لماذا لا يعودون إلا ميتين ..؟! من جنازة "حاتم علي"

لا يوجد بلد يعيش مبدعوها خارجها مثل سوريا، وأحيانا لأسباب تافهة لا تتعلق بالرأي والموقف السياسي العلني، وإنما على النوايا المتوقعة من هذا المبدع، بناء على خلفيات معينة، كأن يكون ابن عمة ابن خالته معارضا وسجينا سياسيا، أو أن نظراته وتعابير وجهه لم تعجب رجل المخابرات، أو أنه كتب مقالا عاديا، أوله الرقيب على أنه استهداف للنظام السياسي..

ولو أردنا أن ندرس الأسباب التي تدفع المبدعين السوريين للعيش خارج بلدهم، لما وجدناها تخرج عن هذا النطاق، ومع ذلك نجد النظام يستمتع بهذا الإقصاء، ويشجع عليه، ويعتبره من أبرز أدواته في قيادة البلد.

قد يرى البعض أن ما أقوله هو ضرب من السخرية أو الخيال، لكن من يقرأ مصير الفارس عدنان القصار، الذي قضى في السجن أكثر من عشرين عاما، لأنه تفوق فقط على باسل الأسد في الركوب على الخيل، يدرك معنى الكلام السابق، بالإضافة إلى أن الكثير من السوريين، يعرفون عشرات القصص منذ الثمانينات من القرن الماضي، عن أشخاص جرى تغييبهم في غياهب السجون لعقود، بناء على شبهات صغيرة، أو سلوك غير مقصود، لأنه لم "ينخ" في الدبكة أثناء الاحتفالات بذكرى الحركة التصحيحية، أو لأن أحدهم نزع صورة الرئيس من على جدران مكتبه بقصد تجديدها بصورة أخرى، أو أن أحدهم سمع أباه ينتقد النظام السياسي ولم يبلغ عنه أجهزة الأمن..لا نبالغ إذا قلنا إن هذه هي أبرز التهم التي كان يقبع بسببها آلاف السوريين في السجون لسنوات طويلة، ولا يشترط بالسجين أن يكون من النخبة المتعلمة، بحيث يخشى خطره، بل قد يكون موظفا من الدرجة الخامسة في مؤسسة حكومية تعنى بتربية الأبقار.. المهم أن يتحول فيما بعد إلى عبرة لغيره ممن تسول له نفسه الخروج عن نظام التنفس الذي تقرره السلطة.

*لقد بنى نظام الأسد في سوريا، جمهورية من الخوف، لا يستطيع العيش فيها، سوى المواطن من ذوي الاحتياجات الصغيرة، التي لا تتعدى حدود الأكل والشرب، *

واعتبار كل ذلك من فضائل الأب القائد والخالد، الذي لولاه لما حظينا بفرصة العيش والتواجد على قيد الحياة..ولعل ذلك، كان أيضا من أبرز الأسباب التي دفعت أصحاب العقول من كافة الاختصاصات، للفرار من البلد مع أول فرصة للنجاة.

الغريب في الأمر، أن مؤسسات السلطة لم تكن تبذل أدنى جهد لدعوة هؤلاء، الذين أبدعوا في الخارج، إلى بلدهم، والاستفادة من عقولهم والتفاخر بإنجازاتهم .. بل يحدث ذلك غالبا بعد موتهم، عندما يعودون ملفوفين بالخشب البارد، وقد أوصوا أن يدفنوا في بلدهم، كتعبير عن أنهم كانوا يتمنون لو أنهم بقوا داخلها وأبدعوا فيها..وصدقا، لا يشعر المبدع بطعم الإنجاز ولذته، إلا إذا كان في بلده وبين أهله وجمهوره.

نتساءل: ما الذي جناه نظام الأسد من هذه السياسة الإقصائية لأصحاب العقول والإنجازات..؟

وما هي القيمة الإضافية التي حققها اليوم، من خلال إبعاد طبيب بارع أو مهندس مبدع، أو رجل أعمال خلاق، أو خبير اقتصادي أو كاتب أو فنان، ألم تكن البلد هي الخاسر الوحيد في النهاية..؟

لا بد أن نشير إلى أنه جرت محاولات لاستقطاب هؤلاء السوريين المبدعين، مع مجيء بشار الأسد للسلطة في العام 2000،

لكن تبين فيما بعد

*أن دعوتهم كانت بقصد إذلاهم والانتقام من نجاحهم بعيدا عن سلطته*..

لقد حدث ذلك مع الدكتور عصام الزعيم،

والدكتور غسان الرفاعي الخبير الاقتصادي العالمي،

الذي تولى وزارة الاقتصاد لعدة أشهر، ثم فر إلى خارج البلد من جديد،

بعد أن أيقن أنه لا يمكن للعطار أن يصلح ما أفسده نظام حافظ الأسد..

وهو ما حدث فيما بعد، مع الكثير من المفكرين ورجال الأعمال وغيرهم، الذين حجزوا تذكرة ذهاب من البلد دون عودة.

أما اليوم، لم يعد السوري يتساءل لماذا لا يعود هؤلاء إلا ميتين،

بل أصبح أقصى طموحه أن يعود إلى بلده ولو ميتا.

ملاحظة: العنوان مأخوذ من مقال للصحفي السوري خليل الخليل، رحمه الله، كان قد كتبه في إحدى الصحف اللبنانية في العام 1998،

وتحدث فيه عن عودة الأديب جميل حتمل ميتا إلى بلده،

بعد نحو عدة أشهر من عودة الشاعر نزار قباني إلى سوريا، بنفس الطريقة.

وسوم: العدد 910