يوم نصح العثمانيون حليفتهم فرنسا بالتسامح الديني

عندما ارتكبت مجازر سانت بارتيليمي صيف 1572 في باريس وأنحاء مختلفة من فرنسا، وسفكت دماء عشرات آلاف الهوغونوت البروتستانت على يد الكاثوليك، وقطّعت أوصالهم وامتلأ نهر السين بالأشلاء والدماء، في ظل مباركة من البابا غريغوريوس الثالث عشر، الذي راح يسعى وراء أشهر الرسامين لأجل تخليد الواقعة المروّعة، لم يتردد السلطان العثماني سليم الثاني – هذا السلطان الباهت إذا ما قورن بسلفيه، والده سليمان القانوني وجدّه سليم الأول – بإرسال رسالة إحتجاج، غير باهتة أبداً، بل شديدة اللهجة، لملك فرنسا شارل التاسع، يوبّخه فيها على أسلوب تعامله المتوحّش مع الأقليات الدينية.

في كتابه الأخير، «الإمبراطوريات بين الإسلام والمسيحية» يشرح لنا المؤرخ الهندي، العمدة في حقل التاريخ الكوني في مطالع الأزمنة الحديثة، سانجاي سوبرهمانيام، بأنّ سليم الثاني كان يكثّف برسالته هذه إلى حليفه الأساسي في أوروبا، شارل التاسع، الفكرة التي حرصت الدولة العليّة لتقديمها عن نفسها كملاذ للجماعات الدينية المضطهَدة، كموريسكيي ويهود الأندلس، وكصاحبة تجربة تسامحية بين رعاياها.

بصرف النظر عن درجة، وسياق، وأوان مطابقة هذه الفكرة عن الذات العثمانية مع الواقع، الا أنها كانت فكرة تأخذها الدولة العليّة على محمل الجدّ تماماً، وتنصح بها حليفتها فرنسا.

لقد قضى المنعرج إلى الحداثة في الغرب بأن تكون «الناس على دين ملوكها» ولو بالحديد والنار وبتقطيع الرؤوس بالفؤوس. كانت تلك هي الطريق «اللاواعية» في اتجاه ظهور نموذج الدولة الأمة. أن يدين الملك بالكاثوليكية فتتكثلك كل رعيته، أو ينقلب إلى البروتستانتية فتُحمَلُ الرعيّة عليها.

لكن سليم الثاني والعثمانيّون كانوا يرون غير ذلك: أنّه يمكن أن تقوم ملّة مهيمنة في إمبراطوريّة، ولا يكون كل الناس في هذه الإمبراطوريّة على دين هذه الملّة المهيمنة.

كانت الدولة العثمانية في ذلك القرن تسيطر على قرابة ثلث مساحة أوروبا، وأكثرية سكان الجزء الأوروبي منها (الروميللي) من المسيحيين، بل أكثر سكان عاصمتها أيضاً. وكانت في الصراعات الأوروبية حليفة فرنسا بوجه إمبراطورية آل هابسبورغ، بل ان الأسطول العثماني بقيادة خير الدين بربروسا تدخّل، بناء على طلب فرنسا، لأجل محاربة دوقية سافوا، وإخضاع مدينة نيس عام 1543، والتي باتت جزءا من فرنسا اليوم. يومها احتاج مبيت القوة العسكرية المسلمة في مدينة طولون، إلى مبادرة من الملك فرنسوا الأول لتحويل كاثدرائيتها مسجداً طيلة مدة الإقامة.

لا يشطب ذلك أن التحالف الفرنسي العثماني الذي طال قروناً ضد العدو الهابسبورغي المشترك، بدا مرّ المذاق تجرّعه، وبالذات من الجانب الفرنسي الذي استشعره كإثم يُرتكب، اضطراراً بحق المسيحية، من أجل مصلحة المملكة والعرش. حصل ذلك أيضاً عند العثمانيين، كما يشرح لنا المؤرخ الفرنسي جيل فاينشتاين (ت 2013). ما كان بوسع الحيوية الفقهية أن تسوّغ «الحلف» مع مملكة نصراني. فهناك إما الحرب وإما الصلح والهدنة مع هذه الدولة، أما «الحلف» فلم يكن ميسّراً تأصيله. ولأجل ذلك جرى ابتداع مفاهيم تحويريّة أو مراوغة. مثل «المعاونة» و«المُظاهرة» (إظهار فئة على فئة أخرى).

