التأطير الدستوري والفقهي الإيراني لاحتلال العالم العربي

تطرح الكثير من التساؤلات حول طبيعة المشروع الإيراني، وهل يقوم على فكر توسعي استئصالي، يستهدف دول المنطقة العربية " السنية "، وهل المشروع الإيراني مشروع إسلامي تقوده نخبه مسلمة هدفها نصرة الدين والملة؟ وهل إيران فعلاً دولة إسلامية؟ وكيف يمكن التعامل معها؟

لا شك أولاً بأن إيران تحاول من خلال ثورتها ترجمة أطر دستورية، وفق أسس فقهية ومذهبية عنصرية، والتي تهدف لإحكام سيطرتها على العالم الإسلامي، والهيمنة عليه بأي شكل، والتوسل بأي ذريعة.

 تنطلق هذه المقالة التحليلية من اشكاليةٍ تركّز على فهم كيفية تأطير إيران لاستراتيجية الهيمنة والنفوذ على العالم العربي، وكيف جَسّدت هذه الثورة ذلك من خلال الإطار الدستوري الذي ابتكرته؟ وما هي النماذج التي تناولت كيفية بناء الإمبراطورية الشيعية بعد نجاح الثورة الإيرانية؟ كل ذلك بهدف إدراك المقاربات التي وضعتها دولة الولي الفقيه، حتى تجسيد ذلك على أرض الواقع، وكيف يمهّد ذلك للفكر الاستئصالي والتوسعي الذي تقوم عليه الثورة الإسلامية، بهدف استكشاف ماهية هذه الدولة، والأسس التي تقوم عليها.

 بداية اعتبرت إيران نفسها -حسب وجهة نظر الخميني- قاعدة الانطلاق نحو تحقيق الوحدة الإسلامية؛ وبالتالي تشكيل الحكومة الإسلامية على قاعدة الإسلام الشيعي، وهذا المبدأ طُبق تحت شعار "صدور انقلاب إسلامي"، ومعناها بالعربية تصدير "الثورة الإسلامية"([2]).

 وعلى هذا الأساس فقد تميزت أفكار الخميني بإعطاء أهمية كبيرة للعلاقات مع العالم الخارجي، حيث أكّد على أهميّة الوحدة لكن ضمن رؤية وتصور خاص، حيث طرح الخميني مفهوم الاتحاد الكونفدرالي مع الدول العربية([4])، وهذا التصور الذي طرحه الخميني يُشكل تناقضاً واضحاً؛ ففي الوقت الذي يدعو إلى الوحدة بين إيران والدول الإسلامية من خلال الشكل الكونفدرالي المتعارف عليه من خلال النظم السياسية والقانون الدستوري، حيث من المعلوم أن هذه الشكل يحافظ على حدود الدول واستقلالها، إلا أن الخميني - في الوقت ذاته - لا يعترف بالحدود الجغرافية بين هذه الدول، وهذا يُبين النوايا المبيّتة للسياسة الإيرانية التي تسعى للسيطرة والهيمنة على العالم العربي والإسلامي من خلال زرع السم بالدسم.

 أما النقطة الأخرى والمثيرة في فكر الخميني: فهي المسألة المُتعلّقة بنفي الظلم، واعتبار أن أصل العلاقات الدولية في الدين الإسلامي يقوم على مسؤولية إيران في رفع هذا الظلم ([6])، إذ يعتبره الخميني مفهوماً جديداً في العهد الحديث، حيث مكّنت إيران من صياغة سياسة خارجية أكثر استقلالية وأقلّ تبعية، لكن يبقى مفهوم الثورة الإيرانية للظلم وإزالته موضع تساؤل، فكيف ستتدخل لإزالته؟ ولصالح من؟ وما هو هدفه؟ وكيف انعكست هذه السياسة من خلال مداخل الأزمات الموجودة حالياً في المنطقة، وبخاصة موقفها من الأزمة العراقية، واللبنانية، والأفغانية ...إلخ وتدخلها لصالح دعم التيارات الشيعية التي تُمارس عنفاً طائفياً لم نجد له مثيلًا في تاريخ العراق ولبنان وأفغانستان ...والقائمة تطول.

