العقوبات الأمريكية وتأثيرها على الصناعة الدفاعية التركية

ترامب يفرض العقوبات قبل أن يُطرد من البيت الأبيض

فرضت الإدارة الأمريكية قبل خروج زعيمها المهزوم دونالد ترامب من البيت الأبيض، فرضت عقوبات ضد تركيا، موجهة إلى مؤسستها الخاصة بصناعة الأسلحة. وهذه العقوبات يراها البعض مخففة طالما أنها لم تشمل هذه العقوبات تركيا كدولة، في حين يراها آخرون أن واشنطن ترغب في ضرب استقلالية أنقرة في التصنيع العسكري.

وكان لافتاً أن تتوجه العقوبات الأمريكية على تركيا، بسبب شرائها لمنظومة إس-400 الروسية، إلى إدارة الصناعات الدفاعية التركية (SSB) ومسؤوليها، وهي مؤسسة استراتيجية مكلفة بتطوير الأسلحة التركية تشرف عليها الحكومة بشكل مباشر.

العقوبات الأمريكية الناعمة

وبرّر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو استهداف هذه المؤسسة بالعقوبات بالقول إن الإدارة التركية المذكورة "شاركت عن علم في صفقة مع شركة 'روزوبورون إكسبورت' الروسية، المسؤولة عن تصدير الأسلحة من روسيا، من خلال شراء تركيا لنظام صواريخ إس-400".

وتشمل العقوبات حسب بيان للخارجية الامريكية حظر تراخيص وتصاريح صادرات السلاح الأمريكية لتركيا فضلا عن تجميد الأصول الخاصة برئيس إدارة الصناعات الدفاعية التركية إسماعيل دمير، ومسؤولين آخرين.

وجاء الرد على هذه العقوبات من إسماعيل دمير، بالقول في تغريدة له "إن بلاده مصممة على الاستقلال الكامل في مجال الصناعات الدفاعية، وإن العقوبات الأمريكية "لن تعيق مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية بأيّ شكل كان".

ما مدى تأثير العقوبات على الصناعات الدفاعية التركية؟

لم يتضح بعد ما مدى التأثير الذي ستحدثه هذه العقوبات في النهاية على العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة وتركيا، والصناعات العسكرية التركية أيضاً.

وقال آرون شتاين، مدير الأبحاث في معهد أبحاث السياسة الخارجية: "إن هذه العقوبات ستجعل الحياة أكثر تعقيدًا، لكن رفض تراخيص تصدير المواد الأميركية يمكن أن يعيق عقود الرئاسة التركية للصناعات الدفاعية في المستقبل”.

وعندما سعت تركيا إلى بيع طائرات هليكوبتر هجومية من طراز “تي 129 أتاك” محلية الصنع إلى باكستان، احتاجت إلى رخصة تصدير أميركية لأن محركًا أميركيًا هو الذي يشغل المروحية.

بشكل عام، واجهت تركيا مشكلة في تصميم وبناء محركات محلية بشكل مستقل لأجهزتها العسكرية المبنية محليًا. وعلى سبيل المثال، تسعى تركيا إلى الحصول على مساعدة أجنبية لتطوير محركات لطائراتها المقاتلة من الجيل الخامس “تي إف إكس”.

وفي الأعوام الأخيرة، أشاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرارًا وتكرارًا بصناعة الأسلحة ‏المحلية في تركيا باعتبار أنها مثال على الاستقلال العسكري المتزايد لأنقرة. ومع ذلك، تحتوي ‏الكثير من الأجهزة تركية الصنع على مكونات أميركية وغربية.‏

هل ستقوض العقوبات الأمريكية قدرة تركيا الدفاعية؟

وهكذا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت هذه العقوبات الجديدة بموجب قانون مكافحة خصوم أميركا ستقوض قدرة تركيا على بناء المزيد من المعدات العسكرية، وكذلك تصدير الأنظمة العسكرية المصنوعة محليًا.

