المدارس السورية.. الباب الخلفي لعقلية التعذيب

تشكل المدارس السورية في صورتها العامة آلة عملاقة لتحطيم الفرد، من خلال بناء منظومة قيم ثقافية واجتماعية تتحول إلى مسلمات بعد عملية تكرار مضنية تستمر 12 عاماً

في المرحلة الابتدائية سألتنا إحدى المعلمات في مدرستنا عن طموحنا، فجاءت آمالنا متنوعة بين الطب والهندسة والمحاماة، بعضنا كانت آمله مفرطة في واقعيتها كسائق حافلة أو موظف وما شابه، آخرين ممن لم يدركوا الأوضاع السياسية في البلاد بعد، أملوا في أن يكونوا رؤساء ووزراء ورجال دولة.

استمعت لنا معلمة الصف، ثم شتمتنا ونعتتنا بأسماء حيوانات وكلمات نابية ساخرةً من أحلامنا، ربما دفعها إلى ذلك الحذر السياسي، لكن بكل الأحوال فعلها كان محطم ومحرج.

الوعي والتعذيب

أخذ التعذيب أشكالاً متعددة عبر التاريخ، ارتبطت بمدى وعي الإنسان بذاته، هذا الوعي الذي استغله بصورة مثلى للتحكم بمقدار ونوعية الألم الذي سيلحقه بالآخرين. ومن اللافت للنظر بشكل صادم، الجهد التبريري المبذول تاريخياً لتسويغ فكرة التعذيب، وتكرارها بأشكال مختلفة، أدت بالنهاية إلى الربط بين التنوع والرغبة في العثور على متع جديدة في الانتهاك، إما من خلال طريقة التنفيذ، أو من خلال ابتكار المسوغات التي تجيز التعذيب.

تعطي النقطة الأخيرة مجالاً واسعاً للجناة لممارسة وحشيتهم ضمن حبكة درامية تراجيدية تخييلية، تعوضهم أحياناً عن ملامسة الأثر المباشر لانتهاكهم جسد الضحية، لا سيما بعد أن تطورت العقوبة من إلحاق الأذى البدني، إلى التأثير على نفسية وشخصية الضحية. إلا أن العصب الأساسي الجامع لكل هذه الأنواع منذ العصور البدائية، حتى العصر الحديث، هو الرغبة في التشهير والإهانة، وفق ما يُلاحظ من كتاب "تاريخ التعذيب"، للكاتب الأمريكي بيرنهاردت ج.هروود.

على ضوء هذه المعطيات، أحاول استعادة الحياة المدرسية في سوريا، لإزالة غطاء "العقوبة" القانوني عن الممارسات المتبعة بحق الطلاب في المدارس، والبحث في دورها بخلق مجتمع "التعذيب" السوري، الذي صدم العالم بأسره بمقاطع الفيديو الوحشية منذ بداية الثورة عام 2011.

"يوزف ك" مكرراً

تشكل المدارس السورية في صورتها العامة آلة عملاقة لتحطيم الفرد، من خلال بناء منظومة قيم ثقافية واجتماعية تتحول إلى مسلمات بعد عملية تكرار مضنية تستمر 12 عاماً، تجعل نقاشها أمراً مفروغاً منه، وغائباً عن ذهن الضحية منذ السنوات الأولى للدراسة.

يتجذر تغييب الوعي لدى الطلاب، من خلال التعذيب النفسي والجسدي، الذي يدفعهم إلى سباق محموم من أجل حفظ كرامتهم، التي كان من المفترض ألا تكون في موضع تهديد واختبار داخل المدارس.

ومع فشل معظم المدرسين في تبرير فوائد موادهم الدراسية في الحياة العملية، كمادة الجبر مثلاً، باتت المدرسة بتصميمها الهندسي المليء بالقضبان الحديدية، والجدران الخشنة المرتفعة، والبوابات المنتهية بأشكال حادة، والمدرسين الذين يتجولون في الأروقة والباحات بالعصي الخشبية، أقرب ما تكون إلى سجن، بست أو سبع حصص يومية من الأعمال الشاقة.

الاحتجاز القسري غير المبرر، سوى بالعرف، كون جميع الأطفال عليهم أن يلتحقوا بالمدارس "السجون"، يزيد من شعور الضحايا بالذنب، وهو شعور غير مبرر أيضاً، وغالباً ما يلتصق بشكل مبهم وخفي في شخصية الطالب.