 ومن المسائل التي أثارها الخميني -أيضًا-والتي أحدثت ضجّة كبيرة في العالم العربي والإسلامي، وعكست النوايا الحقيقية للثورة الإيرانية الشيعية هي دعوته إلى تحطيم الكيانات القائمة، وإزالة جميع الأنظمة، من خلال الدعوة إلى خلق ثورة سياسية إسلامية. من هنا فإن هذه المبادئ هي التي حكمت علاقات النظام الجديد بالدول المجاورة وخاصة ما يتعلق منها بنظرية ولاية الفقيه، وأبعاد هذه الفكرة التي شوهت السلوك الخارجي الإيراني الذي سعى إلى تفعيلها من خلال استراتيجية الهيمنة والتوسع.

 إن تطوير الخميني لمفهوم نظرية ولاية الفقيه قد أدى إلى أن تصبح هذه الفكرة محور الإحياء الإسلامي للثورة الإيرانية، وأصبحت معياراً هاماً لشرعية النظم السياسية الأخرى، وهذا بدوره أثّر عليها، حيث نظرت الدول الأخرى إلى الثورة على أنها باتت تُشكل مصدراً لتهديدها، ومن هنا مثلَت الرؤية السابقة للخميني مدخلاً أساسياً ومهماً لتبني إيران مبادئ فكريّة وحركيّة تجاه الدول الأخرى، وكان للقيادة الإيرانية تصورها الخاص للدور الذي يجب أن تقوم به الثورة في البيئة الخارجية (الإقليمية والدولية)، وجعلت من تصدير الثورة مرادفاً لشموليتها.

 ومن هنا كان لشخصية الخميني وأفكاره أثرها السلبي على علاقات إيران مع محيطها الإقليمي، وبحسب تعابير جوزيف كوستنر: كان وصول الخميني إلى السلطة في إيران تدشينا لعصر جديد للشيعة في الخليج العربي والمنطقة، وبحسب فحوى هذه النتيجة الافتراضية، فإن الإلهام الثوري الإيراني قد فخخ الوعي الشيعي باتجاه تفجير الأوضاع السياسية، وبذلك أصبح الشيعة في البلاد العربية -وفق وجهة نظر آيات الله العظام في قم وخراسان، وحسب استراتيجيات بناء الإمبراطورية الشيعية الموعودة-طابوراً إيرانيًا خامسًا في بلدانهم.

 يمكن القول: بإن الخميني كان يضع الخطط والاستراتيجيات له ولأتباعه من بعده بهدف إقامة حزام شيعي للسيطرة على ضفتي العالم الإسلامي، وكان هذا الحزام يتألف من إيران والعراق وسوريا ولبنان، وعندما يصبح سيداً لهذا الحزام يستخدم النفط وموقع الخليج للسيطرة على بقيّة العالم الإسلامي. وقد كان الخميني مقتنعاً بأن الأمريكيين سيسمحون له بتنفيذ ذلك! بهذه الكلمات أجاب " أبو الحسن بني صدر " أول رئيس إيراني عقب ثورة الخميني عن سؤال وُجه له وكان السؤال: هل كان الإمام الخميني يحدثك عن علاقة مع الجوار العربي، ومع دول الخليج العربية تحديداً؟ وهل كانت لديه أطماع في التقدّم عسكريًا تجاه هذه الدول من أجل تصدير الثورة مثلاً؟ أجاب: يبدو أن حلم الخميني الذي يطمع بمساعدة مقدّمة من الإدارة الأمريكية لتحقيق أهدافه في التوسع والتقدم، أُريد لها أن تتحقق في عهد "بوش الابن" والذي يضم ّفي إدارته بعض عناصر إدارة ريغان.