وقال شتاين في تصريح لموقع (أحوال تركية): “ليس بالضرورة. يعتمد ذلك على ما إذا كان قد تم بالفعل شراء تراخيص المعدات الأميركية، أو ما إذا كانوا بحاجة إلى عمل تراخيص لمزيد من المعدات التي يمكن أن تعيق هذه البرامج”.

ثم هناك السؤال الأكثر عمومية حول ما قد تعنيه هذه العقوبات للجيش التركي. قام الكونغرس الأميركي بتجميد مبيعات الأسلحة إلى تركيا منذ العام 2018 إضافة إلى تجميد عقد لترقية هيكلية لطائرات “إف 16″، المقاتلة التركية. وهذه الطائرات التي صنعتها الولايات المتحدة هي العمود الفقري لسلاح الجو التركي.

يشك شتاين في أن عقوبات قانون مكافحة خصوم أميركا من خلال العقوبات هذه سيكون لها تأثيرات مباشرة على الجيش التركي، مشيرًا إلى أنها “كُتبت على أن لا تعيق التعاون العسكري بين الجيشين”.

وإضافة إلى ذلك، لا تخضع مثل هذه الأمور للرئاسة التركية للصناعات الدفاعية، وسيكون تأثير قانون مكافحة خصوم أميركا من خلال العقوبات سارياً فقط على عقود الرئاسة التركية للصناعات الدفاعية المستقبلية. وقال شتاين “لا تسئ فهمي، ستشعر أنقرة ببعض الأذى هنا”.

هدف العقوبات ليس تدمير العلاقات الأمريكية التركية

ومع ذلك، لم يكن الهدف هو تدمير العلاقات الأميركية التركية بالكامل. حيث أشار نيكولاس هيراس، مدير العلاقات الحكومية في معهد دراسة الحرب، إلى أن أكبر مشكلة تواجهها تركيا مع طائراتها من طراز “إف 16” هي نقص الطيارين وليس الافتقار إلى التحديثات الهيكلية.

وقال هيراس لموقع (أحوال تركية): “لم تتعاف الطائرات حتى الآن من تبعات تطهير الطيارين من سلاح الجو بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 2016”. وأوضح أن عقيدة تركيا منذ ذلك الحين تحركت نحو “الاستفادة من حرب الطائرات ذاتية القيادة لدعم العمليات البرية المعقدة”.

وأضاف هيراس: “بهذا المعنى، تصبح تركيا في وضع نسبي أفضل مما ستكون عليه بخلاف ذلك فيما يتعلق بتحديات تجربة طائرات ’إف 16’ وتحديثها”. وبشكل عام، يرى هيراس أن هذه العقوبات هي طريقة إدارة ترامب للإشارة إلى تركيا بأن الضغط بشأن شرائها لنظام الدفاع الروسي “إس 400” قد نما كثيرًا في واشنطن العاصمة.

العقوبات نقطة انعطاف في العلاقات الأمريكية التركية

ولخص مايكل تانتشوم، الزميل الرفيع في المعهد النمساوي للسياسة الأوروبية والأمنية، والذي يُدرِّس أيضًا في جامعة نافارا، فرض هذه العقوبات على أنه “خطوة جادة تشير إلى نقطة انعطاف في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا”.

وقال تانشوم لموقع (أحوال تركية): “لقد أظهرت الولايات المتحدة عزمها، ويجب على كل من واشنطن وأنقرة الاستفادة من هذه اللحظة لفتح حوار أكثر صراحة وواقعية”. وتوقع أن يكون للعقوبات تأثير قصير المدى على الجيش التركي، لا سيما قدراته القتالية الجوية.

وقال: “ومع ذلك، فإن العقوبات ستوفر قوة دفع أكبر لتركيا لزيادة تعزيز القدرات الإنتاجية لصناعة الدفاع المحلية لديها”. كما لخص شتاين توقيت هذه العقوبات بأنه “إجراء خلفي للحماية من الكونغرس”. وقال: “في الأساس، تخلصت الإدارة من تحذيرات الكونغرس واضطرت إلى القيام بردة فعل”.

موقف إدارة جو بايدن من هذه العقوبات؟

وحتى إذا أرادت الإدارة القادمة للرئيس المنتخب جو بايدن عكس هذا القرار، فإن هذه العقوبات “ستظل مقننة في قانون إقرار الدفاع الوطني، وسيكون رفعها صعبًا”، كما يرى تشانوم.

