الإسلامُ وحريّةِ العقيدةِ

إن الحربَ على الإسلامِ تأخذُ وجوهاً عدّةً، أكثرُها فتكاً بالأمّةِ الإسلاميةِ هو الهجومُ على أفكارِ الإسلام.

وإنَّ مِن أكثرِ الأفكارِ التي رَمى الغربُ سهامَهُ تجاهَها وأثَّرَت سَلباً على الأمّةِ الإسلاميةِ بعامةٍ وعلى المفكرينَ بخاصةٍ هو: التشكيكُ بحدِّ الرِدّةِ.

والتشكيكُ بحدِّ الردّةِ لهُ أهدافٌ عدة، منها:

أولاً: تركيزُ مفهومٍ غربيٍ في أذهانِ المسلمين؛ وهو: حريةُ العقيدة.

ثانياً: التشكيكُ بالعقيدةِ الإسلاميةِ من خلالِ التشكيكِ بالحديثِ الشريفِ كمصدرٍ للتشريع.

ثالثاً: النيلُ منَ التراثِ الإسلامي، والذي حَوَى استنباطَ العلماءِ لأنظمةِ الحكمِ والاقتصادِ والاجتماعِ والعقوباتِ في الإسلام؛ وبذلك يكونون قد هاجموا هذه الأنظمةِ بطريقةٍ غيرِ مباشرة.

رابعاً: تكبيلُ أبناءُ الأمّةِ وإضعافُ نفسيَّتِهِم الإسلامية؛ وذلكَ مِن خلالِ الهجومِ الشاملِ الذي يقودُهُ الغربُ على كلِ الأصعدة، والذي جَعلَ مِن بعضِ أبناءِ المسلمين يَقفون موقفَ المتفرجِ في هذا الصراع، والذي يستشعرونَ به ضعفَهُم وهزيمَتَهُم.

ويرتكزُ الغربُ الكافرُ في هجومِهِ على حدِّ الردّةِ على قضايا متعددةٍ يكادُ يكونُ واسطةُ العقدِ فيها هوَ تأثُّرُ المفكرينَ والمثقفينَ بحريةِ العقيدة. فكلُّ المقالاتِ والنقاشاتِ التي تدورُ حولَ "إبطالِهِم" لحدِّ الردّةِ هو: تناقضُ حدِّ الردّةِ مع الآياتِ التي يَستندونَ إليها في "تقريرِهِم" لحريةِ العقيدة.

وقبلَ أن نتعرضَ للآياتِ التي أورَدوها، يجبُ أن نتعرضَ بدايةً إلى فكرةِ "حريةِ العقيدةِ" ومناقضِتها للعقيدةِ الإسلامية.

فإن ما يفعلُهُ أذنابُ الغربِ ومَن تَأثّروا بِهم هو أنهم يَجعلونَ المُتشابهَ أصلاً لمحاكمةِ وفهمِ المُحكَم. والحقُّ أنَّ المحكَمَ هو الأصلُ، وهو أساسُ فَهمِ ودراسةِ المُتشابهَ مِن كتابِ اللهِ ومِن سنّةِ رسولِه، فالعبوديةُ للهِ الواحدِ القهارِ هو أمرٌ معلومٌ مِن الدينِ بالضرورةِ، والعبوديةُ نقيضُ الحرية.

هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخرَ فإنَّ اللهَ عزّ وجلَّ أمرَ الناسَ بالإيمانِ بهِ وبعبادتِه، ونَهى عن الكفرِ وعن الردّةِ؛ وهذا الأمرُ والنهيُ ليسَ على وجهِ الحريةِ أو على وجهِ الإباحةِ. ويكفي أن نورِدَ دليلاً واحداً لكي نُدركَ تناقضَ هذا الفهمِ (وهو حرية العقيدة) مع فرضيةِ الإيمانِ وتحريمِ الكفرِ؛ وهو قولَه تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ أو قولَه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، فالخُسرانُ ووعيدُ اللهِ بأن يُعذبَ الكافرَ أو المرتدَّ هو قرينةٌ جازمةٌ على فرضيةِ الإيمانِ وتحريمِ الكفرِ.

وبذلك لا يكونُ لِمن يقولُ بحريةِ العقيدةِ ولا حتى شُبهةُ دَليلٍ، بل إن الثابتَ أن حريةَ العقيدةِ فكرةُ كفرٍ منبعُها فصلُ الدينِ عنِ الحياة؛ والتي تصوّرُ أن الله خَلقَ وتَرك، فجَعلتِ الإنسانَ غير مُقَيدٍ بحكمٍ شرعي.

