حرب المصطلحات فرع من الحرب على الشريعة الإسلامية

كَشفَ فتحُ المجال أمام الأحزاب السياسية، والجمعيات، ومختلف الهيئات، والفعاليات، لبسط تصوراتها واقتراحاتها في شأن تعديل مدونة الأسرة، عن توجهين أساسين حسب طبيعة التعديلات المستهدفة، بحيث ينطلق الفريق المناصر لأحدهما من مرجعية الشريعة الإسلامية، على اعتبار أنها ركيزة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاوزها، في تنظيم الأحوال الشخصية للمغاربة، لسبب رئيسي هو كون الإسلام دين الدولة بنص الدستور، فيما ينطلق الفريق المدافع عن التوجه الثاني مما يسمى زورا المرجعية "الكونية"، وهي المرجعية التي تولَّت الأمم المتحدة فرض "قوانينها" على دول العالم الثالث بالخصوص، وعلى رأسها الدول العربية والإسلامية، علما أن المغرب من بين دولها الأكثر استهدافا، وذلك باعتماد آليات الضغط التي أصبحت بادية لكل مهتم بالموضوع. وما يهمني في هذا المقال هو الكشف عن المنطق الذي يحكم الخلاف بين التوجهين، والآليات التي يعتمدها الفريق الثاني بالأساس، لإحلال توجهه محل التوجه السائد، الذي هو توجه الفريق الأول، علما بأن الأفكار التي يدافع عنها دخيلة عن المجتمع المغربي.

ففيما يتعلق بالمنطق السائد لدى الطرفين، فيمكن تلخيصه في قاعدة الثالث المرفوع، ذلك أن المتأمل في مطالب كل من الفريقين، يستنتج دون كبير عناء، بأن سيادة إحدى المرجعيتين تقتضي بالضرورة إلغاء المرجعية الأخرى، والعكس بالعكس، أما الجَمعُ بينهما، أو إيجاد حل وسط، فلا يعدو أن يكون ذَرًّا للرماد في الأعين، واسترضاء لجهات معينة، مسنودا في ذلك ببعض الأصوات التي تتخذ من التخلي العملي عن مجموعة من أحكام الشريعة الإسلامية لصالح القوانين الوضعية، بضغط من الاستعمار الغربي مبررا لتعايش التوجهين، وهذا ما لا يستقيم عقلا ولا شرعا، ذلك أن التعامل بالربا في الواقع على سبيل المثال، لا يعني أن هناك توافق بين الحكم الشرعي بخصوصه، وبين النظام الاقتصادي الذي يُقر باعتماده في الواقع، وإنما يدل على فتورٍ في عزيمة المسلمين، وعدم جديتهم في إيجاد نظام اقتصادي مستمَد من شريعتهم، مما اضطرهم إلى استهلاك المنتوج الغربي، بغض النظر عن عواقبه الاقتصادية بل والعقدية، ذلك أن الإيمان الحق يقتضي الانصياع الكامل لمقتضيات الشريعة طبقا لقوله تعالى في الآية 36 من سورة الأحزاب: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾، ولعل هذا الكلام ينطبق على المطالب التي تَقدَّم بها "مسيحيو المغرب" مؤخرا للجنة المكلفة بتعديل المدونة، حيث نجد من بينها على سبيل المثال لا الحصر: تجاوز "منظومة الإرث التي كرست التمييز القائم على الدين والجنس"، وتفعيل "المساواة في الإرث" من خلال إقرار مبدأ "للذكر مثل حظ الأنثى"، و"إسقاط اختلاف الدين كمانع من موانع الإرث بين الأزواج وبين الفروع والأصول"... والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الشأن هو: هل يجهل هؤلاء أن مطالبهم هذه تتناقض كليا مع النصوص القطعية التي يستحيل معها إدراجها ضمن "مدونة أسرة" أي بلد دينه الإسلام؟ أم أن الأمر يدخل ضمن الخطة الشاملة التي تهدف إلى استئصال الإسلام وأحكامه؟ وإني أكاد أجزم بأن الافتراض الأخير هو الأكثر احتمالا، ذلك أنه لو كان الأمر يتعلق بالمطالبة بحقوق المسيحيين فقط، لكانت المطالبة بمدونة خاصة بهم، على غرار مدونة الأحوال الشخصية للطائفة اليهودية أقرب إلى الصواب.

