فحلت لنا من بين قوليهما الخمر ..

وثمرة الاختلاف : إسقاط مشروع الشريعة بالضربة القاضية

ويروى عن ابن الرومي قوله:

أحل العراقي النبيذ وشربه ... وقال : الحرامان المُدامة والسكر

وقال الحجازي : الشرابان واحد .. فحلت لنا من بين قوليهما الخمر

تلك هي الحصيلة التي ننتهي إليها كلما أسفّ أهل الإسلام في الاختلاف في قضايا ليست محل اختلاف !!

نقول هذا ليس بالاقتناص الفاسد الذي عبر به الشاعر المتماجن على طريقة الظرف والدعابة .. وهو يبني على طرفي قضية فيجمع بين كبرى وصغرى ، وقد علم سلفا بطلان الجمع بين الأختين ؛ وإنما نقوله تأسيسيا على كل ما قرأنا وسمعنا من كلام المتجادلين من المختلفين ، الذين تجلبب كل واحد منهما جلباب الشريعة والشرعية والدين .

لم يكن تحديد الموقف من مقتل " قاسم سليماني ، هو المرة الأولى التي يختلف بها أصحاب " المشروع الإسلامي الإسلامي " حول قضية من قضايا الحياة ؛ ثم يجدون ، كل فريق ، من القواعد والنصوص الشرعية ما يؤيد دعواه ، فيغرق كل فريق في التربيع والتدوير أو في التأصيل والاستشهاد ، مرة بالنص وأخرى بالواقعة ، وكأن كل واحد مهم قد ملك ناصية " حكم الرب " باليمين !!

روي أن فقيها في عهد المستعين العباسي هو من أبناء المعتصم ، من القرن الثالث الهجري ، ألف للخليفة كتابا أباح فيه كلَّ شيء " كلّ شيء " وعرضه على الخليفة ، فاستعظم الخليفة ما فيه ، وعرضه على أحد العلماء الثقات الذين يؤتمنون على دين الله ، فقال له العالم بعد أن نظر فيه : يا أمير المؤمنين نشدتك اللهَ إلّا ما غسلته أي محوته ..

يسأله الخليفة : أكذب فيه ؟!

يقول له العالم الثبت التقي : يا أمير المؤمنين إن هذا قد جمع الرخص وسقطات العلماء في كتاب واحد فجعلها دينا ومذهبا . وإذا قلنا بقوله فقد أسقطنا الشريعة !!

وأمر المستعين بالكتاب فغُسل فقد كانت الأمة ما تزال على شيء من الخير . لتبقى الحقيقة الناصعة ولو أخذنا بكل قول ورخصة وسقطة فقد أسقطنا الشريعة !!

إن الخلاصة التي نخلص منها من قول كلي الطرفين ما سبق إليه أعربي قح جاؤوه ببعض شعر المولدين فعلق : إن كان هذا شعرا .. فكل ما قالته العرب من قبل باطل ..

ونقول بلغة العامة في بلدنا : إذا كان ما تردد على ألسنة بعض المختلفين في أمر سليماني هو من أمر الشريعة ..فأمر هذه الشريعة التي يتحدثون عنها باطل ..باطل ... باطل...

وحدود الله في شريعة الله أكثر ثباتا من أن يتعداها كل راغب ، وأن تخدم رغبة كل طامح ، وأن تكون مطية ذلولا لكل من يريد أن يحلل أو أن يحرم .

وربنا الذي آمنا به وعرفناه : قوله الحق . وله الملك .

قيل لأحد هؤلاء يوما : ما رأي الشريعة بتحديد النسل ، فتساءل : أتريدون أن أحلل أو أحرّم ؟! أن أرغّب أو أن أرهب ؟! ..وياله من عليم لسان على الحق جريء ؟!

في هذا المقام لا نريد أن نصوّب أو نخطّئ ، بل نريد أن نتنبه وننبه على أننا أمام ما ندعو إليه من المرجعية الشرعية في قواعدها العامة وفي نصوصها القطعية والظنية، قد أصبحنا أمام تحديات أضخم ، وامتحانات أصعب ، وأصبح من حق الآخرين إذا ذكرنا الشريعة ومرجعيتها أن يسألونا إلي أي مرجعية شرعية تحيلون ؟!