بيد أن العثمانيين ما كانوا يبعثون إلى الفرنسيين قبل نهاية القرن الثامن عشر بسفراء دائمين، بل برسل يأتون ويذهبون، في حين كان يرسل الفرنسيون كما البنادقة سفارات دائمة إلى القسطنطينية، وكان يطيب حتى لسليمان القانوني أن يدعو سفير الفرنسيس غبريال دارامون لمرافقته في حملة ضد الصفويين. في الوقت نفسه، وكما يظهر لنا فاينشتاين كانت مراسلات هؤلاء السفراء لبلادهم مليئة بالأهاجي والعبارات التحقيرية ضد العثمانيين والأتراك والمسلمين، ما يعود حسب المؤرخ الفرنسي إلى جملة تعليلات ودوافع، منها رعبهم من سفك الدماء الكثير وصنوف المكائد والغدر في الطبقة المتسيدة بالسلطنة، وداخل مجتمع البلاط وبين الأخوة من الأسرة الحاكمة، ونسيج الطبقة الحاكمة نفسه المستمد من الإسترقاق، والبعيد كل البعد عن نبالة الدم، هذا في وقت كان فيه السلطان أكثر حرية في البطش بحاشيته من البطش برعيته، وكثيراً ما أدرج البطش بالحاشية في خانة الرأفة بالرعية. ومنها أيضاً خوف السفراء من أن يطالهم هذا المناخ، ويقطع «البرابرة» رؤوسهم على غفلة في ليل، وهو ما لم يحصل في أية مرة في تاريخ السلطنة، ولو وجد بعضهم نفسه في الإحتجاز لفترة محدودة.

مع هذا، كان سليم الثاني أكثر احتياجا صيف العام 1572 الى تثبيت حلف الضرورة مع فرنسا، لا سيما وأنه كانت الدولة العثمانية لا تزال تضمد جراحها بعد أول هزيمة بحرية كبيرة دمرت أسطولها، على يد الهابسبورغ وحلفائهم من «الرابطة المقدسة» في ليبانت (غرب اليونان) أكتوبر 1571. غير أنه، مع ذلك، فقد آثر الاحتجاج لدى حليفه، على مجزرة طائفية ارتكبها مسيحيون بحق مسيحيين.

وقد يكون استحسان العثمانيين منذ سليمان القانوني، للبروتستانتية، والمبالغة في تقدير قربها في باب التوحيد، الى الدين الحنيف، من الكاثوليكية، قد شجّع سليم الثاني على بعث الرسالة. المفارقة آنذاك، ان انكلترا في عهد الملكة اليزابيث الاولى، التي رفض بابا روما الاقرار بشرعيتها بسبب بروتستانتيتها، كانت قرعت الأجراس ابتهاجا بانتصار ليبانت البحري على العثمانيين. ثم لم تجد اليزابيت من يبكي ضحايا مجزرة سانت بارتيليمي معها، بين ملوك أوروبا غير العثمانيين، ووجدت الدعاية الهابسبورغية تحث على محاربة «أتراك الجزر» أي الانكليز في ذلك الوقت، ففتح ذلك سبيلاً آخر للتقرب بين انكلترا في العهد الاليزابيتي (الذي برز فيه في المسرح والشعر شكسبير) وبين الشرق العثماني.

لم تكن فكرة المساواة في بال سليم الثاني يوم قدّم النصح لملك فرنسا بأن يتسامح مع الهوغونوت البروتستانت. فالمساواة لم تطرح في التاريخ العثماني الا بشكل متأخر، في القرن التاسع عشر. لكنه كان يطرح التسامح في إطار الهيمنة، التسامح بالشكل الذي تسمح به هيمنة الملّة، بل الذي يزيد من مشروعية هيمنة الملّة. وبالفعل، هذا ما حصل في نهاية ذلك القرن. ليس فقط بناء على نصيحة سليم الثاني، لكن في ضوء النموذج العثماني للتعاطي مع الجماعات الدينية، على أساس التسامح الهيمني، فقد استعارت فرنسا نفسها هذا النموذج وأقرّته في «شرعة نانت» 1598 قبل أن ينقضه عهد الملكية المطلقة، الذي أعاد التقيّد بمقولة الناس على دين مليكها.

وما اكثار المفكر الراحل محمد أركون في الحديث عن اكتشاف أوروبي محض لفكرة التسامح، مفقود في تراثنا، سوى مثال عن اغفال متواصل لحضور النموذج العثماني يوم اقرار «شرعة نانت» بين الكاثوليكية المهيمنة والأقلية الكالفينية في فرنسا. فهي مستوحاة ان لم يكن من المعاش العثماني، فأقلّه من الدعاية التي كانت تروّجها السلطنة العثمانية عن نفسها كنموذج للتسامح في إطار هيمنة ملّة بعينها في ذلك القرن، هذه الدعاية التي فرضت أثرها من غربي أوروبا حتى الهند في عصر جلال الدين أكبر في تلك المرحلة. اذ كان السلطان المغولي يقابل بين تسامحية العثمانيين المتخيلة وتعصب الصفويين، رغم أن الأخيرين استقبلوا والده همايون يوم لجأ إليهم (وضغطوا عليه مطولاً ليتشيّع).

وسوم: العدد 899