العرب يضرون أنفسهم أشد مما يضرهم عدوهم

في خطوة مروعة ، أعلنت بلدية فاس المغربية توءمتها مع مستوطنة كفار سابا في الداخل الفلسطيني المحتل ، ولم تأبه بمعارضة عشرات الهيئات المغربية لخطوتها التي تجسد قفزة واسعة في الالتحام مع إسرائيل ، وقد تشجع بلديات أخرى على فعل ذات الخطوة المنكرة . والمفارقة الرائعة لخطوة بلدية فاس صنعتها آدا كولاو رئيسة بلدية برشلونة عاصمة إقليم كتالونيا الأسباني بتجميد علاقاتها كافة مع إسرائيل ، وإلغاء توءمتها مع تل أبيب المعقودة في 1998 ، وطول زمن التوءمة يوضح قيمة ما ضحت به بلدية برشلونة رفضا أخلاقيا وإنسانيا منها لجريمة الفصل العنصري التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين ، ولانتهاكها المتواصل لكل حقوقهم الوطنية والإنسانية ، ونتوقع أن تحذو بلديات أسبانية أخرى حذو بلدية برشلونة ورئيستها الشجاعة . ونذكر بأن أسبانيا لم تعترف بإسرائيل إلا في 17 يناير 1986 اعترافا بحكم الواقع . ونحذر من أن إسرائيل كعادتها لن تسكت على هذه الخسارة ، وستسعى لإلغاء الخطوة التي قادت إليها . وعادة لا يقف العرب مع أنصارهم أفرادا أو مؤسسات أو دولا ، ويتركونهم يواجهون وحدهم تبعات مناصرتهم لأي قضية عربية ، وهذا الموقف الخاذل منطقي في السلوك العربي ، فالذي لا يناصر نفسه سيخذل من يناصره . ونبادر فنقول إنه لا علاقة له بالحس الخلقي للشخصية العربية المعروفة بسرعة الاستجابة لواجب الدفاع عن الذات ، والدفاع عن الضعيف ، فما بالنا بدفاعها عمن يناصرها ؟! وكانت القبائل القوية تحالف القبيلة الضعيفة حماية لها ، وتحالف حتى الأفراد الذين وفدوا إليها من قبائل بعيدة عن مضاربها ، بل تحالف أفرادا من البلدان المجاورة مثل الحبشة وفارس والروم . ما يشل مناصرة العرب لمن يناصرهم ، خاصة في القضية الفلسطينية ، هو أنظمتهم السياسية . هذه الأنظمة تحالف عدو العرب مجسدا في الغرب وإسرائيل ، وتعطل فاعلية المجتمع المدني في مناصرة أي قضية عربية دائمة أو مؤقتة . إنها في وادٍ وإرادة شعبها في وادٍ آخر . وبهذه الصفة الانفصالية تشجع من فاعلية المجتمع المدني ما يوافق تحالفاتها مع عدو شعبها . هل كان عبد السلام البقالي رئيس مجلس بلدية فاس يجترىء على توءمتها مع مستوطنة كفار سابا لو لم يكن النظام المغربي في تحالف شامل مع إسرائيل ؟! نظرت في الشعارات التي رفعها الشعب السوداني رفضا واستنكارا لزيارة إيلي كوهين وزير خارجية إسرائيل للخرطوم تمهيدا للتطبيع بين البلدين ، وقلت لنفسي : " لو كتب فلسطينيون شعارات رفض واستنكار لهذه الزيارة لما فاقت قوة هذه الشعارات صدقا وانتماء لفلسطين . " ، وفي الشعارات فهم مطلق لهوية إسرائيل التي أجرمت في حق السودان بالعمل سنين طويلة لفصل جنوبه عن شماله إلى أن حدث في 2011 مثلما أجرمت في حق الفلسطينيين بسرقة وطنهم وتشتيتهم وقتلهم . ولم يأبه البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالمتظاهرين وشعاراتهم ، وفضل عليهم أميركا وإسرائيل . وتنتظر إسرائيل تتابع حبات مسبحة التطبيع مع دول عربية وإسلامية ، وكلما زاد عدد حبات المسبحة زادت شراستها وعدوانيتها على الفلسطينيين . وهي شراسة وعدوانية مدخرة لكل العرب والمسلمين الظانين أنهم في منجاة منها ، ونراها في ادخارها تطل برأسها الشيطاني بين حين وآخر وفق المتاح من الأحوال ، ولم يوقفها إنسانيا حتى هول مأساة الزلزال في سوريا ، فجاهرت بأنها لن تتردد في مهاجمة إمدادات الإغاثة الإيرانية إن ارتابت في نقل إيران أسلحة خلال هذه الإمدادات . فجور وانحطاط أخلاقي نادر الشبيه إلا لدى راعيتها أميركا التي تأخرت في رفع العقوبات عن سوريا ، ثم رفعتها لستة أشهر تسهيلا لنقل المعونات إليها . ولولا دور إسرائيل وأميركا وبعض الدول العربية في تدمير سوريا وتشريد الملايين من شعبها مدى اثني عشر عاما لكانت أقدر كثيرا على مجابهة كارثة الزلزال . وفي ضلال ووهم عريضين ، تقدم الأنظمة العربية المتهالكة في حمى التطبيع مع عدو الأمة ؛ تطبيعها جالبا لعسل ولبن وخمر في جودة ولذة عسل ولبن وخمر الجنة . والمدهش أن اللاحق منها في تطبيعه لا يتعظ من بؤس السابق في تطبيعه . ولا ينتبهون كلهم ، سابقهم ولا حقهم ، إلى تعاسة حال الكيان الذي يطبعون معه : تمزق عميق بين علمانييه ومتدينيه الذين أحكموا قبضتهم عليه بقيادة رئيس وزراء ضعيف مشتت وصفه الكاتب الإسرائيلي ميخائيل بريزون في صحيفة " هآرتس " ب " الخرقة البالية " ، وشلل في مواجهة حفنة شبان فلسطينيين مقاومين منظمين أو منفردين . وألقى الكاتب في مقاله في الصحيفة بطاقة نعي للكيان عدد فيها أعراض موته ، وهي " التعليم يحتضر ، والبناء متخلف وباهظ الثمن ، والتمريض والعناية بكبار السن صار نكتة إجرامية ، والصحة مسحوقة ، وغلاء المعيشة في عنان السماء ، والبنى التحتية متآكلة ، والمواصلات العامة مضحكة ، والفقر يتعاظم ، والدين يسيطر ، وتجميع الشتات يولد الشجارات ، وأعمال الشرطة قبيحة ، والعنف يزدهر ، والفساد يستشري ، والعدل يزحف بطيئا ، وحقوق الإنسان تحتضر ، والمساواة ماتت وقبرت . " . 16 عرضا ، وعلى كثرتها يقول إنها جزئية ، ويراها مع الأعراض التي في باله قاذفة بإسرائيل في دوامة التدمير الذاتي الممهد لزوالها . خير العرب في ترك الكيان الغاصب العدواني يتآكل ذاتيا بمقاطعته وعزله ، ولن يحدث هذا الترك إلا إذا استجابت الأنظمة العربية لإرادة شعوبها الرافضة لأي علاقة به ، وتوقفت عن الإضرار بمصالح هذه الشعوب أكثر مما يضرها العدو . ولا سابقة تاريخية لتدافع أمة من 400 مليون نفس على التودد لكيان عدواني صغير مغتصب لجزء من أرضها ، ويرمقها بنظرة استعلاء واستهزاء في تدافعها تلهفا على مودته ورضاه .

وسوم: العدد 1019