المجالس العسكرية التي حكمت سورية، مجلس حسني الزعيم

ddgfsg1036.jpg

إن الحديث عن المجالس العسكرية وقادة هذه المجالس التي حكمت سورية ذات شجون، وهي تحمل في طياتها الآلام والأحزان والتخلف والإرهاب والعذابات والمرارات والظلم والغدر والقهر والصراعات الطائفية والعنصرية، وقد جرّت المجالس العسكرية هذه البلاد إلى الخراب والدمار ومستنقع الدماء والهجرة والنزوح الذي تعيشه سورية اليوم.

خرج من سورية آخر جندي فرنسي في السابع عشر من نيسان عام 1946 بعد احتلال مقيت وسنين عجاف دام نحو خمس وعشرين سنة، ولم يترك الجيش الفرصة للحكم المدني الدستوري الديمقراطي المنتخب من قبل الشعب أكثر من ثلاث سنوات؛ لينقض عليه فجر الثلاثين من آذار 1949، حيث شهدت شوارع دمشق–وأنا شاهد عيان-منظراً غير مألوف؛ دبابات وعربات مدرعة ترابط حول المباني الحكومية، يطل من أبراجها جنود يضعون الخوذ الحديدية على رؤوسهم، متأبطين بنادقهم وأصابعهم على الزناد، وكأنهم في مواجهة عدو محتمل وليسوا في مواجهة شعب فيهم الأب والابن والأخ والعم والخال والصديق والجار.

لقد احتل هؤلاء الجنود ليس المرتفعات السورية المحتلة؛ بل مبنى الإذاعة ومفارق الطرق والوزارات والأبنية الحكومية والساحات العامة، والناس مشدوهين مما يرون بين مكذب ومصدق.

لقد اجتمع قائد الانقلاب الزعيم حسني الزعيم في ليل بهيم بمجموعة من الضباط الذين شكلوا معاً "المجلس العسكري" ويضم كلاً من الضباط:

قائد الجيش العام حسني الزعيم، وقائد اللواء الثاني المقدم محمد صفا، وقائد اللواء الأول العقيد سامي الحناوي، وآمر سلاح الطيران العقيد صلاح خانكان، وآمر المدفعية المقدم كرو مانوكيان، وقائد اللواء الثالث العقيد فوزي سلو، ومعاون آمر اللواء المقدم أديب حسام الدين عابدين، ومعاون رئيس الأركان المقدم بهيج كلاس، ورئيس شعبة العمليات الرئيس (النقيب) عدنان المالكي، ومعاون آمر اللواء الأول المقدم عمر خان تمر، وآمر كتيبة الفرسان الأولى المقدم محمود ظبيان، وآمر فوج المشاة الأول محمود شوكت، وآمر فوج المشاة الثاني الرئيس فؤاد الأسود، وآمر فوج المدفعية الثالث الرئيس باسيل صوايا، وآمر كتيبة الفرسان الثانية المقدم جميل ماميش، وآمر الفوج الكردي الرئيس قوطرش، وآمر المشاة الخامس الرئيس موفق القدسي، وآمر الفوج المشاة الرابع الرئيس مورا، وآمر فوج المدرعات الثالث الرئيس شوان، وآمر فوج الشرطة العسكرية الرئيس إبراهيم الحسني، وآمر فوج المدفعية الأول الرئيس ستانيس.

وخرج هذا المجلس علينا في فجر يوم الأربعاء 30 آذار 1949 ببيانه الأول عبر إذاعة دمشق بالبلاغ العسكري الأول وجاء فيه:

