أضاحي العيد وأصحاب المشاعر الرقيقة

«كل مذبحة وأنتم بخير، بعد قليل تُساق ملايين من الكائنات للمذبحة التاريخية التي يرتكبها الإنسان منذ أزيد من عشرة قرون، ويتوالى تكرارها كل عام وهو سعيد بذلك. مذبحة سنوية تتكرر بسبب كابوس باغت أحد الصالحين بشأن ولده الصالح، ورغم أن الكابوس مرّ بسلام على الرجل الصالح وولده وآله، إلا أن كائنات لا حول لها ولا قوة تدفع كل عام أرواحها وتُنحر أعناقها وتُهرق دماؤها دون جريرة ولا ذنب ثمنا لهذا الكابوس القدسي».

مرّ عليّ هذا المقطع الذي كتبته إحدى ذوات الأقلام العربية عدة سنوات، تعبيرا عن رقة مشاعرها وعدم تحمّلها إراقة دماء حيوانات الأضاحي، ولم تزل مناسبة النحر في كل عام تواكبها تصريحات على هذه الشاكلة لمثقفين وكتّاب عرب، لتصوّر هذه الشعيرة على أنها قسوة جماعية ضد الحيوانات البريئة، تتعارض مع المشاعر الإنسانية الرقيقة التي يفترض أن تكون بالبشر.

سوف نسلّم لأصحاب هذه الأقلام بأنهم يتحدثون بهذه اللهجة بدافع عاطفي، وأنه لا علاقة لهذا بالاعتراض على شعيرة دينية للمسلمين، لذلك سوف أتحدث بدوري عن عاطفتهم الجياشة هذه، ورقة مشاعرهم تجاه الحيوانات التي تذبح كل عام بغير ذنب، حسب تعبير بعضهم. أسأل أصحاب المشاعر الرقيقة: هل امتعاضكم لذبح الحيوانات بشكل عام؟ أم لضخامة الأعداد التي تذبح من الحيوانات يوم عيد الأضحى؟ فإن كان هذا الاستياء للذبح بشكل عام، فأنتم متناقضون، فاللحوم التي تأكلونها في المطاعم، وفي بيوتكم كانت حية تمشي على أربع، أم أنكم جميعا يا أصحاب المشاعر الرقيقة نباتيون لا تقربون اللحم؟ وإن كان هذا الاستياء لضخامة العدد، فمع الأسف أقول: أنتم متناقضون في هذا أيضا، فما يُذبح يوميا في أشهر المطاعم العالمية يفوق أعداد الأضاحي – التي تذبح في يوم في السنة ـ بكثير، فالأمة الإسلامية، كما تعلمون، معظم المنتمين إليها فقراء، والأضحية يقوم بها ميسورو الحال، وقد تجد في بعض الدول، الشارع الواحد الذي يضم عدة بيوت، لا يضحي فيه سوى شخص أو شخصين. فعلى سبيل المثال، مطاعم ماكدونالدز التي تقدم الطعام لحوالي 68 مليون مستهلك يوميا حول العالم، وفقا لموقع (Eat This, Not That)، تستهلك في أمريكا وحدها أكثر من ألفي طن من لحوم البقر. أما سلسلة مطاعم كنتاكي فحدث ولا حرج عن الملايين من الدجاج الذي يذبح يوميا، ليغطي حاجة ما يزيد عن عشرين ألف فرع في مختلف دول العالم. لكنّ هناك فارقا جوهريا، أن هذه الأعداد الضخمة من الحيوانات التي تقدم على موائد المطاعم، تكون من حظ الأثرياء الذين لن تؤثر مثل هذه الوجبات على ميزانياتهم، أما الأضاحي فإنها – وبلا مبالغة – حظ بعض الفقراء من اللحم طيلة العام، لا يكادون يدخلونه بيوتهم إلا في هذا اليوم، فهي فرصة عظيمة لتعميق وتعزيز الأواصر بين الناس، أغنياءهم وفقراءهم عن طريق الصدقة، وحتى جلود الأضاحي تجمعها الجمعيات الخيرية التي تبيعها وتنفق ثمنها في أعمال البر، وكذلك تقوي هذه الشعيرة – عن طريق التهادي – الأواصر بين الجيران والأقارب والأصدقاء.

ربما لا نرى ردة الفعل هذه من قِبل أصحاب القلوب الرقيقة، إذا ما تعلق ذبح الحيوانات بمناسبات اجتماعية أو قومية، هناك تبدو المشاعر الإنسانية على ما يرام، والضمير الإنساني لا يتعرض لأي نوع من الوخز. ومن أطرف ما وقعت عليه عيناي بهذا الصدد، نشر أحدهم تغريدة لإحدى الكاتبات من ذوات المشاعر الرقيقة، تشيد فيها بطقوس الاحتفالات بالسنة الأمازيعية في بلدها، وتتضمن ذبح وتوزيع اللحوم، مشيرة إلى ما يتضمنه ذلك من التلاحم الاجتماعي. ثم نشر للكاتبة نفسها تغريدة أخرى في مناسبة أخرى ـ عيد الأضحى – ترثي دموع الخرفان التي تذبح كأضاحٍ، وكيف أن تأثرها هي لذلك دفعها لأن تتصدق بثمن الأضحية، لتفر من إراقة الدماء.

الذبح لم تنفرد به الشريعة الإسلامية، فهو موجود في الشرائع السماوية الأخرى، فعند اليهود مثلا، هناك أكثر من مناسبة تقدم فيها القرابين بذبح الحيوانات، منها طقوس الكاباروت الذي يمارسه المتدينون عشية يوم الغفران، ويقال إن له أصلا في حضارة بابل، ويهدفون منه إلى تكفير الخطايا التي، وفق معتقدهم، تنتقل بشكل رمزي إلى الدجاج الذي يذبح، مع تلاوة بعض المزامير وفقرات من سفر أيوب. وحتى لدى الهندوس في نيبال، ينظم مهرجان «غادهيماي ميلا»، الذي يستمر لمدة يومين، وتذبح فيه مئات الآلاف من الحيوانات تقربا لإله القوة، معتقدين أن قتل الجاموس والماعز يجلب لهم الحظ، وإن كان هذا الاحتفال يلقى اعتراضا كبيرا.

والحدث الأظهر في هذا الشأن، هو احتفال الأمريكيين خواصهم وعوامهم بعيد الشكر في رابع خميس من شهر نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، وفيه يتم ذبح الديك الرومي كطقس أساس لهذا الاحتفال. وتشير تقارير إلى أن الأمريكيين يستهلكون أكثر من 45 مليون ديك رومي يوم احتفالية عيد الشكر، لكن لم نسمع عن ذوي القلوب الرقيقة لدينا يتأففون لهذه (المذبحة).

ينبغي لأصحاب القلوب الرقيقة ألا يكونوا انتقائيين في مشاعرهم، فلا يصح بأي حال من الأحوال أن تنحصر هذه الرقة والرحمة في ما يتعلق بشعائر دينية سمحة، يُجلّها المسلمون، وتحدث بها التوسعة على فقرائهم ومحتاجيهم، وتصويرهم لهذه الشعيرة على أنها مظهر من مظاهر القسوة، فيه من الظلم والتعدي والجور على المسلمين، وتعزيز لما يروج عنهم في الغرب من أنهم قوم دمويون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 1039