بين غوغاء ترامب ومظاهرات «ديكتاتوره المفضل» السيسي

لم يكن مشهد اقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي اعتياديا بالنسبة لدولة غربية ديمقراطية، لكن زمن ترامب جاء بالكثير من السوابق في الحياه السياسية الأمريكية، معتمدا على نزعته الانقلابية، المدعومة من جمهور كبير من البيض الأمريكيين سكان الأرياف، يقترب تمثيله من نصف القاعدة الانتخابية.

لكن اقتحام الكونغرس بهذا الشكل، شكّل صدمة كبيرة لتقاليد وقيم الحياة السياسية الأمريكية، لدرجة اعتراض قادة الحزب الجمهوري نفسه المنتمي له ترامب، وصولا لاستقالة نحو عشرة وزراء من حكومة ترامب في الساعات الأخيرة.

الرفض الكبير الذي أجمع عليه الساسة الأمريكيون لما حصل من قبل غوغاء ترامب، له دلالاته، بل لوحظ أيضا قلة التعاطف اجتماعيا مع المتظاهرة الامريكية التي قتلت برصاص حرس البرلمان، وأظهرتها اللقطات وهي تحاول العبور نحو القاعة، قبل أن تعرضها لتحذيرات رجال الامن ثم رصاصة استقرت في رقبتها.

واعتقد أن دلالات هذا الاستياء الكبير، من جرأة غوغاء ترامب على التعدي على الكابيتول، تشير إلى حرمة التعدي على المؤسسة التي تمثل قرار الشعب الأمريكي، بمعنى أنها المؤسسة التي انطلق منها التعاقد الاجتماعي على نظام ديمقراطي، يحمي البلاد من بلاء عظيم ابتليت فيه بلادنا، وهو الاستبداد، وتسلط العسكر، أو الحزب الحاكم، أو الطائفة الحاكمة على الشعب. لذلك من حق الأمريكيين والغربيين أن يبدوا قلقهم ممن يحاول أن يهدد أحد أهم قيمهم ومنجزاتهم، التي منحتهم نظاما سياسيا مستقرا يمثل أغلبية الشعب، يداول السلطة، ويحترم القانون، ويفصل بين السلطات، ويمنع احتكار كرسي الحكم من قبل شيخ قبيلة أو أمير طائفة. البعض من الجمهور العربي ابتهج بما حصل، ووصف ما حدث بأنه مؤشر إلى ما اعتبروه كذبة الديمقراطية، وانهيار نظام الولايات المتحدة، بينما جادل آخرون بأن ما حدث من فشل لترامب في تغيير نتيجة الانتخابات، ونجاح المؤسسة الأمنية في إبعاد أنصار الرئيس عن المؤسسة التشريعية، هو دليل على قوة النظام الديمقراطي، والفصل بين السلطات وسيادة القانون، لدرجة أن نائب الرئيس نفسه بنس رفض التعاطي مع دعوات رئيسه ترامب بتغيير نتيجة الانتخابات.

الجمهور العربي بدا أنه قد تعامل مع الحادثة كل وفق نظرته، ووفق تجاربه الخاصة في البلدان العربية، فالعراق مثلا يشهد اعتراضا على السلطة المنتخبة، وسط طعن الكثيرين بنتائج الانتخابات، وكثيرا ما حدث اقتحام قاعة البرلمان من قبل المحتجين الصدريين، وفي «حراك تشرين» الأخير حاول المحتجون السيطرة على عدة مبان حكومية، ومنها البرلمان، وكذلك الأمر في بيروت، حيث تمثل المواجهات مع حرس رئيس البرلمان نبيه بري، إحدى الفعاليات الثابتة في كل مظاهرة في ساحة الشهداء، أما في مصر، فكانت الطامة الكبرى، عندما أخرجت القوات المسلحة المصرية مظاهرة يونيو واعتبرتها ممثلا للشعب، ومبررا للانقلاب على قرار الشعب، الذي تم التعبير عنه بالانتخابات، وللآن تختلط في ذهن الجمهور العربي شرعية المظاهرات مع شرعية الانتخابات، فتجد هناك من يعتقد أنه من حق تيار شعبي ما، أن يخرج بمظاهرة للمطالبة بإسقاط حكومة منتخبة، وإن كان هذا التيار وهذا الجمهور قد خسر الانتخابات، لذلك أصبح هناك خلط لدى الحركات الاحتجاجية بين دورها في التعبير عن الاحتجاج، ومطالبها بالحلول مكان سلطة منتخبة، وهو الأمر الذي يفترض أن له سبيلا واحدا، وهو صندوق الاقتراع، وليس الشارع، ونتحدث هنا بالطبع عن عملية انتخابية نزيهة، وليس في دولة انتخابات شكلية من طراز الأنظمة الشمولية في سوريا والسعودية، ولذلك فإن المظاهرات الشعبية تسمى ثورة فقط في حالة قيامها بإطاحة نظام مستبد، غير منتخب، ففي هذه الحالة، تعتبرالتظاهرات ثورة انقلابية شرعية للإطاحة بحكم بلا شرعية، وصل للسلطة بالقوة، لا يملك تمثيلا شعبيا كافيا، والمفترض أن يكون هدف الثوار حينها هو، استبدال السلطة المستبدة بنظام انتخابي، يمنح للشعب المنضوي في دولة ما، آلية لاختيار سلطة شرعية، وأقرب آلية حاليا هي الانتخابات، وعندها فإن قادة الثوار نفسهم عليهم أن ينظموا صفوفهم حزبيا ويشاركوا في الانتخابات، إذا أرادوا الوصول للحكم، أما الخاسر في هذه الآلية فعليه أن يقبل بالمنتصر الذي يمثل أغلبية الشعب، لا أن يخرج في اليوم التالي بمظاهرة للمطالبة بالسلطة، مدعيا تمثيله للشعب و»الوطن» كما فعل جمهور النظام السابق في مصر، مدعوما ومحرضا من قبل السلطة العسكرية بقيادة السيسي.

وسوم: العدد 911