"لقد رأى الجيش السوري ما آلت إليه حالة البلاد الراهنة من تخبط وميوعة وفوضى واستئثار وخذلان، ووجد العهد مليئاً بالمساوئ والمخازي من خيانات وسرقات وقضاء على الحريات الديمقراطية إلى مخالفة الدستور والقوانين، لقد رأى الجيش كل ذلك، وأيقن أن الأمة تسير بخطى متسارعة نحو الموت والفناء، فأبت عليه وطنيته وكرامته أن يقف مكتوف الأيدي، فصمم على هذا الموقف الشريف وتدخل ليعيد الأمور إلى نصابها، وقد تم ذلك في هذا الانقلاب المجيد دون إراقة نقطة دم ودون إطلاق رصاصة واحدة، واليوم ستتألف حكومة قومية ديمقراطية تنقذ البلاد من أهوال الأوضاع الماضية، وتؤمن للشعب جواً هادئاً ليتمتع بحرياته الدستورية، وتضمن له مستوى رفيعاً، اليوم شقت الطريق أمام الشعب العربي في سورية ليسير قدماً إلى الأمام لتحقيق رسالته الخالدة".

وصدرت بعد ذلك سلسلة من البيانات والبلاغات، تحدثت عن منع التجول ودعوة الأهلين للهدوء وفرض عقوبة الإعدام بحق من يحمل السلاح أو من تسول له نفسه من الباعة الغش أو الاحتكار أو رفع الأسعار، ودعوة الموظفين للعودة إلى أعمالهم، وصدر مرسوم بحل مجلس النواب، بعد اعتقال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ليطل بعد ذلك رئيس الأركان (حسني الزعيم) على المسرح السياسي لأول مرة، مصرحاً بأن أمن البلاد أصبح من الآن فصاعداً بيد الجيش.

من هو حسني الزعيم قائد الانقلاب؟

الزعيم حسني الزعيم هم الضابط المغامر الذي قاد الانقلاب الأول في سورية، وهو أول من سنَّ سنة سيئة ستظل تلاحقه لعنات السوريين حتى في قبره، وقد دفع سورية إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية والانتفاضات والتمردات، والتي جرّت على سورية الويلات والتناحر والتصارع وظهور الطائفية البغيضة، والتخلف عن الأمم التي استقلت بعدنا.

وقد غيبت هذه الانقلابات الديمقراطية والتعددية الحزبية، وحجبت الصحافة الحرة، وطغت السلطة التنفيذية على غيرها من السلطات، وقمعت الجماهير، وسلبت الثروات ووضعت أيديها على ما تختزنه أرضنا من ثروات هائلة حبا الله بلادنا بها، وحرم الشعب من التنعم بها، وخرّبت القاعدة الصناعية المتقدمة والمتطورة والتي كانت تنافس الغرب والشرق بجودتها ومتانتها، وأوقفت عجلة التقدم العلمي والتطور الحضاري الذي كانت تفخر به سورية، وكان السمة التي تميزت بها بين أقرانها في دول العالم الثالث.

هذا الضابط المغامر الذي قلب سورية رأساً على عقب هو حسني الزعيم الذي ولد في حلب عام 1889، وكان والده مفتياً للجيش العثماني، ودرس في تركيا فاعتقله الإنكليز في الحرب العالمية الأولى، ثم تطوع في الجيش الفيصلي الذي دخل دمشق وحارب الأتراك، وفي عهد الانتداب الفرنسي تطوع في الجيش الفرنسي وتابع علومه العسكرية في باريس، وبعد وصول قوات فيشي إلى سورية انضم إليهم وحارب الديجوليين، وعند انتصار الديجوليين على الفيشيين بمساعدة الانجليز سنة 1941 اعتقل بتهمة الاستيلاء على أموال الجيش فأنكر ذلك واتهم الثوار السوريين بسرقة أموال الجيش، وعند محاكمته من قبل الفرنسيين ثبتت التهمة بحقه، فسيق إلى سجن الرمل في بيروت لتنفيذ حكم المحكمة، والتي قضت عليه بالسجن خمس سنوات.

أطلق سراح الزعيم قبل انتهاء محكوميته في السابع عشر من آب 1943 بمناسبة إعلان استقلال سورية، وسرح من الجيش برتبة عقيد.