فالحرياتُ فكرةٌ أصيلةٌ في المبدأ الرأسمالي، ولهذا نرى مَن يَستدلُ بقولِهِ تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، وبقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، نراهُ يُقصي أسباب النزول في فهمِ هذهِ الآيات. وتارة أخرى نجدهم يَجتزِؤون قولَه تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ يجتزؤونَها من قولِه تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾؛ وذلك ليوهِموا العَوامَّ أن هذا الخطابَ يُقِرُ الكفرَ، فإقرارُ حريةِ العقيدةِ هو إقرارٌ للكفر! مع أن مدلولَ هذا الخطابِ واضحٌ وضوحَ الشمسِ في رابعةِ النهارِ، فاللهُ عزّ وجلّ خلقَ في الإنسانِ القدرةَ على السيرِ في طريقِ الخيرِ وفي طريقِ الشر، فلو كانَ الخطابُ مثلاً (فمَن شاء فليتزوج ومن شاء فليزني) فهل يُفهمُ أن هذا الخطابُ إقرارٌ بالزنا، علماً بأن اللهَ قد بيّنَ أنها فاحشةُ؟!! فكيف إذا قُرنَ هذا الخطابُ بالوعيد الشديد من الله؟!!

كما أنه على غرارِ هذا الفهمِ فإنَّ عليهم أيضاً أن يُقِرّوا باقي الحرياتِ، لقوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾. وعليهِ فإن الإسلامَ يُقرُّ الزنا والسرقةَ والغشَّ والقتلَ، وعندها لا يصبح ديناً يُستسلمُ لأمرِ الله بهِ ويُخضعُ لأحكامهِ.

وهكذا، نجدُ مَن يُهاجمون حَدَّ الردّةِ يَجعلونَ حريةَ العقيدةِ أساساً ومنطلَقاً بديلاً عن اللغةِ وعن أحاديثِ رسولِ اللهِ وعن الآياتِ المحكَمةِ في كتابِ اللهِ في فهمِ هذه الآياتِ، فيَصدُقُ عليهِم قولُه تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، فتارة نَجدُهُم يُقصُونَ أحاديثَ رسولِ اللهِ في فهمِ كتابِ الله، وتارة أخرى يَفهمونَ الآياتِ على غرارِ فهمِ إبليس لقولِهِ تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾، فيُقُصُون ما بعدها لكي يَرُدّوا أحاديثَ حدِّ الردّة مع صِحةِ أسانيدِها ومُتونِها، بل ومع إجماعِ صحابةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على قتلِ المرتدِّ حدّاً.

أمّا الآيات التي يسوقونَها والتي تُظهرُ -على حدِّ زعمِهم- أن القرآنَ قد أقرَّ بأن يَنتقلَ الإنسانُ من الإسلامِ إلى الكفرِ دون حدٍّ يُطبَّقُ عليه، كقولِه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ أو قولِه تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾، فإنهُ مِن الثابتِ أن هذه الآياتِ تتحدثُ عن المنافقين؛ والمنافقونَ يُظهِرونَ الإسلامَ وإذا خَلَوا إلى شياطينهم أظهروا الكفر، فكانوا مُذَبذَبينَ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

أمّا ما كشفَ عنهُ القرآنُ من أنَّ المنافقينَ قد قالوا كلمةَ الكفر، فالثابتُ أن الإسلامَ لا يقيمُ العقوباتِ في الدنيا على أحدٍ قامَ بفعلِ حرامٍ ولم تَقُم عليه البيّنة. ولقد كان المنافقونَ يتخذونَ مِن أيمانِهِم جُنةً، فيَحلِفون باللهِ ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر. ورسولُ اللهِ هو أسوةٌ للمؤمنين، فالمسلمونَ لا يستطيعونَ أن يَتأسُّوا بهِ إنْ هوَ أقامَ حدّاً على إخبارِ اللهِ بأمرٍ غيبي، ولذلك كان رسولُ اللهِ يَقضي بالبيّنات؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام في ذلك: «إنكم تختصمونَ إليَّ، ولعلَّ بعضَكم ألحَنُ بحجتهِ من بعض، فمَن قَضيتُ له بحقِّ أخيهِ شيئاً بقولِه فإنما أقطعُ لهُ قطعةً من النار، فلا يأخذَها».

