العلمانية كبديل 3 (معضلات التحوّل العلماني)

يحتاج الدارسون للعلمانية قبل أن يعيدوا التفكير في البديل العلماني أن يقفوا على المعضلات التي كسرت الموجة العلمانية في بلاد الإسلام خلال قرن مضى، ولعل أهمها:

1-          معضلة الإسلام

قدم الأنثربولوجي أرنست غلنر أطروحته بعد أن شغله سؤال "لمَ يكون دين واحد بعينه [الإسلام] على هذه الدرجة الملحوظة من مقاومة العلمنة؟"، وخلص إلى أن في الإسلام إيمانا دينياً عميقاً، بمعنى الدين المؤسس العقيدي القادر على تحدي أطروحة العلمنة بشكل كلي ومؤثر.([2])

إن طبيعة الإسلام كديانة وكتجربة تاريخية لا تعطينا أي مبرر لاستيراد العلمانية، فلم تكن مشكلة المسلمين مع الكنيسة بقدر ما كانت مع السلطة القهرية التي اختطفت الدين أحايين عديدة لتحقيق مآربها. كما أن هذا الكم الهائل من الأحكام القطعية المبثوثة في كتاب الله لا يمكن للضمير المسلم أن يتنازل عنها لأي مبرر كان، فهو يرى أن المروق عنها مروق عن الإسلام، وتصور الشرق الإسلامي بدون إسلام محال.

وقد حاول نفرٌ من العلمانيين العرب تحديث الإسلام عبر تحوير أحكامه القطعية تحت يافطة التجديد، وكرسوا مناهج وأدوات كثيرة لتأويل النص الديني كي يعلمنوا الإسلام، غير أن النتيجة باءت بالفشل الذريع، وتهاوى خطابهم المزركش بدعاوى التجديد تحت سطوة المحكمات القرآنية التي يفقهها كل مسلم.

ما تقوله لنا تجربة قرن من محاولات العلمنة= أن ثمت بلاد كثيرة قد تهضم المنظور العلماني إلا بلاد الإسلام، لأن طبيعة الإسلام تأبى ذلك فهو كما يعرّفه بيجوفيتش: (نسخة من الإنسان. ففي الإسلام تمامًا ما في الإنسان. فيه تلك الومضة الإلهية، وفيه تعاليم عن الواقع) وقرآنه (مركب فريد يجمع بين واقعية «العهد القديم» ومثالية «العهد الجديد»)(معضلة التجربة العربية

      شهد القرن الفائت تجربة واسعة للمنظور العلماني على مستوى العديد من الأنظمة التي جاهرت بتبني النهج العلماني، وكانت النتيجة مخيبة للآمال فلا نهضة أحرزت ولا حرية تحققت ولا تحول ديمقراطي نعمت به المنطقة! وما ثم إلا صدام لمقومات الأمة حتى انهارت بعض تلك النظم بفعل الاحتجاج الشعبي جراء القمع والقهر؛ فاكتنزت الذاكرة العربية صورة موحشة عن العلمانية التي لم تبرع إلا في القهر والحرمان وضياع الهوية، ومحاولة إعفاء العلمانية من التمثلات العربية تشبه إلى حد ما محاولات إعفاء النظرية الاشتراكية من التمثلات المختلفة في دول عديدة، ولو رُزق دعاة هذه أو تلك يقظة وعي لاكتشفوا أن الخلل في صُلب النظرية التي جرّت على الناس الويلات.

 

ما بعد العلمانية:

غير أن ثمت سؤال عن مصير العلمانية؛ فأوجست كونت (1857م) أبو الوضعية الفرنسية يرى أن العلمانية قدر البشرية الذي لا مفر منه، فالإنسان يمر بثلاث مراحل تاريخية مرحلة الأساطير ثم مرحلة الميتافيزيقيا ثم ينتهي به المطاف عند مرحلة الوضعية العلمية التي تقطع العلاقة مع أي مرجعية دينية أو غيبية([5])، وشعورهم بعدم الحاجة للدين، (وظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) [يونس:24]. هذه العوامل المتضافرة أزاحت الدين من الهيمنة العليا في المجال العام في أوروبا وأفسحت الطريق للنموذج العلماني الدهري الدنيوي.