 ويشار هنا إلى أن الخميني رفض -بحسب شهادة كثير من المراجع الفارسية- كل الوساطات والعروض التي قدمها صدام حسين لإيقاف الحرب (الإيرانية العراقية)، حيث منيت جميعها بالفشل، لأنّ الخميني لم يكن راغباً في إنهائها، بل وجد أن الحرب هي حيوية بالنسبة لإيران([8])، وقد أقنعه رفسنجاني بوقف هذه الحرب، نظرًا للظروف الإقليمية والدولية، ولأسباب متعلقة بالخوف على الثورة الإيرانية واستمرارها، كما يذكر رفسنجاني ذلك بنفسه ([10]) الذي قال فيه: لقد كان وقف الحرب نتيجة للضغوط المختلفة، وحفاظاً على الثورة الإسلامية حتى تستعيد عافيتها من جديد بهدف الديمومة والاستمرار([12])، فلقد أصرّ الخميني على اسم إيران وربطها بمفهوم مذهبية الدولة |([14])، أما الأخطر من ذلك فهو استمرار اعتماد الأشهر الإيرانية والأعياد القديمة التي ترتبط بالديانة الزرداشتية والأساطير المتعلقة بها لغاية اليوم، وإصرار الثورة الشيعية على إبقائها والتمسك بها ([16])، وبما أنه يعكس تلك الخلفية الإمبراطورية التي جاءت نتاجاً وتجسيداً للواقع غير المستقر والمتناقض أصلاً، حيث إن المجتمع الإيراني قد امتاز على مرّ العصور بعدة خاصيات أهمها: ظاهرة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، وكذلك ظاهرة الحكم الاستبدادي العسكري على الأغلب، فضلا عن البعد التاريخي لتأثير الديانات السابقة للإسلام في إيران، واستمرار هذا التأثير الموروث في بناء المجتمع الإيراني، وهنالك خاصية أخرى امتاز بها المجتمع الإيراني ولا يزال هي ظاهرة التخلّف، وهذه الظاهرة تؤدي إلى التمسك بالسلفية المذهبية التقليدية، فإذا كان الدستور يعكس هذه البنيات فمن الطبيعي أن يفتقر إلى التجانس والنقاء، وعلاوة على ذلك فإن البنى الثقافية في إيران هي نتاج للثقافة الغربية التي تعلّق بها الإيرانيون منذ القدم، حتى أنّهم كانوا يؤكدون على جنسهم الآري الأوروبي، وهذا التعلق خلق نوعا من التبعية الثقافية الإيرانية للغرب، والأخير حاول ضرب التراث الإسلامي من خلال خلق ثقافة هجينة بديلة في الثقافة الإسلامية هي الثقافة الفارسية التي تدّعي الإسلام من خلال المذهب الشيعي، وبما أن الثقافة هي دخيلة على إيران، وأصبحت لها تأثيرات موضوعية وذاتية في خصوصية بناء المجتمع الإيراني، لذلك فإن الدستور الجديد إذًا كان فعلاً يعكس هذه البنى، فإنه يكون في الشوط الأخير فيه صبغة غربية أوروبية بعيده كل البعد عن تعاليم الإسلام وقواعده في الحكم أو في القوانين الأخرى ([18]). وهذا يعني: أن الدستور الإيراني في الوقت الذي يعطي للسلطات الإيرانية حق التدخل المباشر في شؤون الدول الأخرى يمنع منعاً باتاً التدخل في الشؤون الوطنية الإيرانية، ويحافظ على الاستقلال السياسي ووحدة أراضي البلاد.

 فعندما يتعلق الأمر بالتوسع الخارجي فإن الرابطة الإسلامية "وحدة المذهب الشيعي" تُسوغ لإيران التدخل في شؤون الآخرين عنوة، لكن حينما يتعلق الأمر بإيران تبرز المصلحة القومية الفارسية الإيرانية، وليس الإسلام لتكون حامية إيران بحدودها ومصالحها.

 ويتحدث الدستور الإيراني عن المسلمين وفق وجهة نظره، حيث "يُعتبر المسلمون أمة واحدة من دون الناس، وعلى أساس تضامن الشعوب الإسلامية ووحدتها، فإنها ستواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي" ([20])، هذا الحق في التدخل الذي يؤكده الدستور مراراً هو بمثابة اعتراف صريح بأن إيران سواء كانت بويهية، عبيدية، صفوية شاهنشاهية أو خمينية فإنها تقوم على هدف أساسي هو التوسع، انطلاقاً من السيطرة على العالم الإسلامي والهيمنة عليه تحت شعار دعم المستضعفين.

 وتأسيساً على ما سبق فالقارئ للدستور الإيراني يُلاحظ ازدواجية مكشوفة؛ ففي حين أنه يؤكد على الدفاع عن مصالح إيران الوطنية وحدودها ضدّ المسلمين وغير مسلمين، نرى الدستور الإيراني يتضمن نصوصاً أساسية تسمح لإيران بالتدخل في شؤون الدول الأخرى تحت شعار دعم المسلمين (المستضعفين) في البلدان الأخرى، إذ ترد الفقرة الاتية: "في مجال بناء القوات المسلحة للبلاد وتجهيزها، يتركز الاهتمام على جعل الإيمان والعقيدة أساسًا وقاعدة لذلك، وهكذا يصار إلى جعل بنية جيش الجمهورية الإسلامية وقوات حرس الثورة على أساس الهدف المذكور، ولا تلتزم هذه القوات المسلحة بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل – أيضاً- أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد في سبيل الله، والنضال من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم".