فكانت هذه الحوادثُ هي إخبارٌ مِن اللهِ لرسولهِ الكريمِ بحدوثِها، ولم يكن عندَ رسولِ اللهِ شهود ليقيمَ عليهِمُ حدَّ الردّة.

هذا من جانب، ومِن جانبٍ آخر، فإنَّ رسولَ اللهِ لا يُقيمُ حَدَّ الردّةِ إلاّ إذا كان المرتدُّ قد شَرَحَ صَدراً بالكفر، أمّا إذا كان تَلفَّظَ بكلامٍ قَد يُفهمُ منه الكفرُ وهو ليس بالكفرِ الصُراحِ، فإن القاعدةَ الشرعيةَ أن الحدودَ تُدرءُ بالشبهات. لهذا لا يقامُ الحدُّ على من قال كلاماً يُفهمُ منه الكفر، كقولِ ابن الخُوَيْصِرَةِ لرسولِ الله: يا رسولَ اللهِ اعدلْ. فإن رسولَ اللهِ عَدَلَ عن ضربِ عنقِه معلِّلاً ذلك بقولِهِ لعمر: «دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ».

كما بيَّنَ صريحُ القرآنِ أن الذي يقولُ هذا القولَ هو منافقٌ وليس بمرتدٍّ، يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ والمقصودُ همُ المنافقون.

وهذا ما سارَ عليه صحابةُ رسولِ الله، فخالدٌ بنُ الوليد قَتَل مالكَ بنَ نويرةَ لأسبابٍ عدّةٍ أبرزُها أن مالكاً قال: "قد كان صاحِبُكُم يقولُ ذلك" (يقصد محمداً صلى الله عليه وسلم)، فتجادَلَ ابنُ عمرٍ وابنُ قتادةٍ محاولينَ أن يَدفعوا خالداً ويَردّوهُ عن قتلِ مالكٍ رِدةًّ لأن مالكاً قد قالَ: "أتَقتُلوني وأنا مسلمٌ أُصلِّي إلى القبلة؟" وقوله: "أنا آتي الصلاة دون الزكاة".

كلُّ ذلك وغيرُه دفعهما لمنعِ خالدٍ من إقامةِ الحدَّ على مالكٍ؛ لأنه متأولٌّ.

ولذلك ذهبَ ابن قتادة إلى الخليفة أبي بكرٍ شاكياً خالداً. ولهذا أيضاً كان رأيُ عمرَ أن يَعزلَ الخليفةُ خالداً؛ لأن بسيفه رَهقاً.

أمّا عن قولهم أن القرآنَ لم يأت بحدّ الرِدّة، فهذا باطلٌ؛ لأن القرآنَ حرّمَ الردّةَ، وجاءت السنّةُ تبينُّ عقوبةَ حدِّ الردّةِ. فالسنّةُ هي التي بيَّنَت فيما إذا كان هذا العذابُ هو حَدًا أم قِصاصًا أم تعزيرًا؟ فأتتْ أدلةٌ قطعيةُ الدلالةِ في أحاديثِ رسولِ الله أن عذابَ المرتدِّ في الدنيا هو أن يُقتلَ حَداً؛ منها:

- قولُه صلى الله عليه وسلم: «مَن بَدّل دينَهُ فاقتُلوه»، وقولُه: «لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مسلمِ يَشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهَ وأني رسولُ اللهِ إلا بإحدى ثلاث: الثيِّبُ الزانِ، والنَّفسُ بالنفسِ، التاركُ لدينِه المفارقُ للجماعةِ».

- وما وَردَ أنَّ رسولَ اللهِ «بَعثَ أبا موسى الأشعريّ إلى اليمنِ ثم بَعثَ معاذَ بنَ جبلٍ إلى اليمن، فلما قَدِم ألقَى (أبا موسى) له وِسادَةُ، وقال: انزِل. فإذا رَجلٌ عندَهُ مُوثَق. فقال (معاذ): ما هذا؟ قال: هذا كان يهودياً فأسلمَ ثم راجعَ دينَهُ دينَ السوءِ فتهوّدَ. فقال: لا أنزلُ حتى يُقتلَ، فأُمِرَ به فقُتلَ».

