أوروبا والنقاب بين الحرية الفردية والدواعي الأمنية

د. إسماعيل خلف الله

لا شك في أن الأحزاب اليمينية المتطرفة، والأحزاب الشعبوية الغربية عمومًا، والأوروبية على وجه الخصوص، قد استثمرت بقوّة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والهجمات الإرهابية المتكررة لما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المختصر بكلمة "داعش"، وبخاصة تلك الهجمات المسلحة تارة، وعمليات الدهس بالمركبات والشاحنات، تارة أخرى والتي حدثت أغلبها في معظم العواصم الأوروبية كباريس ولندن بروكسل.

 وقد نجحت هذه الأحزاب إلى حدّ بعيد في تكريس الخوف من الإسلام والمسلمين، أو ما يُعرف بالإسلاموفوبيا، وتوظيف ذلك لغايات انتخابية، فأعطاها دفعا قويًا، بل وعوّضها عن ضعف خطابها السياسي، وانعدام برامجها الاقتصادية والاجتماعية، لكي تكون بدائل لما هو موجود، وحلا للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المطروحة، والتي تعيشه أغلب المجتمعات الأوروبية.

 ومن خلال هذه المواجهة والمعارضة المعلنة والخفية للتواجد الإسلامي في أوروبا، ظهرت جليًا فكرة تسييس هذا الواقع والمعروف بمصطلح الخوف من أسلمة أوروبا، أو الإسلاموفوبيا.

 ومن هنا أصبح التصدي لكل مظهر له صلة بالإسلام وبالجالية المسلمة في أوروبا، أمرا محسوما.

 ومن بين هذه المظاهر فرض حظر على ارتداء النقاب أو ما يُعرف بالبرقع في الأماكن العامة.

 وقد كانت فرنسا أولى الدول الأوروبية التي سنّت تشريعا خاصا يحظر ارتداء النقاب أو البرقع في الأماكن العامة، وقد بدأ العمل بهذا القانون في شهر نيسان / أبريل عام 2011.

وللإشارة فإن النص القانوني لا يشير بشكل صريح إلى مصطلح البرقع أو النقاب كظاهرة دينية، وإنما جاء في صياغة مفتوحة: "لا يُسمح لأحد بارتداء قطعة ملابس في الأماكن العامة والتي تعمل على تغطية الوجه".

 وفرنسا أيضا كانت الدولة الأوروبية السباقة في سن القانون الذي يحظر وضع ملابس دينية، بما في ذلك الحجاب، في المدارس وهذا منذ عام 2004.

 وحسب بعض التقديرات التي أشارت بأن قانون حظر ارتداء البرقع في فرنسا قد مسّ ما يُقارب إلى ألفي امرأة فقط كانت ترتديه، من بين أكثر من خمسة ملايين مسلم، وبالتالي فهو لا يمس شريحة عريضة من الجالية المسلمة في هذا البلد.

 وفي شهر تموز/يوليو من العام نفسه 2011، تقوم بلجيكا هي الأخرى بإصدار قانون يحظر ارتداء النقاب أو البرقع في الأماكن العامة، وكل مخالفة لهذا القانون تُواجه بدفع غرامة مالية وقد ترتقي إلى أحكام بالسجن تصل إلى أسبوع.

 وهولندا هي الأخرى تحذو حذو فرنسا وبلجيكا، حيث أصدر البرلمان الهولندي في عام 2016 قانونا يحظر ارتداء النقاب في المدارس والإدارات العامة والمستشفيات وفي وسائل النقل العمومية.

 وبلغاريا في عام 2016 هي الأخرى تسن قانونا يمنع ارتداء النقاب في الأماكن العمومية باستثناء أماكن الصلاة والعمل والرياضة.

 والنمسا تلتحق هي أيضا وتصدر القانون نفسه، وقد دخل حيز التنفيذ في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2017 عام.

 والدانمارك هي الأخرى تقوم بسن تشريع يحظر ارتداء النقاب ودخل حيز التنفيذ في شهر أغسطس/أوت من هذه السنة 2018.

 وبالأمس فقط الأحد 23 سبتمبر 2018 يتم التصويت بالأغلبية الساحقة بلغت 67 بالمائة في استفتاء عام على قانون حظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة في كانتون "سانت غالن" بسويسرا، وهو ثاني إقليم سويسري يقوم بإصدار هذا القانون بعد كانتون تيتشينو الجنوبي الذي كان قد أصدر القانون نفسه في عام 2016.

 ومن المتوقع جدا أن يتم التصويت على هذا القانون في كل أنحاء سويسرا في العام المقبل 2019.

 ويبقى الموضوع محل نقاش في دول أوروبية أخرى.