ويعتقد هيراس أن إدارة ترامب فرضت هذه العقوبات “المتساهلة بشكل نسبي” لتكون بمثابة تحذير لأردوغان. كما يتوقع أن تكون أهم نتائجها “أن العلاقة المستقبلية بين بايدن وأردوغان سيشوبها بعض الغدر والخيانة. إن الضغط في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا يتصاعد إلى حد الانفجار لأن هناك إجماعًا من الحزبين في واشنطن على أن أردوغان يحتاج إلى التراجع عن علاقته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي ترمز إليها قصة شراء بلده الصواريخ الروسية (إس-400”.

رد الرئيس أردوغان على هذه العقوبات

ورداً على الخطوة الأمريكية هذه، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بأن بلاده ستسرع خطواتها في الصناعات الدفاعية لتبلغ الريادة العالمية.

واعتبر أردوغان أن العقوبات الأمريكية الأخيرة تمثل هجومًا صارخًا على الحقوق السيادية التركية، مبيناً أن الهدف الأساسي للعقوبات، قطع الطريق أمام القفزات التي بدأتها تركيا في الصناعات الدفاعية لجعلها تعتمد على الخارج.

وفي معرض الحديث عن تأثير العقوبات الأمريكية على الاقتصاد التركي، قال الخبير الاقتصادي التركي، علاء الدين شينكولار، إن العقوبات الأميركية لن تؤثر على الليرة التي لم تهبط قيمتها في أسواق التداول عقب القرار، كما أنها لن تؤثر بشكل جدي على الاقتصاد التركي في مجالات التجارة الدولية والسياحة والدفاع، خاصة أنها محصورة في عدد من الشخصيات، وتركز فقط على قطاع تطوير التصنيع الحربي.

لم تكن العقوبات الأمريكية جديدة على تركيا

وقال شينكولار أن "الولايات المتحدة في تاريخ علاقاتها مع تركيا قررت ونفذت عقوبات عديدة، وخرجت تركيا منها جميعا بالاستفادة والمصلحة الوطنية، مثل عدم بيع الأميركيين هياكل الطائرات العسكرية؛ مما جعل الحكومة التركية تبني مصنعا ينتج جميع أنواع الهياكل للطائرات وغير الطائرات إلى يومنا هذا".

وأكد أن الاقتصاد التركي يملك عناصر قوة منها الاكتفاء الذاتي في قطاعات كثيرة، واعتماد التصدير إلى بلدان كثيرة متنوعة غير الولايات المتحدة، وعدم الحاجة للأغذية والمنتجات الزراعية المستوردة، فضلا عن أن تركيا بلد سياحي مميز، بحسب ما نقله تقرير "الجزيرة نت".

وأضاف الخبير الاقتصادي التركي "رغم أن هذه العقوبات غير مؤثرة إلا أن الحكومة التركية ستحاول الوصول إلى حل وسط مع واشنطن، كما ستعمل على زيادة الإنتاج وتقنين مصاريف الدولة والحد من الاستدانة الخارجية".

هل ستؤثر هذه العقوبات على الاقتصاد التركي؟

وأثارت العقوبات الأميركية الجديدة التساؤل عن حال الاقتصاد التركي وعناصر قوته في الوقت الحالي، حيث تشير المؤشرات إلى تنامي الاقتصاد التركي بتسجيله نموا بنسبة 4.5% خلال الربع الأول من 2020، وهي البداية التي وصفت بالإيجابية خاصة بعد نمو 6% خلال الربع الأخير من 2019، كما أنها أعطت مؤشرا لنجاح الخطوات الاستباقية، التي جرى اتخاذها قبل وصول جائحة فيروس كورونا إلى تركيا، في مارس/آذار الماضي.

التحولات التي شهدتها تركيا على صعيد الصناعات الدفاعية

سلّط تقرير نشرته "الجزيرة نت"، الضوء على التحولات التي شهدتها تركيا على صعيد الصناعات الدفاعية، وكيفية انتقالها من دولة تابعة للخارج في تأمين احتياجاتها في هذا المجال، إلى قطع يدها المتسولة للمعدات العسكرية من الخارج.