- وقولُه عليه الصلاة والسلام لرسولَيْ مسيلمة: «لولا أن الرسلَ لا تُقتلُ لقتلتُكُما»، ويُفهم منهُ أن حكمَ المرتدِ هو القتلُ، وأنه يُستثنى من هذا الحكمِ: السفراءُ والرسلُ.

- وما وردَ في حديثِ معاذٍ بنُ جبل عندما أرسلهُ النبيُّ إلى اليمنِ وقال له: « أيُّما رجلٍ ارتدَّ عنِ الإسلامِ فادْعُهُ، فإن تابَ فاقبلْ منهُ، وإن لم يَتُبْ فاضرِبْ عنقَهُ، وأيُّما امرأةٍ ارتدت عن الإسلامِ فادعُها، فإن تابتْ فاقبلْ منها، وإن أبتْ فاسْتَتِبْها».

- وحديثُ جابرٍ «أن امرأةً يُقالُ لها أمُّ مروانَ ارتدّت عن الإسلام، فأمرَ النبيُ أن يُعرضَ عليها الإسلامُ فإن رَجَعت وإلا قُتِلت. فعَرَضوا عليها، فأبَت، فقٌتلت».

كما أن الثابتَ في إجماعِ الصحابةِ أن المرتدَ يُقتلُ، فبالإضافةِ إلى حروبِ الردّةِ:

- فقد وَردَ «أنَّ علياً رضيَ اللهُ عنهُ حَرَّقَ قَومًا، فَبَلَغَ ابنَ عباسٍ، فقال: لو كنتُ أنا لم أحرِقَهُم لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعذِّبوا بعذابِ الله». ولَقَتلتُهُم كما قالَ النبيُ صلى الله عليه وسلمَ «مَن بدَّلَ دينَهُ فاقتُلوهُ».

- كما وردَ أنه قَدِمَ وفدُ أهلِ البصرةِ على عمر، فأخبروه بفَتحِ تُستُر، فحَمَد الله ثم قال: هل حَدثَ فيكم حدثٌ؟ فقالوا: لا واللهِ يا أميرَ المؤمنينَ إلاّ رجلٌ ارتدَّ عن دينهِ فقتلناهُ. قال: وَيَلَكُم أعجَزتُم أن تُطَيِّنوا عليه بَيتاً ثلاثاً ثم تُلقوا إليه كلَّ يومٍ رغيفاً، فإن تابَ قَبِلتُم منه، وإن أقام كنتُم قد أُعذِرتُم إليه. اللهم إني لم أشهَد، ولم آمُر، ولم أرضَ إذ بَلغَني.

- وفي روايةٍ أخرى: ..... ثم اسْتَتَبْتُمُوه ثلاثاً فإن تاب وإلا قَتلتموه....

- كما كتبَ عمْرو بنُ العاص إلى عمرَ بنَ الخطاب أن رجلاً يبُدِّلُ بالكفرِ بعد إيمان. فكتبَ إليه عمر: استَتِبْهُ، فإن تابَ فاقبَل منه، وإلا فاضرب عنقَهُ.

- وَقَتَلَ أَبُو بَكْر فِي خِلَافَته اِمْرَأَة اِرْتَدَّتْ، وَالصَّحَابَة مُتَوَافِرُونَ، فَلَمْ يُنْكِر ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَد.

- وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج حاجاً ومعه جبلة بن الأيهم وكان ملك غسان بالشام ثم أسلم، فبينما كان جبلة يطوف بالبيت وهو مُحرِم وَطِئَ إزارَه رجلٌ من بني فزارة، فانحلَّ، فرَفعَ جبلةَ يدَهُ فلَطَمَ الفزاريَّ فهَشَمَ أنفَه، فشكاه الفزاري إلى عمر، فبعث عمر إلى جبلة، فأتاه، فقال: لِمَ هَشَمتَ أنفَهُ؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه تعمَّد حَلَّ إزاري ولولا حرمة الكعبة لَضربتُ وجهَهُ بالسيفِ. فقال له: أما أنتَ فقد أقررتَ. إما أن تُرضيه وإلا أقَدْتُهُ منكَ. قال جبلة: فيُصنَعُ بي ماذا؟ قال: يُهشِّم أنفَك كما فعلت به. قال: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين وهو سُوقة وأنا ملك. قال عمر: إن الإسلام جَمَعَك وإياه فلَستَ تَفضُلُه إلا بالتقى والعافية. قال جبلة: قـــد ظننتُ يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. قال عمر: دعْ عنكَ هذا فإنك إن لم تُرضِ الرجلَ أقدتُهُ منك. قال جبلة: إذاً أتنصَّر. قال عمر: إن تنصرتَ ضربتُ عنقَكَ؛ لأنك قد أسلمت، فإن ارتددت قتلتك. فلما رأى جبلة الصدق من عمر قال: أمهلني الليلة حتى أنظُر. فلما أمسُوا أذِنَ له عمر في الانصراف. فلما كان من الليل تَحمَّل هو وأصحابه بخيله ورجاله إلى الشام.

