كنت معهم في الخيام…رحلتي إلى الشمال السوري

“اللهم إني أعتذر إليك من كل كبدٍ جائعةٍ وجسدٍ عارٍ، فليس لي إلا ما على ظهري وما حوت بطني”.

تفكرت في تلك المقولة التي جرت على لسان ذلك التابعي الذي أرهقته الفاقة، فقصرت يده عن إطعام البطون الخاوية وكسْوِ الظهور العارية، فاعتذر إلى ربه بضيق الحال، فإذا بفكري يجول في حياة أولئك المترفين المتقلبين في أصناف النعم، الذين حجبوا أبصارهم عن النظر إلى الجوعى، وصرعى الكوارث والأزمات، بم يعتذرون إلى ربهم؟ بم يعتذرون إلى أمتهم؟ بم يعتذرون إلى الإنسانية؟

جراح الأمة عديدة، وأينما وضعت كفك على خريطة لها ستقع على جرح غائر، كنتُ على موعدٍ مقدور مع زيارة للتعرف عن قرب على أحد هذه الجراح، فبينما كنت أسمع عن أزمات المخيمات في شمال سوريا التي وقع أهلها بين مطرقة بطش النظام وسندان الفقر والجوع والمرض، إذا بي أنتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، فليس من رأى كمن سمع، وقديما أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم (ليس الخبر كالمعاينة). خضتُ رحلة الأحزان إلى ريف حلب الشمالي، وفي مخيلتي تلك الصورة المشرقة التي تعرضها بعض المنظمات الإغاثية الدولية، وهي تأخذ اللقطة وتُشعرنا بأن العالم بخير، لكن الأمر جدّ مختلف، عاينت خياما بالية لا تقوى على الصمود أمام حر الصيف وبرد الشتاء، ارتفاع سقفها لا يسمح لساكنها بأن يشد هامته، وكأنه يجبر أهلها على الانحناء والانهزام أمام ذلك البؤس، وإذا نظرتَ عبر فتحات التهوية، ستقع عيناك على الصرف المجاور للخيام، ولن تدعك الرائحة الكريهة المنبعثة لمزيد من المطالعة، حينها ستعرف سر “اللشمانيا” تلك الكتل المتقرحة على أوجه الأطفال وأجسادهم، والتي هي هدية البعوض وذباب الرمل من مياه الصرف إليهم. عندما تنظر إلى الأطفال تراهم يبتسمون دائمًا، وكأنهم يقولون لك: رغم كل شيء، سنتشبث بطفولتنا، قطعًا ليس لديهم “بلاي ستيشين” ولا يلعبون “بوبجي” ولا يشاهدون أفلام الرسوم المتحركة، وكأنهم يمثلون عودة أطفال ما قبل التكنولوجيا.

سترى الفتيات تنطق وجوههن بكل متناقضات الشعور، تبتسم إحداهن وفي عينيها لمعة تجاهد ألا تتحول إلى دمعة متهدلة، وتواري أخرى ضعفها خلف ستار عزتها، وثالثة تطرق رأسها خجلا عند السؤال عن الأحوال ولسان حالها يقول: أين أنتم؟ ومن حماقتي سألتهم وقد نال مني الحر: هل عندكم (مراوح) في الخيام؟ ابتسموا في تهكم مهذب، بينما أتتني الإجابة من أحدهم، بأنه يتحداني إذا ظلت البطاطا داخل الخيمة من الظهر إلى العصر من دون أن تُشوى. أشد المشاهد إيلاما منظر القوم وهم يجلسون خارج الخيام وعلى قارعة الطريق ينتظرون أن يأتيهم أحد بالماء، يجلس العجائز والفتيات والرجال والأطفال بالأواني تحت سطوة القيظ ولهيب الشمس، يرقبون ذلك المشهد المحبب إلى أنفسهم: مشهد ناقلات الماء، حينها ستدرك حجم النعيم الذي نعيش فيه، ونعمة الماء التي نعبث بها ليلا ونهارا بإسراف شديد، يغيب عنا أن هناك من يتوقف إرواء ظمئه على قدوم الناقلات. إننا نتحدث عن الماء يا سادة، سر الحياة، فلذا لا تسألوا عن أحوالهم مع الكهرباء، فهي رفاهية لن تجدها في تلك البقاع، بل لا تسألوا عن أمتعتهم وفُرشهم التي ينامون عليها، فإن هذا سوف يكلفكم كثيرا من عناء التخيّل.