 من الواضح هنا من هذه الفقرة أن القوات المسلحة الإيرانية تُعدّ للغزو الخارجي ولاستعمار الآخرين باسم الإسلام الإيراني الشيعي الصحيح وفق وجهة نظرهم، لكن ما غاية إيران من كل ذلك؟ سنجد أن الهدف الإيراني النهائي من كل ذلك جعل هذا القرن قرناً إيرانياً، حينما يخلص الدستور الإيراني إلى ذلك من خلال النتيجة التي يسعى إلى تحقيقها: "على أمل أن يكون هذا القرن قرن تحقق الحكومة العالمية للمستضعفين وهزيمة المستكبرين كافة" ([22]).

 في الوقت الذي يعتبر فيه دستور الثورة ومراجعها الدينية أن المستكبرين في العالم الإسلامي هم الذين لا يطبقون الحكم الإسلامي الشيعي النقي ([24].

أن النظريات المتعلقة بمشروعية حدود سلطة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الخارجية والتي تؤطر سيادتها على دول خارج نطاق حدودها الجغرافية وفق أسس مذهبية خالصة، كانت ولا زالت تشكل أساسا مهماً لفهم سلوك السياسة الخارجية الإيرانية ، حيث أجازت إيران لنفسها وفق هذه النظريات وضع أطرٍ وتصورات تبيح لنفسها بناء إمبراطورية ، ذات حدود مذهبية خالصة ، إذ وضعت هذه النظريات تصورات مذهبية، قومية، وسياسية حول كيفية بنائها لإمبراطورية مذهبية تكون هي بمثابة المركز والمرجع للعالم الإسلامي، و منحت هذه النظريات "إيران" صلاحيات وسلطات خارج حدودها على اعتبار أنها دولة الإسلام الحقيقي التي تجسد نواة العالم الإسلامي ومركزه القيادي.

 وهذا بالتأكيد يتضمن تحديد الخصائص التاريخية الجو استراتيجية مذهبية ضمن تتابعها المذهبي الصرف سعياً لتحليل رؤية الشيعة لأهداف المهدي، وكيفية تمهيد الأرضية اللازمة لعودته، وكيف تتعامل إيران اليوم مع دول الهلال الخارجي التي تمثل مناطق توسع للمهدي الشيعي القادم؟ وما هي الأساليب التي تتوسل بها للتأثير على واقع هذه الدول للتسريع بعودته الميمونة؟ وكيف تتعامل مع مداخل الأزمات بهدف توظيفها لخدمة أهدافها المزعومة، وحتى رفع سقف المؤشرات للتدليل على قرب ظهوره، كالتسريع في التخريب والقتل، ونشر الهرج والمرج، على اعتبار أن المهدي الشيعي لن يظهر، إلا إذا اقترن ظهوره بهذه المتغيرات؟ وكذلك كيف تنظم إيران "دولة مركز انطلاق" المهدي علاقاتها المتشعبة مع دول الهلال الخارجي، وتمهيد الأرضية التي تمكن المهدي من إحراز التقدم العسكري والمذهبي دون مشاكل، وهذا الأمر يتضمن بناء إيران لقواعد ارتكاز ومصدّات ستكون جاهزة للتحرك بمجرد ظهور المهدي لمساعدته في أداء مهمته، بحيث يمكن الاستفادة منها كذراع قوي لتكوين مصدّات داخل هذا الدول حماية ليس لمصالح دولة القلب المذهبي، بل اانسجاما للحفاظ على دورها المستقبلي في الإسهام في بناء إمبراطورية المهدي الشيعي التي ستحكم العالم؟

 لا شك بأن هناك مجموعة أخرى من العناصر الأساسية التي تُمثل عوامل قوة لإيران وفق نظرتهم المذهبية للإمبراطورية المهدوية القادمة، فهي تشمل محددات جغرافية لدولة القلب المذهبي تتمثل بفعالية الموقع وأهميته بالنسبة للمهدي الشيعي، حيث سوف تدعم إيران قوة المهدي من خلال بنائها دولة القلب المذهبي، بحيث ستكون جاهزة للانطلاق، بعد أن تصبح دولة المركز أقوى دولة عسكرية واقتصادية في المنطقة، فمرونة الموقع وقوة إمكاناته، سوف تمكن دولة القلب المذهبي في أن تصبح حلقة الاتصال بين القلب والأطراف (الهلال الإقليمي والخارجي)، هذا فضلا عن فعالية هذا الموقع وإمكاناته ومكوناته في بناء دعائم مصدات دفاع مذهبي داخل الدول التي ستكون هدفا لفتوحات المهدي الشيعي القادم من بلاد فارس.

