استشراق التوراتي وتزوير تاريخ فلسطين

في خطاب له في باريس، من على منصة ظهرت عليها خريطة لدولة إسرائيل التوراتية، تشمل فلسطين والأردن، قال الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، “إن الشعب الفلسطيني هو اختراع لا يتجاوز عمره المائة عام، وإن جده من الجيل الثالث عشر في القدس هو الفلسطيني”…

هذه الثرثرة في التاريخ، سبقتها ثرثرة أخرى لرئيسة وزراء إسرائيل السابقة غولدا مائير، عندما أنكرت في مقابله مع صحيفة “الصنداي تايمز” عام 1969، وجود الشعب الفلسطيني بقولها إنه “لم يكن هناك شيء اسمه فلسطينيون” .

تحريف المستشرقين

إن إنكار هوية الشعب الفلسطيني واختراع تاريخ مزور لليهود في فلسطين، كانت عملية بدأتها حركة استشراقية استعمارية قبل نحو 200 عام، مهدت لاستعمار فلسطين، بدأها نابليون في حملته على مصر وفلسطين عام 1799، بدعوته اليهود “للسير وراء فرنسا حتى يتسنى استعادة ما سماها بالعظمة الأصلية لبيت المقدس”

وادعى مستشرقون مرافقون للحملة الفرنسية، أن اليهود هم ورثة فلسطين الشرعيون، وبحقهم بإعادة إنشاء “مملكة القدس القديمة”.

وكان المستشرق أنكتيل ديبرون (1731-1805)، دشن مشروعا كان يرمي لإيجاد موطئ قدم لأوروبا في المنطقة العربية بواسطة اليهود، بعد أن قام بعدة رحلات لفلسطين، ليبرهن على وجود “شعب الله المختار” في ماضيها عبر تتبع أصول اليهودية.

وعلى مدى عقود، وخبراء الآثار التوراتيون يحملون الفأس بيد، والتوراة باليد الأخرى، ولم يتركوا موقعا في طول وعرض فلسطين إلا ونبشوه، دون أن يجدوا أي لقىً أثرية، أو نقوش تثبت أن الجغرافية التاريخية للتوراة كان مسرحها فلسطين، وهو ما أكده عالم الآثار الإسرائيلي “يسرائيل فنكلشتاين” لمجلة (جيروزاليم ريبورت) العبرية بقوله:

” إن علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية، تدعم بعض القصص الواردة في التوراة، بما في ذلك قصص الخروج والتيه في سيناء، وانتصار يوشع بن نون على كنعان” فيما تساءلت صحيفة (هآرتس) في تقريرحول ما خلص إليه فنكلشتاين، “هل الادعاءات الصهيونية حول القدس وقضايا أخرى ولدت في عقل أديب عبقري بهدف تحقيق طموحات ومطالب سياسية؟”.

لكن إذا لم تكن فلسطين مسرح الجغرافية التاريخية التوراتية، إذن أين مسرحها؟

اليمن مهد التوراة

الباحث في تاريخ الأديان فاضل الربيعي، يؤكد أن المستشرقين وخاصة البريطانيين اعتمدوا على نسخة مزورة للتوراة في اللغة الإنكليزية لتزوير تاريخ المنطقة، تم فيها إسقاط جغرافية – اليمن- التي دارت فيها أحداث التوراة فعلا على جغرافية فلسطين التاريخية لأهداف استعمارية، وأن المستشرقين ألفوا نسخة مزورة للتوراة، ترجمت إلى عدة لغات بما فيها العربية والعبرية، وتم توزيعها على نطاق واسع لخلق إسرائيل لأهداف استعمارية للسيطرة على الموارد الطبيعية في المنطقة العربية.

وبالاعتماد على نسخة قديمة للتوراة باللغة العبرية، والاستعانة في علم الآثار وباستخدام الكربون المشع وفحص الDNA ، وكذلك بفقه اللغات السامية المقارن، نفى الربيعي أي علاقة لليهود بتاريخ فلسطين أو مصر، مؤكدا أن التوراة دارت أحداثها في اليمن، وأن انبياء وملوك اليهود كانوا في اليمن، وأن إبراهيم الخليل ولد في – جبل كساد في البيضاء- القريبة من لحج ولم يغادر أرض اليمن ودفن في – حبرن- شمال عدن .

وحسب الربيعي فإن مصر الوارد ذكرها في القرآن هي عاصمة مملكة – أوسان في شبوة – وليست ما تعرف اليوم بمصر، وإن فرعون الذي ذكره في القرآن أيضا، كان في شبوة وولد في مرخة ودفن في الكدرة بــ “قدس” في تعز، كما أن جبل الهيكل يقع بين عدن وتعز، ولفت إلى أن التيه اليهودي كان في تعز، وليس في صحراء سيناء حسب النسخة الإنكليزية المزورة من التوراة.