بالإضافة إلى أنَّ "الفاء" في قوله تعالى: ﴿فَيَمُت﴾ الواردة في آية ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ فإنّ "الفاء" هنا تفيد التعقيب؛ أي أن الموتَ يَعقُـبُ الارتدادَ، وقد عَلِمَ كل أحدٍ أن معظمَ المرتدّينَ لا تَحضُرُ آجالُهُم عَقِبَ الارتداد، فيَعلمُ السامعُ حينئذٍ أن المرتـــدَ يُعاقبُ بالموتِ عقوبةً شرعيةً، فتكون الآية فيها إشارة على وجوب قتلِ المرتدِّ. هذا بالإضافةِ إلى قولِهِ تعالــــــــى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾، فهذه الآية فيها وعيدٌ من اللهِ بقطعِ دابرِ المرتدينَ والإتيانِ بقومٍ آخرينَ يُحبُهُمُ ويحبّونَه.

أمّا عن قولِهم: كيف تُقامُ عقوبةٌ على مَن سيعاقِبُهُ اللهُ في الآخرة؟

فبطلانُه ظاهرٌ مِن حُكمٍ واحد، وهو القِصاص. فإنَّ جزاءَ مَن يَقتُلَ مؤمناً متعمداً هو نارُ جهنَّمَ خالداً فيها، وهذا الجزاءُ لَم يَمنَعِ القِصاصَ في الدنيا.

أمّا عن قولِهم أن قولَ الأعرابيِّ لرسولِ الله: "أقِلنِي بَيْعَتي" هو مطالبةٌ بالسماحِ بالردّة. فهذا باطلٌ مِن عدةِ وجوه:

أولُّها: رفضُ رسولِ اللهِ للإقالةِ من البيعة.

ثانيها: أن المرتدَّ الذي يقامُ عليهِ الحدُّ هو مَن يرتدُّ وهو في كَنَفِ الدولةِ الإسلامية، أمّا الذي يَرتدُّ وهو في دارِ الكفرِ فلا يقامُ عليهِ حدُّ الردّةِ وإن كانَ دمُهُ مستباحاً.

ثالثُها: قولُ رسولِ اللهِ والذي يبيّنُ أن البيعةَ التي طالبَ الأعرابيُّ بإقالتهِ منها هي الحُكمُ أو الهجرة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: «المدينةُ كالكيرِ» ولم يَقُل: الإسلامُ كَالكِيرِ، مما يدلُّ على أن المسألةَ متعلقةٌ إما ببيعةِ الحكمِ أو بحكمِ فرضيةِ الهجرةِ إلى دارِ الإسلام.

أمّا عن قولِهِم أن حَدَّ الردّةِ ثابتٌ بخبرِ آحاد، وبالتالي لا يَرقى لأن يكونَ دليلاً لإزهاقِ الأرواح، فبُطلانُهُ آتٍ من كونِ الأحكامِ الشرعيةِ تؤخذُ بالقطعِ وتؤخذُ بغلبَةِ الظن، فكيف إذا كانت حرمةُ الرِدّةِ قطعيةً وكانت هنالك أحاديثُ تبينُ عقوبةَ المرتد، بل وبانعقادِ إجماعِ الصحابةِ على قتلِ المرتدِ حدّاً.

أمّا عن قولِهِم أنَّ ما وَرَدَ في حديثِ رسولِ اللهِ «المفارِقُ للجماعةِ» قيدٌ لـ «التاركُ لِدِينِهِ»، فهو باطلٌ من وجوه، منها:

- أنَّ حديثَ «لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ» يدلُّ على أن الكافرَ، ومنهُ المرتد، دمُهُ يَحِل، بل إن رسولَ الله يقول: «أمِرتُ أن أقاتِلَ الناسَ حتى يقولوا لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسولُ الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عَصَموا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلامَ وحسابُهم على الله»، فكلمة «أقاتِلَ» هي صيغة مفاعَلة من أُفاعِل، كما أن قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ تبينُ أن دمَ الكافرِ غير معصومٍ، فكيف إذا كان مرتداً عن الإسلام!

