شتّان بين عاطفة الحب في عش الزوجية وفي وكر الرضائية

بداية لا بد من وقفة مع كلمتي عش ووكر في استعمال اللسان العربي ، فالعش يطلق على مأوى صغار الطير وأودعها وأجملها منظرا و أعذبها تغريدا ،ويكون من قش أو ريش ، ويبنى  غالبا بين أغصان الأشجار، أما الوكر فيطلق على مأوى الطير الكاسر، وهو أشرسها، ويكون من عيدان ، ويبنى غالبا في قمم الجبال.وقد جاء في شعر امرىء القيس قوله يصف عقاب أو نسرا  أو صقرا

ففي هذا البيت إشارة إلى أن الوكر هو مأوى الطيور الجارحة ، وفيه أيضا إشارة إلى أنها تفتك بصغار الطير وتأكل لحمها ، وزعموا أنها لا تأكل قلوبها التي شبه الشاعر الرطب منها بالعناب ، وهو نوع من النبق الطري ، واليابس بالحشف وهو التمر الرديء . وقد سمى البلاغيون تشبيهه هذا تشبيها ملفوفا أتي فيه الشاعر بالمشبهات في الشطر الأول وبالمشبهات بها في الشطر الثاني ، وهو أول من أبدع في ذلك، وله فيه قصب السبق .

وفي ثقافتنا العربية  ومن جمال العربية أنه يستعار العش لبيت الزوجية ، بينما يستعار الوكر لكل حيز مشبوه منزو يكون منطلق شر أو إجرام أو فساد ، ومما يقال: " يدرج في كل وكر الإمعة الذي لا رأي له" .  ومما جاء في وصية أعرابية لابنتها وهي تزفها إلى بيت الزوجية قولها : " أي بنيّة ، إنك فارقت الجو الذي منه خرجت ، وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه " . ولقد كان لها بعد نظر إذ عبرت عن بيت الزوجية الذي ولدت ونشأت فيه بنتها بالعش ، وعبرت عن بيت الزوجية الذي ستنتقل إليه بالوكر تحسبا لما قد يعكر صفو علاقتها مع شريك حياتها  ، وهي في نفس الوقت تنصحها بالاحتراس من أن تتسبب في سوء علاقتها به ، فيتحول عش الزوجية بينهما إلى وكر بسبب ذلك .

وما ذكره الله عز وجل في محكم التنزيل عن العلاقة الزوجية  أن فيها سكينة  ومودة ورحمة ، وهو ما يجعل العش يناسبها كحيز ، وما ذكره عن علاقة الزنا أو الرضائية كما صارت تسمى من ذم  لا يناسبها كحيز إلا الوكر بما له من دلالة قدحية  ، ذلك أن الزناة يلتمسون لهم أوكارا لممارسة الفاحشة  اختلاسا ، وقد أعياهم الاختلاس، فصاروا اليوم يطالبون بممارسة فاحشة الزنا جهارا نهارا.

وليس بين من يرتادون أوكار الفاحشة في الأحياز المنزوية  سواء كانت خلف جدران أو في أماكن مهجورة بعيدة عن العيون عاطفة حب بالمعنى الصحيح وإنما تجمعهم نزوة غريزة الجنس، وكاذب منهم من يزعم أن بينهم حبا بل تطلق كلمة حب عندهم على الممارسة الجنسية كما هو شائع استعماله في اللغة الفرنسية وغيرها من اللغات الأوروبية ، علما بأنه لا يستقيم إطلاق كلمة حب على هذه الممارسة في اللسان العربي المبين .

وإذا ما قارنا بين عاطفة الحب في أعشاش الزوجية و في أوكار الزنا أو الرضائية ، نجدها في الأولى حقيقة بنما هي في الثانية محض كذب وادعاء . أما حقيقتها في الأولى فلها تجليات أولها وجود مساكن قارة معلنة، والعيش فيها دائم ومستمر ،وهي تجمع بين أفراد الأسر وأفراد العائلات يلجها جميع  الأهل من جهة الأرحام ومن جهة المصاهرة ، وهي أحياز جامعة لأواصر بينما أوكار الثانية لا قرار لها بحيث تتغير أحيازها كل وقت وحين  ولا دوام لعلاقة فيها  ، ولا آصرة لأنها لا تجمع  إلا بين زناة تنقضي عشرتهم في دقائق معدودات، وغالبا ما يعقبها ندم شديد وألم نفسي مبرح إن كانت لهم بقية من غيرة على أنفسهم وعلى كرامتهم ذكورا وإناثا . ومن تجليات علاقة الحب  الحقيقي في أعشاش الزوجية التضحية والبذل والعطاء بسخاء وبذلك تستقر الحياة الزوجية في تلك الأعشاش وتحتضن الذريات ، والأزواج  فيها ينفقون من أعمارهم، ومن صحتهم، ومن وقتهم ،ومن أموالهم . وصدق أحد الفضلاء إذ قال إن الزوج جيوبه الخمسة مستباحة، وهو يقصد جيوبه ذات  اليمن وذات الشمال  ومن خلف أيضا، وفي صدره مكان القلب النابض بالحب والرحمة والجود والسخاء بينما الحب المكذوب والمتوهم  في أوكار الزنا أو الرضائية لا تضحية معه ولا بذل ولا عطاء بل من تجلياته الأنانية والأثرة وحب الشهوة للذات ، ولا اعتبار لمن يمارسون  هذه الفاحشة  عند بعضهم البعض ولا احترام ولا تقدير ، وكيف يكون اعتبار لمن يبتذل عرضه ، وهو في قرارة نفسه على يقين تام وراسخ أنه زان ومنحرف وساقط ومهين ؟  وما قد  يكون من انفاق بين الرضائيين إنما هو ثمن وأجر يدفع مقابل غريزة الجنس لا غير ، وهو يدفع كرها وتظاهرا  ورياء  إذ يعقبه ندم وحسرة  شديدان لأنه إنفاق في غير محله . ولا تتعلق الهدايا  المتبادلة بين الرضائيين  بغبار الهدايا بين الأزواج ، ذلك أن هدايا الرضائيين من التفاهة مقابل هدايا الأزواج ذات القيمة والدلالة والاعتبار ، وهو ما يميز الحب الحقيقي بين هؤلاء ، والحب الزائف بين أولئك .   

ولقد أراد ممارسو الزنا تنكب صفة الزناة التي ينعتون بها أو يقدح فيهم بها  ، فاختاروا لهم صفة الرضائيين ، وهي أقبح وأشنع من صفة الزناة لأنهم يرضون لأنفسهم ابتذال أعراضهم  وامتهانها والمتاجرة بها وبخسها  . وفي الاستعمال العامي المغربي تطلق لفظة الراضي على الذي يرضى استباحة عرضه ، وكفى بهذا مذمة  ليبحث هؤلاء لأنفسهم عن نعت آخر، ولن يجدوه أبدا ،وما ينبغي لهم وما يستطيعون.  

وسوم: العدد 916