وباستخدام علم التأصيل “الإتيمولوجيا”، الذي يُعنى بأصل الكلمة وحقيقتها، بدراسة أصل المفردات، وتاريخها والتركيبات التي تندرج في سياقها، ومقارنة المتشابه منها في لغات تنتمي إلى عائلة لغوية واحدة، يتوصل الربيعي إلى نتيجة مفادها، أن أسماء مواقع جغرافية مشتركة بين فلسطين واليمن، هي أسماء مواقع وأماكن في اليمن أسقطها المستشرقون الإنكليز على فلسطين بالباطل، ومنها – وادي جردان – في شبوة باليمن إدعوا أنه وادي الأردن، ومدينة – بينان – في ذمار باليمن ادعوا أنه لبنان، وحصن أريحا (بالعبرية يريخو) مازال موجودا شمال صنعاء باسم – يراخ – كما أن صُورْ العمانية المشهورة بأخشابها حرفت لتصبح صُورْ اللبنانية، ووادي العرب في اليمن تم تحريفه لوادي عربه في فلسطين، وكذلك بئر سباع في مأرب في اليمن حولت الى بئرالسبع في فلسطين.

أنبياء بني إسرائيل من اليمن

أما الباحث اللبناني فرج الله ديب، وباستخدامه علم التأصيل “الإتيمولوجيا” في نقد الجغرافية التاريخية لأنبياء التوراة، يؤكد أن المسرح الفعلي لإبراهيم وموسى ويوسف وسليمان، كان في اليمن لا في “أرض الميعاد” وفق الأسطورة اليهودية. ويلاحق ديب أصل المفردات الواردة في التوراة، ويجري مقارنة اشتقاقية لأصولها اللغوية، التي تمتد إلى أماكن وقبائل وجدت في اليمن، ليؤكد أن هود وإدريس وصالح ويونس وشعيب يمانيون، وأن اليهود ما هم إلا عشائر عربية يمنية نسبة إلى النبي هود، الذي كان من الأحقاف شمال حضرموت، بالإضافة إلى أن التهود لم يأتِ من فلسطين، بل من ممالك حِمْير اليمنية، وأن البحر الذي شقه موسى بعصاه كان وادياً أو نهراً واسعاً جافاً في اليمن، ويذهب الى أن مملكة سليمان كانت في اليمن أيضا، والهيكل الذي بناه يقع في القاع الجنوبي من صنعاء، وليس في فلسطين.

القدس ليست أورشليم

وفي ما يتعلق في القدس، التي يدعي المستشرقون التوراتيون أنها كانت عاصمة دولة داوود، فإن الحفريات الأثرية التي قامت بها عالمة الآثار البريطانية “كاثلين كينيون” بين عامي 1961 و 1967، أثبتت بما لا يدع مجالا للشك، أن – أورشليم- في القرن العاشر قبل الميلاد في زمن داوود وسليمان كانت مدينة صغيرة، بلغت مساحتها نحو 100 دونم، بينما نجد بعض المدن في عصرها كانت تصل مساحتها بين 600 الى 1000 دونم، فكيف يعقل أن تكون مدينة بهذه المساحة الضيقة عاصمة لإمبراطورية داود وسليمان، التي تمتد من النيل الى الفرات، وتمثلها إسرائيل الحالية بخطين أزرقين على علمها ؟!

وعثر في العام 1926 على رسالة أثرية في ألواح تل العمارنة نقش عليها “أورسالم”، موجهة من ملك أورسالم “عبد خيبا” لملك مصر “أمنحوتب الرابع” وهو أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة، والمعروف باسم “إخناتون” الداعي إلى التوحيد، يطلب منه فيها مساعدته في صد هجمات البدو “الخبيرو” الذين أسقط الأثريون التوراتيون اسمهم على “العبرانيين” كما ورد في “التناخ” على أساس التشابة بين اسم العبيرو والجذر المشترك في اللغـات السامية (ع ب ر)، الا أن هذا الإسقاط لم يلق قبولا من المختصين في اللغة الأكادية، مثل العالم الألماني “لاندسبرك”.

إن النصوص التوراتية المزورة وتفسيراتها الاستشراقية – الاستعمارية، لعبت دورا في رسم وكتابة تاريخ الشرق العربي، ولغاته وفنونه وآثاره المادية، بوضعه في سياقات “ملوية العنق” تعكس صورة متخيلة من المرويات التوراتية لهدف “اختلاق إسرائيل القديمة” الا أن علم الآثار التوراتي عجز عن إيجاد شواهد تدعم اختلاقاته، ما سيؤدي بالضرورة لانهيار الصرح الزائف الذي بناه هذا العلم، بفعل أبحاث ودراسات علم الآثار وعلماء فقه اللغة المقارن وعلماء الإتيمولوجيا .

وسوم: العدد 1025