خلافات أميركا مع إسرائيل ثانوية ولن تؤدي إلى تخليها عنها

يتفاءل بعضنا بالخلافات الحالية بين أميركا وإسرائيل ، ويأمل أن تفضي إلى قطيعة نهائية تضعف إسرائيل ، وتهيء لزوالها . ويبررون تفاؤلهم بعدم دعوة البيت الأبيض نتنياهو للقاء بايدن بعد ستة أشهر من تشكيل حكومته ؛ لاستياء بايدن من انقلاب هذه الحكومة على النظام القضائي الإسرائيلي ، ومن عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين ، والتوسع الاستيطاني المتسارع ، ويضيفون وإن بصورة عابرة إلى ما سبق استياء أميركا من زيارة نتنياهو المنتظرة إلى الصين . وكل هذه الخلافات ثانوية في نظر أميركا ، وتافهة جدا في نظر إسرائيل ، ولا تتجاوز كونها خلافات بين حليفين يعرفان قيمة كل واحد منهما للآخر ، وطبعا قيمة أميركا لإسرائيل أكثر أهمية وحيوية من قيمة إسرائيل لأميركا . القيمة الأولى هي الفرق بين الحياة والموت . لا عيش لإسرائيل دون الحماية الأميركية العسكرية والسياسية والمالية والدبلوماسية . وفي الانقلاب القضائي ، تستطيع أميركا أن تقول إنه شأن إسرائيلي داخلي ، وبدأ نتنياهو يجنح إلى التهدئة فيه بالابتعاد عن المس بمكانة المحكمة العليا ، والاكتفاء بتحديد صلاحية المستشارين القانونيين ، وتحديد مدة عملهم . وأميركا ذاتها ليست حجة في الديمقراطية ، وصدق ريتشارد هاس الرئيس الأسبق للمجلس الأميركي للعلاقات الخارجية حين قال أمس في مقابلة مع " نيويورك تايمز: "  أميركا باتت أكبر مصدر للمشكلات في العالم ، ومثالا مرتابا  فيه للديمقراطية " . والاستياء الأميركي من عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين ومن التوسع الاستيطاني زائف كاذب ، ولو كان جادا حقيقيا لأوقف العنف ، والاستيطان أو على الأقل لخفف من تكاثره وتسارعه . إسرائيل تمتنع عما تريد فعله إن خافت ردعا حقيقيا . وفي الأيام الأخيرة امتنعت عن مهاجمة الموقعين اللذين أنشأهما حزب الله في تلال  كفر شوبا . في البداية هددت بمهاجمتهما إن لم يزلهما الحزب ، وحين لم يستجب  لم تنفذ تهديدها ، وفسرت عدم تنفيذه بأنه لا خطر أمنيا منهما ، وسخر منها الحزب " إما أن تحارب أو تتضبضب . " ، ف " تضبضبت " مؤثرة السلامة على الندامة التي خبرتها سالفا في معاركها معه . ودعت أميركا رئيس إسرائيل هيرتزوج لزيارتها بعد أسبوعين ، ودعوتها له تنفي أي استياء حقيقي من إسرائيل ، وهي ضمنا دعوة لنتنياهو ، وكل ما يريد أن يناقشه نتنياهو في البيت الأبيض سيناقشه هيرتزوج وفريقه وبتكليف من نتنياهو . إسرائيل على كل حال تظل دولة مؤسسات تعمل كلها بروح الفريق الواحد  لما فيه مصلحة هذه الدولة . خلافاتهم ليست خلافات فلسطينية أو عربية تحرق الأخضر واليابس ، وتهلك كل المختلفين ، وإذا انتصر فيها أحدهم كان انتصاره صورة من صور الهزيمة للوطن  . ولا مشكلة ولا قلق لدى أميركا من زيارة نتنياهو للصين . الصين لن تخطف العشيقة الإسرائيلية من العشيق الأميركي ، ومؤخرا زار بلينكن الصين ، وأميركا أذنت للرياض ولدول خليجية بتحسين علاقاتها مع الصين ، واتسعت سماحة الإذن بالموافقة على رعاية الصين لمجريات استئناف العلاقات بين الرياض وطهران . تقلصت   في العالم علاقات " بينهما ما صنع الحداد " أو علاقات الخلاف الناري الدائم ، سيفي سيفك . أي " سأرفع عليك سيفي إن رفعت علي سيفك " . واستعدت إسرائيل مبكرا نسبيا لاتساع النفوذ الصيني في العالم ، فبنت " القرية الصينية " ، وفيها يدرس أطفال صغار اللغة الصينية ، ويتعرفون على ثقافة الصين وتاريخها تدريجيا مع نمو أعمارهم ليكونوا في المستقبل قادرين على خدمة مصالح إسرائيل بفاعلية مؤثرة مع العملاق الصاعد الذي قد يتجاوز عالم  تعدد الأقطاب الذي يطالب به الآن مع روسيا وعدد من دول العالم ؛ ليصبح  القطب الأوحد ، " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ، سنة الله _ عز وجل _ في كونه وشئون خلقه ، ولا محيد عنها ، وإن جهلتها دول ، وغرها حلم ووهم ديمومة قوتها وهيمنتها مثلما تحلم أميركا وتتوهم  وتكابر.  

وتاريخيا ، قرر زعماء الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر حين لاحت بشائر الصعود الأميركي أن يستغلوا أميركا في إنجاز مطامعهم  القومية ، وهو ما فازوا فيه ، فطوعوها بعد انحسار الامبراطورية البريطانية التي خطفوا منها وعد بلفور في حماية مشروعهم ودولتهم تطويعا كاملا اختزله شارون بقوله مزهوا : " نحن نحكم أميركا ، وهم يعلمون . " . وحين أغاثت أميركا دولتهم بعد أسبوع عصيب في حرب أكتوبر 1973 ، وانتشلتهم  من شفا هزيمة مقتربة ؛ قالت رئيسة وزرائهم جولدا مائير : " اتضح أن أميركا إلهنا لا صديقنا مثلما كنا نحسب . " . لا موجب لأي تفاؤل بقطيعة بين دولتين على هذا المستوى من الارتباط العضوي الوجودي الذي لا شبيه له في التاريخ ، وكل ما يطفو أحيانا على سطح هذا المستوى العالي المتين فقاعات خفيفة عاجلة التبدد والاختفاء . ويمكن تشبيه   إسرائيل وعدوانيتها التي  تسهلها لها هذه العلاقة بالجدي الذي كان يقف على تل ، فمر به أسد ، فانفجر يهدده بالفتك إن هو نزل إليه ، فرمقه الأسد بنظرة القوي الواثق من قوته ومن هوان ضعف المهدد ، وقال مستهزئا  : " لست أنت من يتكلم . التل هو الذي يتكلم . " .

وسوم: العدد 1039