المنطق الفاسد للإيديولوجيا العلمانية يقودها حتما إلى الاندثار

بالرغم من أن مصطلح إيديولوجيا لم يستعمل إلا خلال ما يسمى بعصر التنوير، حيث كان أول من استعمله " دي تراسي " ، في كتابه عناصر الإيديولوجيا "، فإن التاريخ القديم، قد سجل وجود إيديولوجيات متعاقبة أو متزامنة ، والتي كانت في الغالب  متصارعة فيما بينها بسبب تزامنها  .وفي المقابل وجدت ديانات ، بعضها سماوي ، وبعضها  الآخر وضعي من وضع البشر، كما هو حال كل الديانات الوثنية ، علما بأن الديانات السماوية ، تختلف عن الدينات الوضعية حيث تندرج هذه الأخيرة  هي الأخرى تحت مسمى الإيديولوجيات ، بينما لا يسحب هذا الوصف على الديانات السماوية ، ذلك أن ما يطبخ بين البشر فيما بينهم من أفكارأو معتقدات، يبقى محصورا في حيز الأرض ، بينما أفكار ومعتقدات الديانات السماوية، تكون عبارة عن وحي مصدره السماء التي  ينزل منها إلى الأرض ، وبتعبير آخر هي أفكار ومعتقدات إلهية بالمعنى التوحيدي للألوهية ، توحى إلى البشر من أجل ضبط سلوكاتهم في الأرض قبل أن تنتهي حياتهم فوقها ، ويحين وقت رحيلهم إلى العالم العلوي، حيث كانت بداية البشر الأولى .

ومن أجل التمييز بين ما هو سماوي إلهي  ، وما هوأرضي بشري ، أو وضعي ، نعرف هذا الأخير كالتالي :

تعرف الإيديولوجيات ـ وهي من وضع البشرـ  بأنها أنساق فكرية أوعقدية توجه مجموعات بشرية كي تسلك في حياتها سلوكات معينة ، وهي تستعمل الأساليب العاطفية المؤثرة ، والمحركة لفئاتها  أو جماهيرها المستهدفة . ونظرا لأساليبها العاطفية ، فإنها مستعصية على الدراسات المعتمدة على البراهين العلمية  والمنطقية . والغالب على الإيديولوجيات، أنها توظف السلطة  السياسية من أجل فرض وجودها بالقوة وليس بالإقناع . وتلتقي الديانات الوضعية بالرغم من أن واضعيها يحاولون إضفاء الطابع الطقوسي عليها في أهدافها  مع الإيديولوجيات اللادينية الرافضة للطقوس.  

وإذا ما تأملنا منطق الإيديولوجيا العلمانية التي تقوم أساسا على فصل الدين عن الدنيا ، وترفع شعار اللادين ، وشعار الدولة المدنية، عوض الدولة الدينية ، نجده منطقا فاسدا ، لا يمكن قبوله لتطبيق برهنة منطقية أو علمية ، نظرا لشحناتها العاطفية المندفعة والمستعصية على تلك البراهين .

ولنمثل لهذا المنطق العلماني الفاسد بمقولة الحريات الفردية ، التي تدخل تحتها حرية المعتقد ، وحرية الجسد ، وحرية التعبير ... إلى غير ذلك مما يسمى حريات، وهي  متشظية عن تلك الأمهات  من الحريات . وفساد منطق الإيديولوجيا العلمانية بخصوص هذه الحريات، يكمن في اعتمادها ازدواج المكيال ،ذلك أنها تبيح لمن يدخل في دائرتها  ، وتحت سلطتها أن ينسلخ من الدين سواء كان سماويا أو كان وضعيا، ليعيش متحررا منه ، علما بأن تحرره هذا ، لا يجعله في مأمن من الوقوع تحت سلطتها أو لنقل تحت عبوديتها التي تحل محل سلطة الدين بما تشرعه من أخلاق ، ومعاملات لأتباعها ، وتكون هذه السلوكات والمعاملات في الغالب النقيض المقابل لما تشرعه الأديان من أخلاق ومعاملات . والفرد المتشبع بأفكار الإيديولوجيا العلمانية، يحقق حريته العقدية بتحرره من الأخلاق والقيم الدينية ، ولكنه في المقابل  ينكر على المتشبع بالأفكار الدينية حريته في التدين، بل أكثر من ذلك، يرى تدينه اعتداء على وجود إيديولوجيته العلمانية .

ولما كانت السلوكات تتولد عن القناعات دينا أو إيديولوجية ، فإن الفرد العلماني يرى على سبيل المثال أن سفور المرأة العلمانية ، ولباس سباحتها " البيكيني " يدخل ضمن ما يسميه حرية الجسد ، في حين لا يندرج عنده  حجاب المرأة المسلمة ، ولباس سباحتها : البوركيني " تحت هذه الحرية ،وهو يصرح بهذا دون أن يرى في ذلك ازدواج مكياله بخصوص لباس المرأة ، ذلك أن المرأة العلمانية عنده له حق التمتع بكامل حريتها في الكشف عن جسدها ، بينما لا حق  للمرأة المسلمة  في  مثل هذه الحرية ، وهذا ما يجعل منطق الإيديولوجيا العلمانية  منطقا فاسدا فسادا صارخا .

