التاريخ والاستبداد بين محاضرتين

انتفعت بالأمس بالإصغاء لمحاضرة بعنوان نفي الاستبداد والانحطاط عن تاريخنا للدكتور الداعية غازي التوبة حفظه الله تعالى ..

كانت المحاضرة قيمة في موضوعها وفِي مضمونها . حدد الدكتور المحاضر منذ البداية لمحاضرته منهجا وطريقة مفيدة .

وطالب المعرفة ينتفع بكل مفيد .

على المستوى الشخصي اعتقد ان امتحان الملكة النقدية بإظهار المحاسن أولى من امتحانها بالوجه الآخر الذي يحرص عليه بعض الناس .

ومن أجمل ما استمعت إليه في محاضرة الدكتور غازي التوبة حفظه الله تعالى

أولا شرحه ماذا أراد من العنوان

" نفي الاستبداد والانحطاط عن تاريخنا "

وانه أراد النفي بالعموم وليس بالإطلاق . بمعنى انه أراد ان تاريخ المسلمين ليس تاريخ استبداد ، ولا يعني انه لم يكن فيه شيء من الاستبداد ، وأكد انه ليس مع تقديس التاريخ ، وان مرجعه في الحكم على الوقائع والأشخاص هو قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ ).

ومن النقاط المهمة التي قررها الدكتور غازي حفظه الله تعالى هي ان عزو الدارس للتاريخ خبرا ما أو واقعة ما ، إلى تاريخ الطبري لا يعني توثيقا ، حتى يدرس الخبر ويعرض على النقد رجاله . وهذا أمر في غاية الأهمية بالنسبة لأبناء الجيل

فالإمام الطبري المفسر محقق . والإمام الطبري المؤرخ جماع . وما أحوج تاريخ الطبري إلى تحقيق على طريقة رجال الحديث .

وعرض الدكتور على النقد حادثتين الأولى وقعة الحرة والثانية حريق الكعبة في انموذج عملي للتحقيق . ونفى أن يكون قد وقع مع وقعة الحرة استباحة لمدينة رسول الله .

الفكرة الثالثة المهمة التي ركز عليها الدكتور غازي هي تعريفه لأركان دولة الاستبداد . وأجاد حين تحدث عن مستبد وثقافة الاستبداد ، ومؤسسات الاستبداد.

ثم يمعن الدكتور حفظه الله بالحديث عن حقائق الثقافة الإسلامية النابذة للاستبداد المتمثلة في الكتاب والسنة وكتب الفقه بشكل عام ، وأحكام الفقهاء بحق المظلوم ان يدافع عن نفسه ، وعن واجب المسلمين نصرة المظلوم الخارج للانتصار من ظلم .

كما أصغيت مساء البوم إلى محاضرة في الموضوع نفسه تقريبا ، إلى محاضرة للأخ الكريم عبد الكريم بكار ..ولن أكون مجاملا إذا قلت إن المحاضرتين القيمتين لا تختلفان كثيرا في المضامين أو في الفحوى العامة التي أرادها العالمان الكبيران .

ويبدأ الأخ عبد الكريم محاضرته بالاعتراف بمجد الإسلام ، ومكانة الحضارة الإسلامية والقيم الإسلامية ودورها في صناعة التاريخ .

كما يتقدم بإعلان البراءة من تقديس التاريخ ، أو من الحكم على رجاله بجنة أو نار . ويشير إلى أن الاهتمام بتفسير التاريخ هو الأهم فيما يرى - وأرى - في هذا العصر بالنسبة إلى المسلمين . حيث يحب أن نركز على المسلم الذي يرمي الله بيده وليس على المسلم الذي ينتظر المعجزة حتى تدور عجلة التاريخ.

الدكتور عبد الكريم حفظه الله أجاد حين قال لن نحاكم التاريخ الإسلامي إلى الحاضر ، فلكل عصر آلياته وإبداعاته والحضارة إنسانية . وجميل أن أقول على لسانه بل تعالوا نحاكم واقعنا العام إلى معطيات عصرنا فنعرف لماذا نحن في ذيل القوافل ؟

ربما كان سيكون أقوى في حديث الدكتور عبد الكريم لو تحدث عن علم تاريخ مقارن حول ما كان ينعم به المسلمون في بلادهم على كر القرون أو حتى القرن الثالث عشر ، حيث يرى ان الميزان الحضاري قد بدأ يميل .

المقارنة هنا ستكون جميلة ومنتجة بين ما كان ينعم من يعيش في ظل الإسلام ودولته من حرية وأمن واطمئنان وعدل ، رجالا ونساء مسلمين ومعاهدين ، وبين ما كانت عليه أحوال بقية الشعوب في العالم قرنا بعد قرن . مثل هذه المقارنة نجدها في مثل كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ حول ما كان عليه تاريخ الحضارة والعلوم والاجتماع بين واقع المسلمين وواقع الصليبين

الدكتور عبد الكريم جزاه الله خيرا ركز على ان الشورى لم تكن نافلة أو حلية شكلية في مرتسم النظرية الإسلامية ، ولكنها غالبا ما كانت كذلك في حياة المسلمين وان أهل الحل والعقد قليلا بل نادرا ما كان لهم وجود أو دور عملي فاعل في تاريخ الإسلام.

ونظرت فرأيت الشيخين متفقين على جملة أمور

فهما متفقان على عظمة هدا الدين

وعلى عظمة هذه الحضارة وهذا التاريخ

وعلى اننا لا يجوز ان نقدس التاريخ

وأنه لا حق لأحد منا ان يدعي الوصاية عليه

وأنه بجل نقاربه مع كل الاحترام الموضوعي لصانعيه . وأن نقاربه مقاربة المعتبر المستفيد ، وحين يصحح الشيخ غازي بعض ما علق بالأذهان عن وقعتي الحرة وحريق الكعبة . يكمل الشيخ عبد الكريم حفظ الله الشيخين بقوله: وقد نحكم على فترة ما انها فترة انحطاط وهذا لا يمنع ان يكون فيها بعض الرجال العظام

نفعنا الله بالعلم وأهله وأثاب الله الشيخين

وإنما أردت أن أشوقكم لسماع المحاضرتين فما راء كمن سمعا ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 907