هكذا يتحول الطلاب إلى نسخة مكررة من شخصية "يوزف ك" في رواية "القضية" لفرانز كافكا، الذي يدافع عن براءته أمام محكمة مجهولة، دون أن ينجح لمرة واحدة في معرفة التهمة الموجهة إليه. وتتطابق هذه الصورة مع ظروف الاعتقال في القرون الوسطى بمعظم دول أوروبا، حين كان يحرم المتهم من معرفة تهمته، أو توكيل مدافعٍ عنه، أو حتى الدفاع عن نفسه، ويبقى مجهّلاً ومسلوب الإرادة حتى تنفيذ الحكم بحقه.

وأتت مادة "السلوك" في المنهاج السوري، وهي مادة مرسبة يحدد درجاتها الأساتذة/السجانون بعد تقييم سلوك الطالب، لينصاع الأخير بشكل مطلق إلى لعبة "إثبات البراءة" أمام معلميه.

بهجة السيرك

لجأت السلطات إلى السجون تاريخياً إما لعزل المجرمين ومعاقبتهم، وإما لإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع، لكن ظروف احتجاز السوريين في سجون مدرسية منذ عمر 6 سنوات، تبدو أشبه بحصص تدريب السيرك، إذ يُجرد الإنسان من إرادته، ويتم تدريبه على أداء مهام معينة لإمتاع معلميه أولاً، وإتقانها ضمن المجتمع المصغر داخل حدود مدرسته، قبل أن يمارسها بحرفية في البلاد بعد إطلاق سراحه.

وتأتي متعة المعلمين من انصياع تلاميذهم، كون القدرة على الترهيب مرتبطة بمستوى كفاءة المدرس، فأكثر الأساتذة شهرة في المدارس بمقدراتهم "التدريسية" كانوا عنيفين. وعادةً ما يكون التعذيب بهدف استعادة هيبة السلطة وإثبات قوتها، لكن الأمر محسوم في المدارس السورية بين طرفي العلاقة، طالب المدرسة في السنوات الأولى من عمره، والأستاذ غالباً في آخر العشرينات وما فوق، رجحان كفة القوة وإثبات السلطة أمر مفروغ منه، لتأخذ العقوبة هنا بعداً يمسّ الرغبة بـ"تحقيق الذات" (كمدرّس كفؤ)، وما يرافقها من شعور بالاكتفاء واللذة عند إشباعها.

تخريب الخيال

مع تطور معرفة الإنسان بذاته، واكتشافه لأساليب سيطرة جديدة تشمل السلوك والتفكير، انتقل التعذيب إلى مرحلة جديدة من الجسماني إلى النفسي، وهذا ما حافظت المدارس السورية على المزج بينهما.

لكن لتحقيق هذه الأهداف دون جهد يذكر، كون الأستاذ "السجّان" كسول، كان لا بد من تحطيم معرفة الفرد عن نفسه، ومنحه معرفة جديدة تتناسب مع قدرات سجانيه على التحكم والتنكيل بها، وتتمثل أولى هذه الخطوات، بتدمير الطموح ونسف الثقة بالنفس.

صورة أخرى من تلك الفترة لتوضيح العقلية السائدة، معلمة في ذات المرحلة الابتدائية تسأل طلابها الذين لم تتجاوز أعمارهم العشر سنوات، عن طريقة ضرب عائلاتهم لهم. استمعت هي لكل أصناف التعذيب، من استخدام العصي إلى الأحزم الجلدية، مروراً باستخدام الأيدي والأقدام، الابتسامة المتلذذة على وجهها، والرضى السادي من مشاركات طلابها، هي واحدة من أكثر الصور التي لا يمكن أن تفقدها ذاكرتي.

المطلوب فرد "عادي"، ذائب بين طوابير زملائه "العاديين"، المحرجين من أحلامهم. المطلوب مواطن مثالي مفرط في واقعيته، وربما يفسر هذا التأسيس سبب العداء الشديد بين معظم السوريين والخيال، ما لم يكن خيالاً مؤسساتياً، دينياً أو وطنياً.

الشهود العميان

تحطيم الفرد في المدارس السورية، وإلغاء فرادته لتنصب في بوتقة قطيع جمعي، لا تجعل منه شخصاً محصناً وأكثر قوة ضمن مجتمع اشتراكي كما تدعي أجهزة النظام الحاكم، فالجماعة هنا منزوعة الإرادة، وتتماسك فيما بينها لإشباع حاجة السلطة في الرضوخ، لتسهيل قبول هذا التشوه في الفطرة الإنسانية السليمة التي تنزع نحو صون كرامتها.