غير أن الموجة الدينية لا تزال تطل بتأثيراتها على السياسة في الغرب، فالعلمانية الفرنسية مثلّت قطيعة حادة مع الدين في بواكير ثورتها، ثم تراخت القبضة المتشددة في السنوات الأخيرة وبدأ الخطاب اللائكي يفسح المجال لخطاب ديني كاثوليكي ينمو على استحياء ما جعل المفكر العربي "عزمي بشارة" يتنبأ بصحوة دينية تغزو الحياة السياسية في فرنسا تشبه إلى حد ما تلك المزاوجة التي قامت في أمريكا بين  الدين والعلمانية وأنتجت ما يمكن أن يُسمى ب" العلمانية المتدينة" حيث لا يجد رئيس الولايات المتحدة بوش الابن غضاضة من استخدام الخطاب الديني لتبرير حربه على العراق في بلد يرى 45% من سكانه أنه بلد مسيحي مقابل 45% آخرين يرون أمريكا بلداً علمانياً، أي أننا أمام حالة مغايرة للحالة الأوروبية التي تستنكر على "توني بلير" استخدامه الخطاب الديني لتبرير حرب العراق ما أدى إلى تضائل شعبيته([7]). ويؤازره في الاتجاه نفسه عالم الاجتماع الأمريكي "رودني ستارك" إذ يرصد إخفاقات العلمنة في مواجهة الإيمان والأصولية المسيحية ويختار لبحثه عنواناً مثيراً: (فلترقدي بسلام أيتها العلمنة! )([9])، ولا يبتعد طرح "ماكس فيبر" عن هؤلاء في حتمية انبعاث المثاليات والأفكار القديمة.

ونحن هنا نتحدث عن دين لا يمتلك منظومة تشريعية متداخلة في كل جوانب الحياة، وما ثم إلا وصايا رئيسة في العهد الجديد، وأحكام محدودة في العهد القديم، وأمنيات تدفعهم للهيمنة على الدنيا والتبشير بكلمة المسيح، ولفهم ظاهرة الدين والتدين في الغرب نحتاج ألا نسقط مفهومنا للتدين على تصوراتهم فترامب المنخلع من كل قيمة، يعتبر صوت المتدينين في أمريكا!

أما في عالم الإسلام فستمر التجربة العلمانية غير مأسوف عليها لأنها في جوهرها محاولة استنبات أمراض أوروبا لإيجاد مبرر لاستيراد الدواء الأوروبي، في حالة غفلة شديدة عن خصوصيتنا الثقافية ومشاكلنا المختلفة عن أوروبا، فلم نعاني من إقطاع حتى نستورد الشيوعية، ولا كنيسة لدينا متحكمة حتى نهتف للعلمانية، وما ثم إلا تخلف علمي وتقني تحت قهر سلطاني خليق بالأحرار أن يواجهوه بصحوة فكرية تقاوم الجمود، ونضال سياسي يعيد الشورى لأهلها، وقد خلُص الكاتب الأمريكي" نيك دانفورت" إلى أن المسلمون سيجدون طريقهم بأنفسهم خلال المستقبل بغض النظر عن التجربة العلمانية الغربية، ويُذّكر الغربيين بفشل التحديث العلماني الذي حاوله أتاتورك من قبل([11])، ومن قبله أدرك محمد عابد الجابري أن لا مكان للعلمانية في أرض الإسلام فهتف في زملائه قائلاً: (مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات: إن الحاجة إلى الديمقراطية والعقلانية هي حاجات موضوعية فعلاً)(

([2]) المرجع السابق.

([4]) الدين والعلمانية، رفيق عبد السلام، ص23.

([6]) الدين والعلمانية، عزمي بشارة(2/325).

([8]) المصدر السابق ص42.

([10]) https: //foreignpolicy. com/2015/01/02/islam-will-not-have-its-own-reformation/

([12]) حوار المشرق والمغرب، محمد عابد الجابري، ص39.

وسوم: العدد 791