الحكمة الغائبة في تصريحات عبد الله بن زايد

عبّر الشيخ عبد الله بن زايد وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة، في أول لقاء له مع وسيلة إعلام إسرائيلية، عن ثقته بأن علاقات بلاده مع إسرائيل سوف لا تتغير بمجيء الحكومة الإسرائيلية الجديدة، حكومة بنيت ـ لابيد، وإنه كان متحمساً لتصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد، الذي عبّر عن أمله في تطور علاقات إسرائيل الاقتصادية مع دولة الإمارات (“الأخبار” 30/ 6/ 2021) لكن ما يهمنا في لقاء الشيخ عبد الله مع الصحيفة الإسرائيلية قوله: “إن التحدي القائم حالياً هو إدخال السلطة الفلسطينية في مسار التطبيع في المنطقة”.

ما ورد على لسان الشيخ عبد الله جدير بالتعليق والمناقشة والتحليل، لأن صدوره عن المسؤول الإماراتي الأول عن الشأن الخارجي، مثير للتساؤل وللاستغراب. لا شك بأن الشيخ عبد الله يعلم علم اليقين بالاتفاقيات الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير، التي أنتجت الاتفاقية الأولى منها ما يسمى بـ”السلطة الفلسطينية”. ولا أتصور أن الشيخ عبد الله قرأ أياً من الاتفاقيات، ذلك أن وقته يضيق على ذلك، ومشاغله تحول دون التمعن في أحابيل وتفصيلات تلك الاتفاقيات، ولكن من المؤكد أن مستشاريه السياسيين والقانونيين، قاموا بهذه المهمة، وقدموا له تلخيصاً وافياً حول محتوياتها.

لابد يا سيدي الشيخ أن مستشاريك قالوا لك إن جميع الاتفاقيات هي ـ في الواقع ـ اتفاقيات “استسلام” و”رضوخ” و”امتهان” و”ذل”، وهذا كلام ليست فيه شعبوية قدر ما فيه من الحقائق التي تستند إلى نصوص تلك الاتفاقيات. بداية، ولعلمكم، فإن الاتفاقيات في غالبيتها العظمى هي صياغة إسرائيلية وقام محامو الحكومة، وعلى رأسهم المحامي يوئيل زنجر، بوضع الإطار الاستراتيجي لتلك الاتفاقيات، وأول تلك الاستراتيجيات أنه احتفظ للحاكم العسكري الإسرائيلي بالمركز الأسمى في “مصدر الصلاحيات، ومسألة نقلها واسترجاعها وإلغائها”، و”السلطة الفلسطينية” هي في الواقع والقانون “الإدارة المدنية” التي خلقها الحاكم العسكري، وهذا يؤكد ما يقوله الرئيس محمود عباس، وشرحه قبل ذلك المرحوم الدكتور صائب عريقات، من أن الرئيس ابومازن، لا يستطيع أن يصل إلى مكتبه في رام الله بدون موافقة ضابط إسرائيلي.

عدو نهم جشع، بل في غاية الجشع الاستعماري، لا يقبل من عمليات التطبيع إلاّ السيطرة التامة والاستسلام التام