وفرنسا أنسب مثال للبلد العلماني الذي يكيل بمكيالين بخصوص لباس المرأة، مع أنه يتبجح بالدفاع عن الحريات الفردية بما في ذلك حرية المعتقد ، وحرية الجسد ، وحرية التعبير ، بينما لا يسمح بحرية اعتقاد أو حرية جسد المرأة المسلمة سواء كانت فرنسية أو مقيمة في فرنسا ، ولا يسمح بممارسة حريتها في التعبير عن حريتها في ذلك ، بل أكثر من ذلك يعتبر مطالبتها بحرياتها  تهديدا للإيديولوجيا العلمانية . وليست قضية الخلاف حول لباس المرأة بين الإيديولوجيا العلمانية ، وبين دين الإسلام سوى وجه من وجوه الخلاف المتعددة  بينهما فيما يترتب من سلوكات الناتجة عن تأثير أفكار كل منهما

ولا شك أن الإيديولوجيا العلمانية بفساد منطقها المعتمد على ازدواجية المكيال يفضي بها لا محالة إلى الزوال والأندثار، بسبب فشلها في التعايش مع أنساق فكرية مخالفة لأنساق فكرها ،وبسبب فشلها في قبول البدائل عنها ، بما في ذلك الإسلام  كشريك لها  تتعايش معه. وكل منطق مهما كان يقيم وجوده على  أساس نفي  منطق مخالف له ، يكون في الحقيقة هو من يهدم نفسه بنفسه .

وقد يعترض الفرد العلماني على وصف منطق إيديولوجيته العلمانية بالمنطق الفاسد ، علما بأنه يسمح لنفسه بوصف المنطق الإسلامي بكل النعوت القدحية ، لكن الواقع الذي هو ساحة التطبيق والأجرأة ، والبرهنة المنطقية يشهد على ذلك .

ولقد جعلت الإيديولوجيا العلمانية من الإسلام تحديدا خصما وعدوا لها ، وحاربته فوق أراضيها ، ولم تقف عند هذا الحد، بل غزته في  عقر دياره حيث أوعزت إلى طوابيرها الخامسة المستأجرة ،النيابة عنها في إدارة صراعها معه ، وقد شكلت تلك الطوابير شرائح محسوبة على الإسلام ظاهريا ، لكنها  في الباطن متشبعة بالفكر العلماني ، وقد جعلت شغلها  اليومي الشاغل، هو محاولة هدم القيم الإسلامية على أكثر من صعيد من أجل بلوغ غاية استبدال الهوية الإسلامية بهوية علمانية . وذهبت طوابير العلمانية الخامسة بعيدا في التجاسر على مصادر الإسلام الرئيسة قرآنا وحديثا ، وأثارت الزوابع حول مصداقية المشتغلين بهما قديما وحديثا ، ونفت عنهم الاختصاص فيهما، والعلم والمعرفة بهما ، وبدأت تقترح بدائلها المنحرفة زاعمة أنها تروم تجديد فهم مصدري الإسلام الرئيسين ، وهي في حقيقة الأمر إنما تعطيلهما كي يخلو الجو لسيطرة الإيديولوجيا العلمانية ، وليسود منطقها الفاسد ، والاستئصالي، والإقصائي ، وهو هدف وهمي وخرافي ، لا يمكن أن يتحقق أبدا .

وفي المقابل لا يتبنى الإسلام النهج الإقصائي والاستئصالي للإيديولوجية العلمانية كما تفعل هي ذلك معه ، وهو يعتمد المنطق الواقعي الذي يمثلها شعار (( لكم دينكم ولي دين )) ، وشعار : (( لا إكراه في الدين ))، بينما يوجد إكراه واضح وصارخ لفرض العلمانية الاستئصالية والإقصائية ،كما يشهد  على ذلك الواقع المعيش ، وحسبنا أن نشير إلى  واقع النموذج العلماني الفرنسي ، وما هو منا ببعيد .

وطالما أن العلمانية الغربية ، وأذنابها المستأجرة  في بلاد الإسلام، يسيرون في نهج إقصاء الإسلام ، فإنهم لا يزيدونه إلا قوة إلى قوته، نظرا لما يتمتع به منطقه الصحيح من قوة هي التي تجعل رعايا العلمانية، يقبلون عليه بنسب صارت مقلقة للعلمانية ، لهذا تريد نقل صراعها مع الإسلام من ساحاتها إلى الساحات الإسلامية وفق المنطق القائل : " أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم " ناسية أن الإسلام يحمل في ذاته عناصر بقائه ، وانتشاره بفضل سداد منطقه ، وأنها في المقابل  تحمل في ذاتها عناصر انحصارها واندثارها ، ونهايتها بسبب فساد منطقها الذي تحكمه ازدواجية المكيال التي لا يقبله عقل سليم ، والتي هي نتيجة الاندفاع العاطفي .

وسوم: العدد 1041