبغي تأهيلهم وبناؤهم لنيلها وبلوغها .. وللإناث خصوصيتهم التي يجب احترامها وطاقاتهم التي ينبغي الاستفادة منها .. وللذكور رجولتهم التي يجب بعثها وإحياؤها

. ١٨. البحث عن مصادر تمويل ودعم طاهرة نقية .. واجتناب المغشوش المشروط من المصادر .. لأن الله تعالى لم يجعل شفاءً في رجس .. إلا للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها .. وينبغي السعي للتخلص منها وعدم الاستسلام لها .. لأن الخبيث الذي يعطيك اليوم؛ سيشترط عليك غداً.

١٩. الدخول من أبواب متفرقة، وإن كانت لا تغني عند وقوع قدر الله شيئاً .. لكنه الأخذ بالأسباب .. والتنسيق بين عموم الأبواب المفتوحة مع عدم اشتراط الاندماج بينها .. فلكل اجتهاده ورأيه .. وليس بالضرورة الاتفاق في الرأي .. وإن كان من الواجب التوافق على الرؤية. ٢٠. حسن متابعة الأحداث وقراءة المشهد .. قراءة تفصيلية من داخل ملعب الأحداث، وقراءة كلية شمولية من الخارج .. والتفريق بين الخصوم من حيث درجة الخصومة .. وفهم متطلبات اللعبة الجارية .. وأن هنالك لاعبون حقيقيون، وآخرون في الواجهة وهميون، ومشجعون متحمسون، وكرات تُضرب، وحكام منحازون .. وأننا في الوقت بدل الضائع من اللعبة.

٢١. لا استغناء عن التربية الوجدانية والتأصيلية، ففيهما العواصم من القواصم .. جنباً إلى جنب ملاحقة متطلبات حياتنا اليومية (المادية والعصرية).

٢٢. الاعلام (لنا) بحسن قراءته وصناعته واستثماره .. أو (علينا) بالغفلة عنه وتصديقه والترويج له دون استبانة، فقد صنعوه لترويج كذبهم وتكذيب صدقنا (الحرب النفسية أقبح الحروب) . ٢٣. التفكير في إنهاء الصراع وهمٌ .. لأنه لن ينتهي .. والتفكير في إدارة الصراع فريضة شرعية وضرورة بشرية. ٢٤. بنى المجرمون الفاسدون مشاريع علوهم على دمائنا وجماجمنا وشتاتنا وحبس أنفسنا وتمزيقنا والطعن في طهرنا وعفتنا، فإن أذنت إرادة الله الحكيم لهم بالعلو ليربينا ويؤدبنا ويختبر يقيننا؛ فإنه لاشك لن يسمح بدوام تلك الحال من الأحوال .. فدوام الظلم والعدوان من المحال .. ولكنه طلب من استخدام الأسباب الموجودة ليمنحا على طريق النهضة أسباب فاعلة مفقودة.

٢٥. قراءة التاريخ واجبة لمن أراد النهوض .. ولا مستقبل لأمة لا تقرأ تاريخها، ولا تستفيد من محطات صعودها ونزولها .. ومن أعظم الدروس في التاريخ؛ أننا لن ننتصر إلا إذا حققنا (حقيقة) التوحيد والوحدة في حياتنا. ٢٦. التفكير في البديل الآمن مطلوب وإعمال الذهن في صناعته واجب .. وإلا فسوف نبقى عالة على قنوات تواصل مخترقة؛ إثمها أكبر من نفعها.

٢٧. التحول والالتفاف بذكاء من موقع المستهلك إلى موقع المنتج؛ ضرورة من ضرورات النهضة ونتيجة من نتائجها. ٢٨. الاشتغال في الدفاع ورد الشبهات مطلوب .. ولكن لا يعطلنا عن البناء والتحصين والهجوم إن اقتضى الحال وتوفر الميدان.

٢٩. الاعتناء بمنظومة قيم تراكمية تكاملية؛ تبدأ بقيمة تعظيم الله العظيم؛ الذي غابت عظمته في نفوسنا فخضعنا لعظمة سواه المتوهمة .. ولا تنتهي بقيمة الشعور بالمسؤولية الفردية؛ التي غابت في حياتنا فصرنا نضع اللوم على كل شيء على ضعفنا وقلة حيلتنا.

٣٠. ليس الصراع بيننا وبين خصومنا صراع عقائدي ديني من الطرفين .. لأن الأطراف الأخرى لا دين لها .. فقد عبثت بعقيدتها وحرفت أديانها لتوافق مصالحها .. ولو كان لها دين لخضعت للحق وما تمادت في الباطل .. فلا دين يسمح بعهرهم وكفرهم وظلمهم وازدواجيتهم .. أما نحن فأصل منطلقاتنا في المواجهة دينية عقائدية .. لكننا لم نحسن استثمار نقاط القوة فيها .. وترددنا في تناول كل ما فيها .. ولما تساوينا في الابتعاد عنها؛ تفوقوا علينا، بسبب إعدادهم العدة واعتمادهم المطلق عليها.

 وختاماً: نحن أمة ثكلى .. ومصابة في أغلى ما تملك .. وبالتالي لا وقت لديها للهو واللغو والسهو .. ولا طاقة زائدة عندها لتبددها في جبهات ثانوية ونزاعات إثنية .. وواجب الوقت بالنسبة لها هو النهوض والبحث عن مَخرج يعيدها لدينا وصوابها .. ويحررها من ربقة المستبدين ويخلص أسراها ومسراها من المعتدين .. حقاً إن واجبها البحث عن مَخرج يخلصها ويكشف لها طريق نجاتها .. لا عن مُخرج يجترّ لها بطولاتها ويسكن جراحاتها .. أو يمثل عليها ويسخر منها ويزيد طينتها وبلاءها .. ربنا إننا أوينا إلى كهف عظمتك الفسيح؛ فآتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.

وسوم: العدد 779