 كذلك ما يتمتع به هذا الموقع وما أكسبه لإيران من أهمية تتمثل بمواردها العسكرية (التقليدية وفوق التقليدية) الاقتصادية، والروحية، وما تتملكه من موارد داخلية وخارجية كامنة، وكذلك فإن للجزر الإيرانية سماتها، وخاصة أن تكوينها لوحدات جغرافية سوف تشكل نقاط ارتكاز تمنع تقاطعها الطبيعي مع الحدود السياسية للهلال الخارجي الذي سوف يشكل خطوطاً دفاعية مذهبية من الدرجة الأولى، ولهذا فهي متحفزة للاستفادة من الموارد القادمة من الأقليات الشيعية والإيرانية في دول الهلال الإقليمي وإمكاناتها المختلفة، وتدوير هذه الموارد لدعم جهود المهدي لتحرير الشعوب من خلال تشيعهم، ومن هنا فإن إحدى أهم اهتمامات دولة القلب المذهبي الشيعي هو السعي للسيطرة على موارد إضافية جديدة من دول الهلال الإقليمي التي دخلت فعليا ضمن مجالها الحيوي المذهبي وفي مقدمتها العراق ونفطه، وهذا يفسر أهداف إيران من صياغة حركة اقتصادية فعالة بين مركز دولة القلب المذهبي الشيعي والجيوب الشيعية بصور وأشكال مختلفة ليكون العراق أول خطوط الإمداد المذهبي، ويمثل في الوقت نفسه أقوى المصدات التي تسعى دولة القلب المذهبي "إيران" لبنائها.

 ووفق هذه الرؤية فإن هذا يفسر - أيضا - سعي ايران إلى تأسيس" قواعد ارتكاز ومداخل نفوذ" في المقتربات الجغرافية داخل الهلال الداخلي والخارجي، بهدف تجنب التعرض المباشر للعدو لحظة اندلاع أية نزاعات جديدة، وعدم التعرض" لمركز المجال الحيوي" في حال تهديده نتيجة نشوب أية أزمة مستقبلية، وهذا الأمر لم يتحقق دفعة واحدة أو بين عشية وضحاها، بل استفادت الجمهورية الإسلامية بصورة هادئة ومرحليا من الظروف الداخلية الإيرانية، وكذلك المتغيرات الإقليمية والدولية للتفرغ بهدف بناء هذا المجال وعلى مراحل متعددة من خلال تداخلها وتفاعلها مع مداخل الأزمات الإقليمية الموجودة في المنطقة، ومستفيدة في الوقت نفسه من الظروف الدولية التي باتت تستهدف الإسلام السني، وتقديم الشيعة أنفسهم كبديل، كل ذلك بهدف تهيئة الظروف والأدوات لنجاح المهدي الشيعي الذي سيخرج العالم من الظلمات إلى النور.

 ومن هنا نجد أن إيران تنطلق من خلفيات إمبراطورية مذهبية وخرافية حاقدة على دول العالم السني، وأنها مستعدة للتحالف مع الشيطان في سبيل تحقيق هدف السيطرة على المنطقة من خلال رؤية مهدوية تُقسّم العالم إلى أقاليم جغرافية، ومن هنا فإننا سنبحث هذه الأقاليم، والإطار الجغرافي والزماني للإمبراطورية الشيعية الموعودة، وما هي مقوماتها، ودور إيران فيها؟ وسوف نبحث هدف إيران "دولة القلب المذهبي" من تبني استراتيجية داخلية تهدف لمحاصرة أهل السنة والجماعة في إيران على اعتبار أن هذه الجماعة تُشكل خطراً كبيراً على دولة القلب المذهبي وعلى دولة المهدي التي سوف تظهر.