وأفاد التقرير أن تركيا تعلّمت الدرس باكرا منذ الحرب في قبرص عام 1974 من القرن الماضي، وأدركت من وقتها ألا دولة دون قوة عسكرية وصناعات دفاعية تحقق لها الاكتفاء الذاتي وتتجاوزه نحو التصدير.

وشهدت هذه القناعة التركية منعطفا مع الرئيس رجب طيب أردوغان الذي بدا ساعيا للاستفادة من القوى الدولية الرائدة رغم تناقضاتها، غير أن بعضا من تلك القوى لم يعد ينظر بعين الرضا لما حققته أنقرة ولطموحاتها في المجال العسكري، وتجلى ذلك في العقوبات الأخيرة التي فرضتها واشنطن على هيئة الصناعات الدفاعية التركية، وذلك بمبرر شراء أنقرة صواريخ "إس-400".

وبررت واشنطن العقوبات بأن منظومة "إس-400" التي اقتنتها أنقرة تعرض أمن التكنولوجيا والعسكريين الأميركيين للخطر، كما تشكل نقطة ضعف لأنظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو ما نفاه المسؤولون الأتراك.

العقوبات استهدفت بعض شركات القطاع الخاص ولم تستهدف وزارة الدفاع

ويقلل مراقبون من مدى تأثر تركيا بالعقوبات الجديدة، مستدلين بأنها لم تستهدف وزارة الدفاع التركية، لأنها برأيهم ترتبط مع واشنطن باتفاقيات استراتيجية وتعاون عسكري رفيع وتاريخي، ويرجّح محللون ومتابعون للشأن التركي أن دافع تلك العقوبات المحدودة هو انزعاج أميركا من تطور الصناعات الدفاعية التركية بشكل تعددت بصماته في عدد من دول المنطقة.

فقد ظهر التفوق الدفاعي التركي على مدى السنوات الأخيرة في الساحة السورية ضد إرهابيي تنظيم "ب ي د/ ي ب ك" في الشمال السوري، وفي العام الأخير حين نجحت قوات حكومة الوفاق الليبية بدعم أنقرة من ترجيح كفة الميدان لصالحها في الغرب الليبي، على حساب قوات المتمرد خليفة حفتر. وتُوجت الفاعلية العسكرية التركية في الأسابيع القليلة الماضية في حسم معارك إقليم "قره باغ" لصالح أذربيجان ضد أرمينيا.

وكان حضور الطائرات التركية المسيرة طاغيا في كل تلك الساحات الحربية، بعد أن نمت صناعتها في العقد الأخير حتى غدت تركيا من أكبر أربع دول في العالم في مجال تصنيع الطائرات المسيرة، لدرجة أن وزير الدفاع البريطاني بن والاس أبدى مؤخراً إعجابه بالطائرات المسيّرة التركية، ومدى فعاليتها على الأرض، ولا سيما طائرة "بيرقدار تي بي2"، مقرّا في الوقت نفسه بابتكار أنقرة في مجال الدفاع رغم التضييق عليها.

ومنذ عام 2002، حققت تركيا قفزات استعرضها الرئيس أردوغان بنفسه قبل أشهر، مشيرا إلى ارتفاع ميزانية الدفاع إلى 60 مليار دولار مقابل 5.5 مليارات فقط عام 2002، كما ارتفع عدد الشركات العاملة في الصناعات الدفاعية خلال الفترة نفسها من 56 إلى 1500 شركة، فيما بلغت صادرات تركيا من الصناعات الدفاعية عام 2019، قرابة 2.5 مليار دولار، مقابل نحو 250 مليون دولار فقط عام 2002.

المصدر

*التلفوزيزن الألماني-15/12/2020

*صحيفة الغد الأردنية-18/12/2020

*ترك برس-17/12/2020 و20/12/2020

*وكالة الأناضول التركية-18/12/2020

*عربي بوست-15/12/2020

وسوم: العدد 909