أوراق الأسد… بشارة قمح أم زؤان!

مناسبة هذا المقال هي ما يجري من إعادة تحديث للعلاقات مع النظام السوري وتبييض رأسه الأسد. والطريقة هنا هي معرفة ما يملكه النظام السوري ورأسه من» أوراق» تجعل الآخرين يُقبلون بهذا الحماس المفاجئ في فورته على إعادة العلاقات معه، بغضّ النظر عن تناول مصلحة الشعب السوري بعد كلّ ما جرى له.

قديماً، في عهد الديكتاتور الأب، كانت له سياسته الفريدة في التعامل مع أوراق اللعب، وتجميعها أيضاً، بطرق مشروعة وغير مشروعة، كما يحصل في اللعب من مناورات وخِدَع. من تلك المشروعة مثلاً، استنباط خاص لطريقة في الحصول على رضا أو تأييد الأطراف المتناقضة. كان على رأس تلك الأطراف في أيام الحرب الباردة كلٌّ من الاتّحاد السوفييتي والولايات المتحدة، أو الشرق والغرب. وصل العداء للإمبريالية في وقتٍ ما إلى مستوى مهم من المشاركة مع الولايات المتحدة في تحرير الكويت من القوات العراقية، كذلك أيضاً التعامل بمرونة خاصة مع إسرائيل واحتلالها للجولان والقضية الفلسطينية، بحيث تكون الاستراتيجية هنا قائمة على التزام المطالب القصوى، ورفض ما ينقص عن الحق الكامل، والبروباغندا الكفاحية المرافقة؛ ومن جهة أخرى التزام قرارات الشرعية الدولية، والاتفاق مع إسرائيل على ما يقلّ عن السلام في اتفاقات فصل القوّات، ويزيد عنه من حيث الواقع الدائم، الذي سكتت به النيران عقوداً طويلة، واستراح «العدوّ» من الصداع على هذه الجبهة، واعتبرها مثالاً وضماناً يُحتذى به.

الديكتاتور الأب، كانت له سياسته الفريدة في التعامل مع أوراق اللعب، وتجميعها أيضاً، بطرق مشروعة وغير مشروعة، كما يحصل في اللعب من مناورات وخِدَع

وفي ما يتعلّق بالعلاقات مع الدول العربية، التزم الخيار المماثل، مع مراعاة السياسات التي تؤمّن دعماً مادياً مباشراً من دول الخليج، يُموّل به اقتصاده المُرهق وأدوات قمعه الهائلة في كلّ أشكالها وتفرّعاتها؛ إضافة إلى الدعم السياسي وعين الرضا. هذه أمثلة في لعب أوراق أقرب إلى صفة «المشروعة»، شكلياً على الأقل. من ناحية أخرى، لم يمنعه ذلك من الابتزاز بممارسة الضغوط باسم معاداة الرجعية والعمالة والاتهامات بهما، الأمر الذي يفيد في تنشيط الهمّة على بذل العطاء بين مرحلة وأخرى. في القضية الفلسطينية كان البدء بالسقف العالي وبالدعم الحيويّ، مع الصراع منذ اللحظة الأولى على الأولوية في تملّك الورقة، منذ بدء فتح بعملها المسلّح، ثم بتسهيل المرور إلى جنوب لبنان بعد أيلول الأسود الأردني في عام 1970، واجتياح لبنان للجم منظّمة التحرير والحركة الوطنية اللبنانية، ثمْ التحوّل إلى إقامة دائمة.. مروراً بمعارك طرابلس اللاحقة وتصفية وجود المنظمة عملياً هناك. الابتزاز كان صفة السياسة الخارجية الأبرز في عهد الأب. كان ونظامه يبتزّان طرفاً معيّناً عن طريق تنشيط الطرف المقابل، وأحياناً «تشغيله». كأن يستخدم القوى الفلسطينية، أو قدرته على تهدئتها والتأثير في مواقفها، في معاركه العديدة هنا وهناك؛ أو يستخدم «حزب الله» لتوجيه مسار سياساته في لبنان، أو الضغط على الغرب، أو على دول الخليج. تلك كانت من بين أوراق» الأب – البطريرك»، التي احتفظ الديكتاتور الابن بما يستطيع منها، مع احتفاظه بحرس أبيه القديم المختصّ في تلك السياسات، ولو لفترة من الزمن. بين ذلك أهم سلاح متغيّر وكالحٍ للنظام، كان وما زال «الإرهاب»، أو التشدّد أو كلّ ما يخيف ويحرج الأطراف الأخرى؛ حيث انتبه إلى أهميتها ووجّه اهتمامه إلى احتضان قواها المتعدّدة، إضافةً إلى حزب الله، وحزب العمال الكردستاني والجيش الأرمني وكارلوس وتشكيلة عريضة منها. في عام 2003، قام بتوجيه وتسهيل انتقال «المقاتلين» الإسلاميين إلى العراق مثلاً، ثمّ اعتقل معظمهم عند عودتهم. كان بينهم شريحة من عناصر «القاعدة»، أو ممّن حولها. الابتزاز في هذا الحقل اختصاص رهيب وجريء اعتمده الأسد الأب والابن، تجارةً رابحة يشغّلانها في الاتّجاهين: من خلال تأثيرها التخريبي، أو بتسليم قواها أو لجمها، حسب واقع الحال. أصبح النظام معتمداً كوكيل في هذه الحالات، وكمتنفّس لما تحتاجه القوى الدولية من أعمال «غير مشروعة» أحياناً، اكتسب استمراريّته أحياناً من هذه المصادر. أولئك الإسلاميّون المتشدّدون المتنوعون الذين اعتقلهم النظام على مراحل عدّة مثلاً، أطلقهم بشار الأسد في مايو 2011، مدركاً أن تطرّفهم ولجوءهم للسلاح، طريق ممتاز لتأكيد كون الثوّار عليه «إرهابيون». كان يذكر أحداث في الحادي عشر من سبتمبر في معظم مقابلاته ذلك العام، استجداءً للدعم والتأييد أو تحريضاً على الثوار ومعركة التغيير.