ألطاف الله كانت حاضرة معي، إذ لم تكن الصورة قاتمة تماما، ألفيتُ جزءا مضيئا بها، رأيت رجالا لم يترخصوا في الهجرة إلى أوروبا، وظلوا في هذا الكَبَد والمعاناة طواعية، يشاركون إخوانهم محنتهم، منهم حملة مؤهلات عليا وأطباء وأساتذة في الجامعات، آثروا البقاء لمد يد العون لشعبهم المنكوب، والنهوض بالإنسان السوري في ظل كل مقومات الفناء، ويقومون على الرغم من شظف العيش وكآبة الحياة بتعليم الأولاد والفتيات بما أنعم الله عليهم من علوم، يؤكدون على أن ملء العقول ضرورة كما هو ملء البطون، أولئك المنسيون الذين ضاع ذكرهم في خضم الأزمة الطاحنة، أولئك الذين لا يعرفهم أحد، ولكن كما قال الفاروق عمر: “حسبهم أن الله يعرفهم”. سألت أحدهم وأهله في الخارج: لماذا لم تسافر معهم؟ أجابني: أريد أن أخدم أبناء بلدي، وأخدم أبناء الشهداء.

هؤلاء يقومون بدور الإعلام البديل من داخل الأراضي السورية، ينقلون بالصور ومقاطع الفيديو إلى أصدقائهم ومن يعرفون خارج البلاد، حجم المعاناة التي يكابدها السوريون في هذه الأرض. وقطعا لن أجحف جهود الفضلاء، الذين يحرصون على دعم المخيمات عن طريق المنظمات الإغاثية، فلها أثر واضح لا شك، فبخلاف محاولة توفير سبل الإعاشة، هناك مؤسسات لرعاية الأيتام، وأخرى للمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة. لكن أحب أن أؤكد هنا على قضية غاية الأهمية، وهي ضرورة الاهتمام ببناء الإنسان السوري في تلك البقاع، وليس التركيز على توفير السبل التي تبقيه حياً فحسب. هناك حكمة يتداولها محاضرو التنمية البشرية، وتطوير الذات وريادة الأعمال ومؤسسات المجتمع المدني كثيرا، تقول: “لا تعطني سمكة، ولكن علمني كيف أصطاد”، والبعض زاد عليها وعدّل: “لا تعطني سمكة، ولا تعلمني كيف أصطاد، ولكن علمني كيف أصنع الصنارة”، فهذا هو المطلوب مع أشقائنا في المخيمات، فأمد الحرب طال، ولا تلوح في الأفق القريب بادرة حل ينهي الأزمة، فإلى متى نكتفي بسلة الغذاء، وحفان الأرز والدقيق، التي يقف أمامها الناس في طابور طويل، يأخذونها فتكفيهم يوما أو أسبوعا، ثم يعودون إلى مقاعد الانتظار؟

حتمًا الإغاثة بالمواد الغذائية مطلوبة، ولكن لماذا لا نفكر في حلول جذرية؟ لماذا لا نفكر في أن نعلمهم كيف يصنعون الصنارة؟ لماذا لا ندعمهم بمشاريع صغيرة على هذه الأراضي يعيشون على أرباحها؟

في رحلتي هذه عاينت أنموذجا ينبغي تكراره والتركيز على أشباهه، حيث تم استئجار قطعة أرض من قبل إحدى المؤسسات الخيرية، وإقامة بيوت بلاستيكية للزراعة، البيت الواحد تعيش منه عائلتان لمدة عام من دخل إنتاجه عن طريق بيع الشتلات أو زراعة الشتلات للحصول على الثمار، ثم بيعه، والعام اللاحق يستطيع أهله أن يدفعوا إيجار الأرض بأنفسهم والإنفاق على الأرض. هذا هو المطلوب، مشروعات تستوعب طاقة أشقائنا في المخيمات وتدر عليهم دخلا يعيشون منه، من دون الحاجة إلى الوقوف في الطوابير للحصول على حفانٍ من الغذاء، ونحن بذلك نصون كرامتهم، ونجنبهم إلْف الكسل والدعة، فيهمنا بناء الإنسان السوري حتى يعود إلى أرضه وهو عامل منتج مؤثر فعال، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 937