 لا شك أن حركة إيران نحو تفعيل المجال الحيوي المذهبي سوف يؤدي إلى تغيير جذري في علاقات الدول العربية معها؛ لأن "فرضية الصدام المذهبي" ستكون محققة بامتياز هذه المرة، فالعالم العربي وشعوبه تتابع بدقة حركة السياسة الإيرانية، وإذا كانت فكرة مضي إيران في تفعيل فكرة المجال الحيوي ستجيب على الأسئلة المطروحة من زاوية من زواياها وتفسر لنا سلوكها السياسي، إلا أنها سوف تؤدي إلى تصاعد درجة الصراع على مقياس متعدد الدرجات بين الدول العربية التي يستهدف مجالها الحيوي بصورة خطيرة.

 يمكن القول: بأن فكرة المجال الحيوي المذهبي سوف تؤدي إلى ردّ فعل عربي وشعبي مضاد لمقاومة هذه الفكرة تمهيدا لاحتوائها، وسوف يبرر الصراع في إطار عنوان "هوس التهديد المذهبي" لأنه وفقًا لهذه الرؤية سيحاول المذهب الشيعي التكيّف للتمدّد حتى يحقق النمو وبشكل يضمن له القدرة على الصراع والاستمرار، وبالتالي لن يبقى سوى الأقوى والأكثر قدرة على المواجهة، وحتما سيكون الهلال العراقي "المختبر الجيوبولتيكي" الذي يمثل أولى ساحات المواجهة المذهبية.

 أما تحقيق النصر الاستراتيجي فمعناه "هدم التوازن المذهبي" في العراق والمنطقة من أساسه، والخطوة الثانية هي بناء دولة "أم القرى" التي ستشكل العراق إحدى المقاطعات التابعة لها، وبالتالي إعادة المنطقة إلى حرب باردة مذهبية من جديد، وعليه فمن صالح الأطراف العربية ألا يكون هناك غالب ولا مغلوب مذهبي في العراق، أما مصلحة الغرب عموما هو العكس، واللبيب من باطن الاستراتيجيات يدرك ويفهم أبعاد ذلك.

 وهذه الصياغة "الجيومذهبية" (

[2] - (مقدمة قانون أساسي إيران، ص22).

[4]- (الخميني، مواقف وآراء، نشر قومس، 1378، ص 17-18).

[6]- (صحيفة نور جلد 10، ص 230، جلد 13، ص 45، جلد 22، ص 265).

[8] - (صحيفة نور، مجلد 12، ص 13-14).

[10] - (كان رفسنجاني يرأس عدة مؤسسات في إيران ومن ضمنها مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي يرسم السياسات العامة في إيران، ويعتبر رفسنجاني مهندس العلاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ففي عهده تمت أكبر عملية بيع سلاح بين إيران وإسرائيل، عرفت بفضيحة إيران غيث الذي كان رئيسا للجمهورية الإيرانية).

[12]- (يقول الخميني: ينبغي للفقهاء أن يعملوا فرادى أو مجتمعين من أجل إقامة حكومة شرعية تعمل على إقامة الحدود، وحفظ الثغور، وإقرار النظام. وإذا كانت الأهلية تلك منحصرة في فرد، كان ذلك عليه واجبا عينيا، وإلا فالواجب كفائي. خميني، صحيفة نور، مرجع سابق، جلد 5، ص 78-79).

[14] - (الثومان كلمة عسكرية معناها باللغة الفارسية تقسيم عسكري بمعنى فرقة مكونة من عشرة الآف جندي، حتى يبقى مفهوم القوة والشوكة والغلبة والتفوق ماثلا في ذهن الشعب الإيراني، معجم المعين، مجلد1، ص102).

[16]- جاء في الدستور أن دستور جمهورية إيران الإسلامية يعكس البنية الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الإيراني القائم على أساس المبادئ والقواعد الإسلامية، المرجع: مقدمه قانون أساسي إيران).

[18]قانون أساسي، المادة التاسعة).

[19]- (قانون أساسي إيران، المادة الحادية عشرة).

[21]- (مقدمة قانون أساسي إيران).

[23]- (سعيد شكوهى، تأثير انقلاب إسلامي بر روابط إيران باكشورهاى عربى، مجلة علوم سياسي، شماره 147، تير ماه، 1374، ص 34-35).

 [25] - (اصطلاح يعني العلاقة بين الجغرافيا والمذهب).

وسوم: العدد 782