أوراقه الحالية – التي يُحتمل أن لها دوراً في انعطاف بعض «الخارج» نحوه حالياً – بالية وشفافة، يراها الجالس أمامه على «طاولة اللعب بالورق»، ويبدو «وجه لاعب البوكر» الجامد الذي يرتديه من غير فائدة. لكنّ الآخرين يمشون في اللعبة المكشوفة حتى الآن. لا يمكن أن تكون من بين هذه الأوراق علاقته مع روسيا ولا إيران، حتّى يكون له دور في النزاع الدولي مع الأولى حالياً حول حربها على أوكرانيا، أو مع الثانية في ما يتعلّق بالاتّفاق النووي، أو تمدّدها في المنطقة من أدناها إلى أقصاها أيضاً. قد يضمن شيئاً من خلال الوجود الإيراني المباشر وغير المباشر، وتمدّده حتى أصبح أقوى من النظام نفسه. قد يضمن أيضاً شيئاً من ذلك بالوجود الروسي المسلّح والمشرَّع باتفاقات وقوانين تكاد تكون مؤبّدة. لكنه لا يحصد بالمقابل إلّا الاستضعاف والاستلحاق، وإلّا حاجة الطرفين لوجوده ولو كان هشّاً وبالحدود الدنيا. وبالنتيجة هو عاجز عن استرضاء الغرب بإبداء الاستعداد لإخراج الإيرانيين أو الروس، ولا يخرج من حنجرته المخنوقة، إلّا كلمات تتعلّق بخروج الأتراك. هنالك ورقتان تستجلبان له غالباً هذا الإقبال على التطبيع معه:

أولاهما الاستفادة من النموذجين الروسي والإيراني وعقد اتفاقات «قانونية» تضمن رأس جسر وموقعا في المستقبل، وفي ملكية ذلك البلد الذي حوّله الأسد والقوى الخارجية إلى ما يشبه الأشلاء. تبقى لسوريا مكانتها الجيواستراتيجية المهمة في أي ظرف وشرط رغم كلّ شيء، كذلك إن لإمكانيات تنشيطها اقتصادياً في مشاريع رابحة دوراً ربّما يتخيّله المهرولون المتسابقون.

وثانيتهما حجز موقع متميّز في إعادة الإعمار بثمارها المغرية، التي ستأتي حتماً في وقت لاحقٍ ما، بعد أن استنفد الصراع نفسه حتى الثمالة، وحين يكون لدى العالم بعض وقت في زحمة الاهتمام بالتوتّر في أوروبا/ أوكرانيا مع روسيا، والتوتّر في الشرق الأقصى مع الصين.

وسوم: العدد 1026