هكذا يسهل على الفرد قبول ما يجري على نُسخه المكررة، ذوي اللباس الموحد، فاقدي الثقة والمجهّلين، الذين لا يدركون ذواتهم إلا بحواس ورغبات السلطة. استناداً إلى هذه الأرضية، يمكن للأستاذ/السجان تعذيب من يشاء وبأي طريقة يشاءها، فأفراد المجموعة التي يجري الفعل أمامها لا تُخشى عيونهم كونهم ليسوا شهوداً محايدين، ولا وجود لهم خارج رؤية السلطة المدرسية، فزميلهم المعذب يتلقى عقوبة استحقها وحملت مبرراتها الكافية لمجرد كونها صادرة عن السلطة. هكذا يصبح الطلاب كائنات منزوعة الإرادة أمام تعذيب زملاءها، فلا يفكرون بتقديم المساعدة، وهكذا تراهم الضحية فلا تتوقع النجدة منهم.

التصميم المدرسي يعبث بإتقان في "شجرة اتخاذ القرار" التي وضعها كل من عالمي الاجتماع، بيب لاتانيه وجون دارلي، فتكرار التعذيب وجعله روتينياً يضعف من قدرة الطلاب أساساً على تمييزه كحدث طارئ يستوجب التدخل، لذلك سيكون من الغريب أن نناقش مثل هذه الفكرة من أساسها في المدارس السورية، إنه شيء أشبه بمرور فصول السنة، أو تعاقب الليل والنهار، شيء ما كلي وفوقي، أسمى من مناقشته، هذا إذا غضضنا النظر عن محاولة تغييره "لا قدر الله".

"فرع مكافحة الطلاب"

وكون الهرم المدرسي يسير بالعقوبة باتجاه واحد من أعلاه حيث الأساتذة، إلى أسفله حيث الطلاب، فلا سبيل للضحايا لكسر هذه "السلسة الغذائية"، إلا بأن يكونوا جزءاً من السلطة. وتتمثل هذه الفرصة بأن يتم اختيار أحد الضحايا ليكون "عريفاً" مراقباً لزملائه، ويجري اختياره بناءً على صفات شخصية لا تتعلق بالمؤهلات نهائياً، إنما بالولاء لمعايير السلوك المدرسية.

أذكر جيداً اختيار عريفاً في أحد الصفوف الابتدائية من دراستي، لم يكن يجيد الكتابة حتى، فأنجده المدرس بفكرة رسم وجه الطالب المشاغب، أو وضع علامة بقلم الطبشور على مقعده، هؤلاء هم "قادتنا" الشعبيين المستقبليين.

الخيار الأكثر رعباً بالنسبة للطلاب هو اختيار "عريف سري"، بحيث يصبح الجميع محط شك، ويرتاب الضحايا من بعضهم البعض، وهي وسيلة ناجحة بامتياز إذ تتوسع السلطة النائبة عن الأستاذ الغائب بتوسع دائرة الشك والريبة.

تفتقت هذه الأساليب في المرحلة الابتدائية، عن اختراع طريف عام 2012 لدى أحد صفوف الشهادة الثانوية في مدرسة "زاهي سمين" في جرمانا بريف دمشق، حين اختار الطلاب المقاعد الأخيرة من صفهم مقراً لجهاز أمني جديد حمل اسم "فرع مكافحة الطلاب".

العائلات الميسورة مادياً التي أرادت تجنيب أبناءها هذا المصير، ألحقتهم بالمدارس الخاصة مقابل أقساط مالية مرتفعة، تبدو بعد مقارنتها بالصورة السابقة لوضع المدارس الحكومية أشبه بالجزية، أو كفالة الجاني في أقسام الشرطة مقابل منحه حرية محدودة، على ألا ننسى بأن هذا الجاني لم يتجاوز عمره 6 سنوات بعد، ولم يقترف شيئاً غير مصادفة الجنسية العبثية هذه.

مقاربة أخيرة

 تختصر قصة ابتكار "الكرة النحاسية" التي وردت في كتاب هروود، وهي كرة تٌحبس الضحية داخلها وتسخن بالنار حتى تحترق، فلسفة التعذيب تاريخياً، إذ كان مبتكرها أول من مات فيها (ابتكرها إرضاءً للملك الحاكم فوضعه فيها فور انتهاء عمله).

النظام السوري الذي ابتكر أكثر الأساليب جنوناً ووحشية في التعذيب إرضاءً للسلطة، ثم أشرك ضحاياه أنفسهم في سلم سلطوي فيما بينهم، ليس خطراً فقط على حاضنته الشعبية أو معارضيه، إنما على كل محاولة وجود إنساني أيضاً، إذ أسس لعقلية تعذيب الضحايا للضحايا، فاتحاً أبواب الاحتمالات على آفاق لا تنتهي من صناعة الديكتاتوريات الربوبية الصغيرة، في حركة رمزية للـ"أبدية" التي يسعى الأسديون وراءها دوماً.

وسوم: العدد 808