يا تركي الحمد… أيّ إسلام تريد؟

صدق ذلك الفذ العسقلاني عندما قال: «من تكلم في غير فَنِّهِ أتى بالعجائب» وطالما أن الميدان هو علوم الدين، فانتظر كثرة المتفيقهين والخائضين بغير هدى، وإن طال بك العمر سينالك نصيبٌ من قول الحارث بن عبادة: «عش رجبا ترَ عجبًا».

احترام التخصصات والرجوع إلى أهلها عرفٌ وتقليد، لطالما تمنينا أن يكون للدين منه حظٌ وافر، بيد أن مساحة العبث التي كفلتها أنظمة التلفيق والتوفيق مع سادة الغرب، جعلت الشريعة مادة لأصحاب المنابر والأقلام ينصبون لها المحاكمات، ويقيّمونها وفق الآراء والأهواء.

الكاتب السعودي تركي الحمد، يبدو أنه استفاد من مناخ التحديث في بلاده برعاية ولي العهد الملهم، فغرد خارج السرب، مستثمرًا قضية الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم لإثارة القضية المحببة إلى أدعياء الفكر المستنير: الطعن في صحيح البخاري.

«قبل أن ننتقد الصور المسيئة لرسولنا الكريم عليه السلام، علينا أن ننتقد تراثنا الذي وفّر المادة الحية لهذه الرسومات، وأولها صحيح البخاري، من خلال هذا الكتاب، ومقارنته بالقرآن الكريم، أجد أنه يتناقض معه تمامًا».

هذا نص ما كتبه تركي الحمد على تويتر، وكنت أتمنى أن أُذكّر الكاتب بحديث النبي الكريم: «ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيِّ السؤال» داعيةً إياه لسؤال أهل التخصص عما توهمه من تعارض وتناقض بين أحاديث صحيح البخاري والقرآن الكريم، غير أنني تذكرت أن الحديث رواه أبو داود، فهل يقبل به الحمد الذي يشكك في البخاري؟ نعلم جيدًا أن كلمة نقد التراث هي أحد إفرازات التجديد المزعوم الذي يتولى كِبَره الثلاثي في مصر والسعودية والإمارات، من أجل تعميم نسخة جديدة من الإسلام، تتفق مع الرغبة الغربية، ولكن ما هو التراث الذي يعنيه تركي الحمد وأشباهه؟ هل هو ذلك الجهد البشري الذي بذله العلماء في ميدان الاجتهاد وكتب التراث التي حوت أفكارهم وفهمهم للنصوص ظنية الدلالة؟ أم كان التراث هو نصوص الوحيين من الكتاب والسنة؟ إن كانت الأولى فهو تحصيل الحاصل، وإيجاد الموجود، فأهل العلم على مرّ العصور، لا يزال بعضهم ينقح أفكار بعض وينتقدها، بما لا يدع حاجة لاستخراج دعوة جديدة لتنقية التراث.

وإن كانت الثانية فهنا السقطة الكبرى، التي هوى إلى حيث قرارها تركي الحمد، فصحيح البخاري ليس آراءً فقهية مذهبية، وليس حاوية لفلسفات أو أفكار أو اجتهادات، إنما هو جمعٌ لأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم التي حازت أعلى مراتب الصحة، وتضمنت أقوى الأسانيد، فما تركه البخاري من أحاديث صحيحة لم يوردها في كتابه، أكثر بكثير من التي أودعها الصحيح، ليس لضعفها، ولكن لأنه وضع ضوابط ومعايير في قبول الرواة في منتهى القوة والشدة، فما وافقها وضعه في الصحيح. إذن الطعن في صحيح البخاري ليس طعنًا في كتاب، وليس طعنًا في مؤلف، إنما هو تشكيك بكلام النبي، الذي لا ينطق عن الهوى، فكيف يجرؤ الكاتب على القول بأنه وجد تناقضات بين صحيح البخاري والقرآن؟ التشكيك في صحيح البخاري واتهامه بالتناقض مع القرآن هو دعوة صريحة لإنكار حُجّية السنة النبوية، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف سيمتثل الأستاذ تركي الحمد للأمر القرآني (أقم الصلاة)؟ كيف سيؤديها بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، وهي لم تُفصل إلا في السنة؟ وكيف سيمتثل الكاتب للأمر القرآني (وآتوا الزكاة)؟ كيف سيتعرف على تفاصيلها من الأشياء التي تجب فيها الزكاة، وأنصبتها، ونحو ذلك مما لم يرد إلا في السنة؟ وكيف سيمتثل الكاتب للأمر القرآني (كتب عليكم الصيام) ويحدد مباحات الصيام ومحظوراته، وهو ما جاء أكثر تفصيلاته في السنة؟ لو نظر الكاتب في القرآن لقرأ (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فكيف يفعل بهذا الحشد من الأوامر والنواهي والأخبار النبوية؟