- أنّ عبارةَ «المفارقُ للجماعة» صِفة، والنعتُ له عشرونِ مدلولاً في اللغةِ العربية، فقد يكونُ لمجردِ المدح، مثلَ: ﴿الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين﴾، أو لمجردِّ الذم، نحوَ: "أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم"، أو الترحُّم، نحوَ: اللهم أنا عبدُك المسكين، أو للتوكيد، نحو: ﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾.

ولتبيان مدلول هذه الصفة وهي «المفارِقُ للجماعة» هل هي على وجه القيد أو على وجه التوكيد، فإن الصفةَ تكونُ على وجهِ القيدِ إذا كان الموصوفُ نَكِرةً ويُراد بهذا التخصيصِ إخراجُ الاسمِ من نوعٍ إلى نوعٍ أخصَّ منه:

  • كقولِه تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾، ف ﴿قولٌ﴾ هنا جاءت نَكِرة، لكنها خُصصت بكلمةِ ﴿معروف﴾ التي هي وصف لها،
  • وكقولِه تعالى: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾، فـ ﴿بَلْدَةٌ﴾ نَكِرة خُصصت بـ (طَيِّبَةٌ)، و﴿وَرَبٌّ﴾ نَكِرة وخُصصت بكلمة ﴿غَفُورٌ﴾.
  • وكقولِه تعالى: ﴿رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، فـ ﴿رَقَبَةٍ﴾ نَكِرة وخُصصت بـ ﴿مُؤْمِنَةٍ﴾.

أمّا النعتُ الذي يرادُ به التوكيد، فهو ما يكون ذِكرُه كتكرارٍ لمعنى المنعوت، نحوَ: ﴿واحِدٌ﴾ في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، وكقوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾.

ومِن مثيلاتِ الوصفِ الدالِّ على التوكيد: أمْسُ الدابرُ لا يعودُ. فلفظة (الدابرُ) صفةٌ للتوكيد؛ لأن الأمسَ لا بدَّ أن يكونَ دابراً، وغداً القادمُ لن يتوقف. فالقادمُ صفةٌ للتوكيد لِغَد؛ لأنَّ الغدَ لا بد أن يكون قادماً.

ومن خلالِ هذا الشرحِ، ندركُ أن لفظَ «التاركُ» ليست نَكِرة لكي يكون «المفارقُ» مخصصاً للتاركِ، بل إن «المفارقُ» هو توكيدٌ لـ «التاركُ». فلو قلنا: «المفارقُ لدينِه» «التاركُ للجماعة» لَمَا تغيَّر المعنى، ولو لم يفارِقْ ديارَهم. ولذلك فإن المرتدَّ فارقَ الجماعةَ، وإن لَم يَخرُج عليها.

كما أنه قد وردَ نفسُ الحديثِ بصيغٍ أخرى، منها: «كَفرَ بعد إيمانِه»، «كَفرَ بعدَ ما أسلَم»، «ارتد بعد إسلامه»، مما يدل على أن المفارق للجماعة ليس قيداً.

بقيَ أن نلفتَ النظرَ إلى أن الذينَ يهاجمونَ حدَّ الردَّةِ لا يهاجمونَ النصوصَ الموجودةَ في "الإنجيل" والتي تأمُرُ بقتلِ مَن يتركَ النصرانية.

إن الهجومَ على حدِّ الردّةِ، مع عدمِ وجودِ دولةٍ تطبِّقُ هذه الأحكامَ في المجتمع، لَيَدُل دلالةً واضحةً على قوةِ وعظمةِ الإسلام، فأميركا ومِن ورائها العالمُ بأسرِهِ تقودُ حملةً ضدَّ دَولةٍ ليست موجودةً في الواقعِ والمجتمع، وقوّةُ هذه الدولةِ أنها لم تَعُد محصورةً في كتبِ التفسيرِ والفقه، بل باتت في قلوبِ وعقولِ أبناءِ الأمّة.

وهذه الحملةُ على الإسلام بدولِتِهِ وأنظمِتِهِ ما هي إلاّ لتأخيرِ عودةِ هذا الماردِ الذي باتَ يَقُضُّ مضاجِعَهم.

والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته

وسوم: العدد 899