ما يمكن أن نقرأه في هذا المشهد ما يلي:

 في البداية أريد أن أركّز على أن من حق الدول بل من واجب هذه الدول أن تحمي مواطنيها ومؤسساتها من أي خطر كان، أي من حق مواطني هذه الدول أن يتم ضمان الأمن العمومي لهم، خاصّة بعدما تمّت العمليات الإرهابية هنا وهناك في أمكنة وأزمنة متعددة، وعلى أن إخفاء الوجه يمثل خطرًا وتهديدا مستمرًا في الشوارع وفي الأوساط العامة، وهو قنبلة موقوتة تنفجر في أي لحظة، لكون أن هذا النقاب يُمكن أن يُستعمل للتخفي للقيام بعمليات إرهابية.

 ولكن بالمقابل نقول بأن هذه القوانين قد استهدفت مبدأ مقدس في المنطقة الأوروبية ككل التي تعتبر رائدة في احترام الحقوق والحريات، بل هو جوهر الحريات في الفلسفة الحقوقية الأوروبية، هذا المبدأ هو مبدأ الحريات الفردية، سواء تمثلت في حرية التدين أو في حرية الملبس، وبالتالي فإن الحريات الفردية أصبحت في خطر، وهو تعدي واضح على الحريات الدينية.

 نقول أيضا: إن اصدار هذه القوانين بهذه السرعة، وبالأخص الحكم الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي اعتبرت من خلاله بأنه ضروري في مجتمع ديمقراطي لحماية حقوق وحريات الآخرين، ووسيلة لمكافحة التطرف والإرهاب المتصاعد.

 كل هذا التوجه الحقوقي الأوروبي في نظرنا قد أعطى مبررًا قويًا وورقة رابحة لدعاة الاسلاموفوبيا الذين يُسوِّقون دائما على أن الإسلام والجالية المسلمة خطر على أوروبا وأمنها، وعلى رأسهم أحزاب اليمين المتطرف، هذه الأحزاب التي صعدت على أكتاف الإرهاب الذي ضرب العواصم الأوروبية وتبنته "داعش" للأسف، ومنحها الورقة الرابحة، والضوء الأخضر في تجسيد فكرها الأيديولوجي المتعصب في شكل قوانين وتشريعات.

هذه الأحزاب التي أصبحت في نظرنا تُشكل خطورة على العيش المشترك في مجتمع متعدد الثقافات.

 فهذا التوجه سيُشجع التحامل والكراهية والخوف من الإسلام أو من المسلمين، وسيعطي دفعا قويا لتطبيق فلسفة الاسلاموفوبيا التي نعتبرها شكلا من أشكال العنصرية الحديثة، وهو عمل يؤدي بالضرورة إلى ممارسات تمييزية وإقصائية ضد المسلمين في أوروبا، ويُنمي ويُدعّم فكرة أن الإسلام لا يتعايش مع الثقافات والأديان الأخرى، بل ولا يشترك معها في أي قيمة إنسانية أو أخلاقية،

 كما سيؤدي هذا التوجه على الترويج لفكرة أن الإسلام هو العدو الجديد بعد الشيوعية.

السؤال الذي نطرحه هو لماذا وصل الواقع إلى هذا الحد؟

ولماذا صعدت هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة، والأحزاب الشعبوية بقوة وبسرعة؟

 الإجابة في تصورنا تكمن في أحداث 11 سبتمبر وما تركته من آثار سلبية على العالم الإسلامي ككل، جعلت منها أسبابا قوية للاحتلال المباشر للعراق وأفغانستان وللضعف السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمكون العربي والإسلامي، جعل الجالية المسلمة في الغرب تعيش في ضعف تام، لانعدام السند السياسي والثقافي والديني، الذي كان من المفروض أن يأتي من الدول الإسلامية.

 ومن بين الأسباب المباشرة أيضًا هو الإرهاب الذي ضرب معظم العواصم الأوروبية وبعض من مدنها، وكان يتبناه تنظيم داعش في كل مرة، هذا التنظيم الذي يُنصّب نفسه سفيرا للإسلام وحاميه، وهو في الواقع خنجر في صدر وظهر الإسلام، وأداة هدم وتشويه له كما ذكرنا في البداية.

 هل الجالية المسلمة في الغرب وفي أوروبا على وجه الخصوص شريك في صناعة هذا الواقع؟

 أقول بكل أسف نعم، لفشلها في الاندماج الإيجابي داخل المجتمعات الأوروبية المختلفة،

ولما لها من ميل نحو تكوين مجتمعات خاصة منغلقة على نفسها، أدّت بالضرورة الى جهل الكثير من من مكونات المجتمعات الأوروبية لحقيقة الإسلام، وعلى أنه دين يدعو للسلم والتسامح والتعايش مع مختلف الثقافات والديانات.

كما أن ظهور وانتشار الفكر الذي يدعو إلى تحريم التصويت والمشاركة في مختلف العمليات الانتخابية داخل مختلف الدول الأوروبية أدى بالضرورة إلى إقصاء هذا المخزون الانتخابي الضخم، الذي كان من المفروض أن يكون أداة من أدوات المناورات السياسية المختلفة، وبقاء الجالية المسلمة كتلة جامدة معزولة، وحتى لا أقول جثة ميتة.

وسوم: العدد 791