لأننا نقر والحال هذه التي شهدنا وعشنا في هذا الواقعة ومن قبلها واقعات وواقعات إنما نحيل على عمومات شديدة الغموض والميوعة والاضطراب !! لا أتحدث عن شريعة البغدادي والظواهري ومن داناهم وإنما أتحدث عن شريعة باتت محاصرة بين قوسي " المرشدين " إن شئتم بفتح الدال وإن شئتم بكسرها ..

ولنجدد التنبيه أننا هنا لسنا نتحدث عن طبقة تعودنا أن ننبذها بأنها من علماء السلطان أو أصحاب الأهواء ..بل نتحدث عمن تعودنا أن نسميهم العلماء والأثبات والدعاة والمجاهدين !! ثم يفجؤنا أن بعضهم بل كثيرا منهم في كل واد يهيمون !!

نحن أمام حالة نجد فيها عالمين كنا نظنهما فقيهين ثقتين ثبتين يذهب بنا كل واحد في سبيل ، ويزعم أن الحق الإلهي في يمينه ، ومع اجتهاده؛ فكأنه يجمع علينا أنه يشفع رأيه الذي بناه على جملة معطيات بعضها ظرفي وبعضها نفسي وبعضها عصبي .. فيلبس كل ذلك ثوب المقدس ، ويدخل علينا به تحت عنوان : قال الله ..ومقتضى الشرعية ، فإذا رأيه المتلطخ بمزاجه أشد وقعا علينا من رأي " علماني " يقول هذا رأيي ويسمح لنا فيه أن نناقشه ونرد عليه بل أن نستخف به ونسخفه كما نريد..

حقائق في السياسة الشرعية :

ولقد واجه المسلمون الأوائل مثل هذه الحالة من تعدد الاجتهاد فأقروا قاعدة أن قول الإمام يحسم الاختلاف . فكيف نصنع في عصر لم يعد فيه للمسلمين خليفة ولا إمام ولا مجمع يحسم ما هم عليه من اختلاف . وأصبح رغيف أحدهم مقصدا أول في التشريع تحريما وتحليلا ، ويقول لك : أنا أملك البطاقة الصفراء التي تخفض وترفع ، فيرد عليه الآخر بل بطاقتي الحمراء التي تفضح !!

كان خطباء المساجد على منابر مدينتنا القديمة يظلون يرددون في خطب الجمعة كل جمعة : واعلموا أنه لا يضر وينفع ، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع ؛ إلا الله ..حقيقة حفظناها ووعيناها واستقرت حقيقتها في عقد قلوبنا ، فكيف السبيل إلى الانقلاب عليها الآن ؟!!.

ثم كان من أمر السياسة الشرعية أنه لما صار المسلمون إلى عهد الرشيد كان لا بد لهم من مقام يجمع الشتات ، ويوحد الخلاف فكان مقام "قاضي القضاة " ليحسم القول في اجتهادات القضاة وتفرع قولهم في المسائل .

ومرة أخرى أين نحن من كل ذاك ؟!

مرة أخرى أقول إن الوقائع التي واجهها أصحاب المشروع الإسلامي وهم ما زالوا خارج إطار السلطة العملية يتطلب منهم أن يتوقفوا ليعيدوا النظر في مشروعهم الذي يدعون إليه ، وشعارهم ودثارهم الذي بهم يتجلببون .. تحكيم الشريعة !!

ولم يخطر ببالنا يوما أن نتساءل : عن أي شريعة يتحدثون ؟!

ولو قيل لي منذ ستين عاما : ندعوك إلى لشريعة التي تبيح تقنين الاتجار بالخمر لتوقفت !!

ولو قيل لي منذ ستين عاما : ندعوك إلى الشريعة التي تكافئ قاذف أم المؤمنين ولاعن أبي بكر وعمر وعثمان بمقام الشهداء والصديقين ... لما كنت اليوم في الموقف الحرج الذي أنا فيه ..!!

ولو قيل لي منذ ستين عاما : ندعوك إلى تحكيم الشريعة التي تكافئ مغتصب الأعراض ، ومزهق مئات الألوف من الأنفس البريئات بجنة عرضها السماء الأول لكنت أنشد :

أقيموا بني أمي صدور مطيكم .. فإني إلى قوم سواكم لأميل

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 859