إذا كانت القدرية ضلال.. فالجبرية تدمير وخراب وشلل وهزيمة وانحطاط وتخلف وذهاب ريح.. وفي صميم السياسة أكتب

والقول بالجبر هو أكثر ما دمّر أمتنا، وأزاح حضارتنا، ثما ثورتنا التي رواها الجادون بدمائهم..

وتقابل في تاريخ الأمة عنوانان: القدرية والجبرية، واندحر الأول، وساد الثاني في واقع الناس، وما يزال بهم حتى أثخنهم وما يزال!!

وعنوان "القدرية" عنوان يفيد عكس مدلوله، فالقدرية في تاريخ الفرق الكلامية الموصوفة بالإسلامية، هم نفاة القدر. الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أُنُف. أي كل عامل وما اختار لنفسه من عمل بإرادته الحرة، المنفصلة عن إرادة الله -تعالى الله- وأن الله لم يكتب شيئا على العباد، لأنه لو كتب ثم حاسب لظلم، -سبحانه- هذا قول القدرية عموما وأهل الاعتزال خصوصا، ومن هنا سموا أنفسهم "أهل العدل والتوحيد" أهلَ العدل بنفي القدر، وأهلَ التوحيد، بنفي الصفات الزائدة على الذات، من حياة وقدرة وإرادة وعلم وسمع وبصر وكلام..

نعود لنختصر: وعلى الضفة الأخرى من "نفاة القدر" كان "أهل الجبر" والجبرية عنوان يتبرأ منه الكثيرون ظاهرا، ويتلبسون به حقيقة وطريقة ومذهبا ومشربا، وكان لهذا المذهب، دوره في تدمير الأمة، وفي إبعادها عن مراقي الفلاح، إلى أعماق الزوايا والتكايا وأهل التنبلة من لابسي الخرقة، وشراق المرقة..

وأقول وكذا كان لهم أثرهم في تدمير ثورات الربيع العربي، وخاصة الثورة السورية..

ويتكئ على أريكته، ويمرر سواكه على أسنانه؛ ويقول جازما ويدّعي متفائلا: الله ناصرنا.. وأقول له كذبت: الله ناصرنا ما نصرناه، وما أصدقه من قائل (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) وكم كذبوا على الناس حين حكوا للناس أن نصرة الله تكون بالسواك، وليسوا بما استطاعوا من قوة، ومن رباط خيل..

نقلت لكم بالأمس قول أحدهم بالفم الملآن على العرندس ينادي على الناس في القرن الحادي والعشرين: لا تتعنوا في طلب الرزق، رزقكم سيأتيكم..!!

وكأني بما أعيش من أسى أسمعه يقول: لا تعدوا لطلب النصر فالله ناصركم!!

بالمناسبة، قائل هذا الكلام سلفي، بل علم السلفية عند قومه..وعند جمهوره المعدود بالآلاف.. رجل يقول فيُسمع لقوله!!

ثم ينشدون ويترنمون بلغة الصوفية:

لا تدبر لك أمرا فأولو التدبير هلكى

سلم الأمر إلينـــــــــــا

نحن أولى بك منكا

ونتمطق بحكاية:

قالوا: ندعو لك الطبيب؟ قال الطبيب أمرضني.

وسيد الخلق كان يتداوى بطب قومه. كما تروي السيد عائشة، وهذه على الطريق وأنا أشهد أن محمدا رسول الله، أرسله الله للخلق أجمعين بشيرا ونذيرا وهاديا ولم يرسله:طبيبا. في الرواية عن سيدتنا ام المؤمنين عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتطبب بطب قومه.. تعني من أطباء العرب ونحوهم، لعلكم تتأملون.. فتعفوا وتكفوا..

"القدرية" بكل ما فيها من ضلال ونكران، تولت من حياة المسلمين..طوت أعلامها وولت، انتصر إمام أهل السنة، ولفلف ابن أبي دؤاد رايته، ورحم الله أمير المؤمنين الواثق، يقولون إنه أراد أن يكون لبني العباس- رضي الله عن العباس- كعمر بن عبد العزيز لبني أمية..

أما الجبرية المدمرة المحبطة، فقد أصبحت حالا ومقاما وسلوكا وراهنا مجتمعيا يسوس الأمة ويسوقها إلى حتفها..

صحيح سيدي عبد القادر الكيلاني -رحمه الله تعالى-قال: نارعوا الأقدار بالأقدار، وصحيح أن سيدي عمر بن الخطاب ومعه السواد الأعظم من الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين- قالوا: "نفر من قدر إلى قدر الله.."

ولكن عقيدة الجبر المدمرة القاتلة المبيرة؛ هي التي تملكت سواد هذه الأمة وما تزال!!. والقاسم المشترك الأعظم بين العقلين- "السلفي والصوفي" في هذا الجبر المبير المقيت.

وهذا شيخ السلفية على منبره بالأمس ينادي على الناس: لا تتعنوا في طلب الرزق؛ فالرزق آتيكم، ويتلو (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ...)

يقول زهير..

قال (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ) ليخبركم أن عليكم أن تتعنوا وتجهدوا وتعملوا حتى تصلوا إليه، فيكون في الأرض، وقال (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ) ولم يقل تحت وسادتكم…

في المروي عن عمر رضي الله عن عمر: لا يقعدنّ أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة!!

أنا لا أتكلم عن رزق في هذا المقام، على أهمية كل جهد لكل كسب، وإنما أتكلم عن نصر، وعن ثورة أجهضها "أهل الجبر" من الملامتية ونزلاء التكايا.. التكايا وليس الرُّبط، وهل كانت الرُّبط إلا قواعد للحماية والنكاية..التي لا تعلمون!!

لا يهمني قول الأشعري في الكسب، ولا قول أبي منصور الماتريدي في الإرادة بين الإرادتين..ورحم الله الإمامين

وأؤمن أن الله سبحانه وتعالى خلقني وقدر عليّ وكلّفني. والعلاقة بين قدره وتكليفه، مما يخفى عليّ. وأؤمن أن النصر من عند الله، وأن الله يعذب أعداءه بيديّ، ويرميهم بسهمي.

وأؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى، إيمانا لا ينشئ جبرا، ولا يستتبع تواكلا، ولا يقتضي استسلاما، وأدفع الأقدار بالأقدار ودائما أصير إلى ما كتب الله لي وعليً. وأفرُّ من الله إليه، ولا أقيس بعقلي القليل علاقتي بالله على علاقتي بالبشر، وأؤمن أن القدر فعل الله، وأن الله واحد في أفعاله كما هو واحد في ذاته وفي صفاته!!

وفروا من أهل الجبر كما تفرون من المجذوم، وفروا من المجذوم كما تفرون من الأسد!!

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1045