منذ عام 1945 ظل يترد على السياسيين وأعضاء مجلس النواب لإعادته إلى الجيش، فأعيد إلى الجيش وعين رئيساً للمحكمة العسكرية في دير الزور، ثم نقل إلى دمشق مديراً لقوى الأمن، وفي أيلول 1948 أصدر رئيس الجمهورية شكري القوتلي مرسوماً بتعيين الزعيم قائداً للجيش بعد ترفيعه إلى رتبة زعيم (عقيد).

عُرف عن الزعيم إدمانه على الكحول، ولعب القمار، ومعاشرة المومسات وبنات الهوى، وحب الظهور والمغامرة بصورة مسرحية ملفتة للنظر، أصيب بمرض السكري الذي جعله عصبي المزاج متهوراً في تصرفاته.

كان الزعيم منذ صغره تواقاً للسلطة، وكان مما روي عنه قوله: "ليتني أحكم سورية يوماً ثم أقتل"، وقد استجاب الله لأمنيته فقتل بعد أشهر من استيلائه على الحكم.

وبدعم من العقيد "أديب الشيشكلي" وبقيادة العقيد "سامي الحناوي"، تم تدبير انقلاب عسكري في أغسطس/آب 1949 ضد حسني الزعيم؛ حيث سقط صيدا سهلا أمام هؤلاء دون مقاومة تُذكَر، بل تواطأ حُرَّاسه على تسليمه لأعدائه. وفي صبيحة يوم 14 أغسطس/آب قرروا إعدام حسني الزعيم ورئيس وزرائه "محسن البرازي"، وأرسل العقيد الشيشكلي للأميركيين يقول لهم: "إننا نقدم لكم خدمة بمعاملة حسني الزعيم كعميل فرنسي لا كعميل أمريكي"؛ لأن حسني الزعيم دُفن في المقبرة الفرنسية، ثم انتخب البرلمان السوري "هاشم الأتاسي" رئيسا شكليا للبلاد واستلم العسكر السلطة. وبذلك انتهى حسني الزعيم وانقلابه الأول من نوعه في سورية، لكن تسعة عشر انقلابا تبعه في البلاد حتى انقلاب حافظ الأسد عام 1970، وتخضَّبت فيها سورية بالدماء والتقلُّبات السياسية والاجتماعية والطائفية العاصفة، كما فُتح الباب على مصراعيه منذ ذلك الحين أمام الانقلابات العسكرية في العالم العربي.

تحدث (مايلز كوبلاند) في كتابه (لعبة الأمم) عن انقلاب حسني الزعيم فقال: "كان انقلاب حسني الزعيم من إعدادنا وتخطيطنا، فقد قام فريق العمل السياسي بإدارة الميجر (ميد) بإقامة علاقات صداقة منتظمة مع حسني الزعيم ومن خلال هذه الصداقة أوحى الميجر ميد لحسني الزعيم بفكرة القيام بانقلاب عسكري وضعت السفارة كامل خطته.

وكالة تاس السوفيتية قالت عن انقلاب حسني الزعيم هو من تدبير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون مع السفارة الفرنسية في دمشق.

وجاء في مذكرات رئيس الأركان الأردني اللواء علي أبو نوار قوله: "إن نفاذ المخابرات المركزية الأمريكية إلى حسني الزعيم ورهطه أدخل السوريين على الساحة السياسية القديمة والجديدة في خدمتهم، وظهور الديكتاتوريات العسكرية كبديل مقبول بدلاً من الديمقراطية البرلمانية".

  

المصدر

 

*مذكرات خالد العظم-186-188/2

*الحياة السياسية في سورية-عهد الاستقلال-166-محمد فاروق الإمام

*كتاب حزب البعث-مصطفى دندشلي-ص(123).

*صحيفة العرب اليوم الأردنية-مذكرات الحوراني-العدد 16/7/1997.

*الجزيرة-22/4/2022

*كتاب لعبة الأمم-مايلز كوبلاند-ص49/1969.

*كتاب التحدي والمواجهة-وليد المعلم-ص103.

*وكالة الأنباء السوفيتية-بيروت 21 آب 1949.

*جريدة القبس الكويتية-عدد 5967 تاريخ 21/10/1989.

وسوم: العدد 1036