المغرب والتطبيع مع الكيان الصهيوني

السياسة المغربية الرسمية من أوائل السياسات العربية التي أقامت علاقات مع الكيان الصهيوني، في الوقت الذي كانت تستضيف فيه القمم العربية، وتحرص على علاقة قوية مع م.ت.ف، وتترأس لجنة القدس.

أما من الناحية الشعبية، فإن ثمة شبه إجماع من قِبَل الأحزاب والقوى السياسية والنقابات والشخصيات المرموقة في الوقوف إلى جانب الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وفي حشد التظاهرات المليونية تحت راية نصرة الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية ورفض التطبيع وإدانته. وهذا ثابت من ثوابت المغرب الشعبي، وهو اليوم كما كان أمس وأول أمس، بل وعبر التاريخ منذ الصراع ضد الفرنجة (الصليبيين كما سموا أنفسهم) وصولاً إلى اليوم، وامتداداً لغد إن شاء الله، حتى تحرير فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر ومن الناقورة إلى أم الرشراش.

والشعب المغربي وقواه السياسية الحيّة، ومن مختلف التوجهات، فرضوا إغلاق ما سمي بمكتب اتصال بين المغرب والكيان الصهيوني عام 2002. واستمر مغلقاً حتى إعلان إعادة فتحه في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2020. وقد أحيطت هذه الخطوة بضجة إعلامية كبيرة من جانب ترامب- نتنياهو، ووضعاها في إطار ما بدأه محمد بن زايد من انتقال بظاهرة التطبيع إلى مستوى التحالف الخياني مع الكيان الصهيوني ومشروعه في المنطقة. وبهذا حمّلاها أكثر مما تحتمل حتى الآن في الأقل، ولكن التوقيت والمناخ العام الذي أحاط بظاهرة محمد بن زايد ومن سار على دربه، بالرغم من عزلتهم، يسمحان لكل من ترامب ونتنياهو والجوقة الإعلامية التي تنفخ في هذه الظاهرة المرضية، بأن يضعوا الخطوة المغربية في ذلك الإطار، بالرغم من التصريحات المغربية الرسمية التي تحاول التقليل من خطورة الخطوة وتداعياتها، ولكن مع ذلك تظل خطوة مدانة أشد الإدانة.

في الحقيقة ثمة حرب نفسية تشن على الشعوب العربية، وعلى الشعب الفلسطيني، تحاول جعل ظاهرة التحالف الخياني الذي عبّر عنه توقيع اتفاقيّ محمد بن زايد وملك البحرين، وما مورس بعده من ضغوط على كل من السودان والمغرب للإقدام على خطوة بهذا الاتجاه، كأنها ظاهرة عربية وإسلامية متدحرجة ككرة الثلج لتكون ظاهرة المستقبل، وذلك بالرغم من أنها تشق طريقها ببطء شديد، وبمواجهة تهرّب عربي وإسلامي واسع من دول عربية وإسلامية كثيرة ما زالت ممتنعة، عن قناعة أو لأسباب الخوف من شعوبها، عن الرضوخ لما رضخ إليه عبد الفتاح البرهان والموقف المغربي الأخير.

يحب ألاّ يُسمح لهذه الحرب النفسية أن تؤثر في قراءة الوضع الخاص بهذه الظاهرة التي افتتحها محمد بن زايد، وذلك باعتبارها، وبالرغم من خطورتها الرمزية والمعنوية، ظاهرة تمشي بأرجل خشبية، ولن يكون المستقبل لها؛ لأنها معادية للأمة العربية والإسلامية ولأحرار العالم، ولكل ما هو وطني وقومي وديني وأخلاقي وإنساني، لما يمثله الكيان الصهيوني من عملية اقتلاع للشعب الفلسطيني من وطنه، وإحلال لمستوطنين غير شرعيين (حتى من زاوية القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة) مكانه، وإقامة كيان- "دولة" بالقوة والمجازر، وتاريخ حافل بالحروب العدوانية على فلسطين ومصر وسوريا ولبنان والأردن.

بكلمة، هو تطبيع استسلامي يتم تحت الضغوط والمساومات مع كيان غاصب عنصري استيطاني لم يعد له شبيه (ولم يكن له شبيه) منذ عهد الاستعمار الغربي في القرون الثلاثة الماضية، ولهذا لن يكون له مستقبل أبداً، ومصيره إلى فشل ورحيل.

المهم ما جرى ويجري حتى الآن من هرولة لم يغيّر في ميزان القوى، ولسوف يواجِه عزلة من الشعب الفلسطيني ومن شعوبنا، ومصيره إلى أن يتحول إلى فقاعات إعلامية عابرة، أو إلى دمامل في الجسد العربي.

وإذا ظن أحد من الحكام العرب أن العلاقات بالكيان الصهيوني تُعزز نظامه، أو مكانته، في نظر شعبه، أو حتى على مستوى عالمي، فسيخيب ظنه، وسيجد نفسه غارقاً في البطش ضد شعبه ونخبه الشريفة. وعليه أن ينتظر العواصف في ظروف من ميزان قوى، عالمي وإقليمي وعربي، جعل الدول والأنظمة مهتزة ومهددة، وأخذ كورونا يزيدها ضعفاً، وكيف مع وضع اليد في يد نتنياهو: اليد التي تعتدي كل يوم على القدس والمسجد الأقصى، اليد التي تكافئ اليد التي تمتد إليها بإعلان بناء آلاف الوحدات الإستيطانية في القدس والضفة الغربية؟

إنها معادلة مركبة من خلل مبدئي ووطني وقومي وديني وأخلاقي وإنساني في إطار موازين قوى، تجعل من غير الحكمة التحالف مع الكيان الصهيوني، بما يتضمنه من استفزاز لأرض تميد تحت أقدام الحكام أصلاً. وقد تنطبق الآية الكريمة "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" (البقرة: 216).

إذن، أمعنوا في استفزاز شعوبكم وإهانة أمتكم، ولنرَ ماذا تخبئ الأيام. ولكن ثقوا أن ما بيننا وبين الكيان الصهيوني متنافيان، بينهما برزخ لا يلتقيان، بل بينهما حرب وجود فرضها الكيان الصهيوني في فلسطين، ويفرضها الآن في القدس التي جعلها عاصمة مهوّدة لكيانه، ويفرضها في المسجد الأقصى، وفي الاستيطان المستشري مع كل "تطبيع"، الأمر الذي يعني الحرب ضد العرب والمسلمين والمسيحيين وأحرار العالم.

ولهذا، من الخطأ الركون إلى لحظة الهدوء الراهنة الآفلة سريعاً.

وسوم: العدد 907