اما ما بقي من نصوص وأحكام، فإن مستشاريك لابدّ أنهم شرحوا لمعاليكم أن الاتفاقيات، لم تنقل الى السلطة الفلسطينية أياً من الحقوق التي هي حقوق ثابتة للشعب الفلسطيني، باعتباره يقع تحت سلطة احتلال عسكري، وهي حقوق مقررة في الاتفاقيات الدولية (مثل اتفاقيات لاهاي 1907، واتفاقيات جنيف 1949) وفي قرارات العديد من المحاكم الوطنية، بما فيها بعض الأحكام الإسرائيلية والدولية ومحاكمات نورمبرغ ومحكمة يوغسلافيا ورواندا. لا يوجد في أي من اتفاقيات أوسلو نص يفيد بأن الضفة الغربية وقطاع غزة هي “أرض محتلة”، أو أن إسرائيل تعترف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، أو أن إسرائيل تتعهد بالانسحاب من الأراضي المحتلة، أو أن إسرائيل تتعهد بالالتزام بمبادئ القانون الدولي الخاص بالاحتلال العسكري. وبالمقابل، فإن هذه الاتفاقيات تغص بالالتزامات، التي على الجانب الفلسطيني أن يقوم بها ويؤديها لسلطة الاحتلال. أولى وأهم وأخطر هذه الالتزامات، أن على السلطة الفلسطينية، توفير الحماية والأمن للمستوطنين، ولقوات الاحتلال، وهذا تعهد لم يسبق في التاريخ الحديث أن تعهد به شعب تحت الاحتلال لحماية دولة الاحتلال ومستوطنيها. كما أنه رغم أن القوانين الدولية توفر الحماية للمصادر الطبيعية، التي يملكها الشعب الواقع تحت الاحتلال، وتحرّم النهب والسلب والمصادرة، جاءت الاتفاقيات تبيح هذه الجرائم، وأصبح الفلسطينيون، على سبيل المثال، يدفعون ثمن مياههم التي يسرقها الاحتلال ويبيعها لهم. وقد فرض الاحتلال سياجاً أمنياً على مصادر الغاز في المياه الإقليمية لقطاع غزة، ولا أحد يعرف إن كانت سلطة الاحتلال تسرق الغاز لمنفعتها، دون السكان الفلسطينيين.

وقد يكون من المناسب الإشارة، إلى أن سجل السكان في الأراضي المحتلة، هو تحت سيطرة إسرائيل، فالولادات والوفيات الفلسطينية، التي تقع هناك تسجل لدى سلطة الاحتلال، وبذلك تسيطر إسرائيل على حركة السكان وأعدادهم، وهناك أمثلة عديدة يمكن الإشارة إليها لإثبات أن عملية التطبيع التي تطالب معاليكم السلطة الفلسطينية أن تشارك فيها، قد حصلت منذ ما يقارب من ثلاثة عقود. وأكاد أجزم أنه لم يبق للسلطة الفلسطينية من أنشطة خارج نطاق التطبيع، بل هي جميعها تحت سلطة الحاكم العسكري. هل أسوق لمعاليكم مثالاً يدلل على عمق التطبيع: نص اتفاق أوسلو على أن الوثائق التي تصدرها السلطة الفلسطينية للفلسطينيين القاطنين في الأراضي المحتلة، يجب ان تطبع بحرف ذي حجم (12)، بينما يطبع اسم الوثيقة بحرف حجمه (14). وهل بقي بعد تحديد حجم حرف الطباعة ما يمكن مطالبة السلطة الفلسطينية بالدخول في حرم التطبيع لم يسبق لها أن دخلته؟

كل هذه المقدمة ليست تعقيباً على مطالبة معاليكم للسلطة الفلسطينية بالدخول في التطبيع، وكما هو واضح لم يبق لديها شيء لم يدخل قبو التطبيع. إنما القصد من هذه المقدمة، ان أبين للشيخ عبد الله، أن التطبيع الذي تنهمك الإمارات العربية في الولوج في أقبيته، لن يشفع لدولة الإمارات، ولن يُرضي إسرائيل، ولكم يا سيدي الشيخ أن تقارن تطبيع السلطة الفلسطينية، الذي وصل مرحلة الاستسلام، مع ما ينتظر الإمارات من مطبات في طريق التطبيع. إن هذا عدو نهم جشع، بل في غاية الجشع الاستعماري، وهو لا يقبل من عمليات التطبيع إلاّ السيطرة التامة والاستسلام التام.

والله يرعى الإمارات، دولة الشيخ زايد، طيب الله ثراه، والذي ما لبس عباءة غير عباءة العروبة ومقاومة التطبيع.

وسوم: العدد 937