لو شكك الكاتب في أحاديث صحيح البخاري للزم من ذلك أن يقول الشيء نفسه في القرآن، فقد جاء إلينا بالطريقة نفسها التي جاءت بها السنة، نقلت إلينا عن الصحب الكرام، الذين جمعوا القرآن بعد وفاة نبيهم جمعًا من صدور الرجال، وما كتبه بعض الصحابة أيام الوحي، هم أنفسهم الذين نقلوا إلينا السنة. فأي إسلام يريده الكاتب تركي الحمد؟ هل يريد إسلاما مفرغًا من معظم التشريعات التي عملت بها الأمة طيلة 14 قرنا من الزمان ويزيد؟ فمالك يا صاحب القلم والحديث عن صحيح البخاري واتهامه بالتناقض مع القرآن؟ أولى لك أن تتهم عقلك وفهمك بالقصور بدلا من أن تطيح بثوابت الأمة، وخير لك أن تعترف بخطئك بدلا من أن تخطئ الأمة بأسرها فيما اعتنقته على مدى ما يقارب ألفا ونصف ألف من السنين.

بعدما هاج الناس وثاروا اعتراضا على ما كتب تركي الحمد، اتجه الكاتب للإيضاح والبيان، وليته ما فعل، حيث قال: «في تغريدة سابقة، ظن البعض أنني أسيء لعلم من أعلام الإسلام، وهو الإمام البخاري رحمه الله، وهذا فهم غير صحيح، فقد ننتقد شيئا في تراثنا بصفة عامة، ولكن مكانة البخاري وجهوده، وتاريخه، وإنجازاته، أمور لا يرقى إليها الشك أو القدح. فرحم الله البخاري، وجزاه خير الجزاء على جهده في خدمة الإسلام». فهو يؤكد في اعتذاره ما جاء في هجومه، حيث حوّل المشكلة من تشكيكه في أحاديث البخاري إلى الحديث عن البخاري نفسه، فاعتذر للبخاري ولم يعتذر للصحيح، وهذا تأكيد على مُضيِّهِ في اعتناق رأيه، الذي تقدم عن الأحاديث في البخاري. وحتى لا يعجل علينا أدعياء التنوير بالحديث عن حق الجميع في الكلام عن الدين، لأن الإسلام ليس دينا كهنوتيا وليس الحديث عن الدين محصورًا بين طبقة معينة، فأقول: هذا حق، يسوغ لأي امرئ أن يتكلم في الدين، بشرط أن يتحدث عن علم، أما ما اشتبه عليه من المسائل وتوهُّم التعارض والتناقض، فإنه يرجع فيه إلى المختصين، لا أن يقول برأيه وذائقته الخاصة. التهوين والانتقاص من قدسية النصوص تطرف فكري آخر مقابل التطرف المبني على الغلو والتشدد، وينبغي لأصحاب الأقلام أن لا تكون بضاعتهم هي الخروج عن آداب التعامل مع تلك النصوص، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 904