ومما لا شك فيه أن الهدف الأساسي للفريق الثاني هو تحييد الشريعة الإسلامية، وإقصاؤها من حياة الناس، غير أن وعيهم بصعوبة تحققه على المدى القصير، جعلهم يعتمدون أهداف مرحلية، تتم أجرأتها عبر مسالك متعددة، أذكر منها: نشر ثقافة الميوعة، تحت راية الحريات الفردية، وتشجيع كل أنواع الفن الساقط، ومحاربة اللغة العربية باعتماد مداخل مختلفة... وفيما يلي تسليطٌ للضوء على بعض منها:

  • المدخل الأول يتمثل في إفشال مشروع التعريب، عبر مختلف المحطات التي مر بها، حتى استقر أو كاد يستقر في أذهان عموم المواطنين، بأن التعريب هو السبب الرئيسي في فشل المنظومة التعليمية عندنا، ومن أغرب ما سمعته في هذا الشأن هو قول الطاهر بنجلون، الذي كشفت تصريحاته في شأن أحداث غزة عن حقيقته، بأنه يرى في التعريب معركة ضد التفكير النقدي، وذلك أثناء استضافته في برنامج FBM على قناة ميدي 1 تيفي!!!
  • المدخل الثاني يتمثل في إشاعة الفكرة القائلة بأن سكان شمال إفريقيا أمازيغ، وأن العرب ليسوا سوى مستعمِرين، ليتم بذلك تجنيد الأمازيغ ضدهم، مما يؤدي بالضرورة إلى رفض كل ما يمت للثقافة العربية الإسلامية بصلة، ولعلنا نجد في هذا الطرح ما يفسر اعتبار بعض هؤلاء المجندين عبارة "المغرب العربي" عبارة متطرفة، وذات حمولة عنصرية، لذلك فهم يطالبون بإسقاطها، لأنها أصبحت في السياق الحالي متجاوزة في نظرهم.
  • المدخل الثالث يتعلق بحرب المصطلحات، التي تروم الإدراج التدرجي لمجموعة من المصطلحات اللغوية والشرعية ضمن ما يسمى بغريب اللغة، أي أنها تصبح غير مفهومة في السياق الحالي، وذلك بالتطبيع مع مصطلحات مستحدثة ومستمدة من المرجعية الغربية، حتى تحل محل المصطلحات الأصلية، التي يراد لها أن تفقد معناها لدى الأجيال الصاعدة. وفيما يلي قائمة لمجموعة من المصطلحات الشرعية مقرونة بالمصطلحات المراد إحلالها محلها: (الزنا، الرضائية)، (الشذوذ الجنسي، المثلية)، (أبناء الزنا، الأبناء الطبيعيون)، (الأمهات اللواتي ينجبن أطفالا بعلاقات غير شرعية، أمهات عازبات)، (الخاطب والمخطوبة، الخطيب والخطيبة)، (الوالدين، الأبوين)، (بكر أو ثيب، أعزب أو أرمل أو مطلق)، (المتعة، التعويض عن الضرر)، (العِدة، الخبرة الطبية لمعرفة وجود حمل من عدمه)، (الراشد، قاصر ما لم يبلغ 18 سنة مهما كان نضجه ورجاحة عقله)، (للذكر مثل حظ الأنثيين، للذكر مثل حظ الأنثى)، (الربا، الفائدة)...

ولعلنا نجد في هذه المداخل وغيرها مما لا يتسع المقام لذكرها ما يكفي للدلالة على أن الهدف البعيد، ولم لا المتوسط المدى لدى هذا الفريق هو اجتثاث المرجعية الإسلامية، وإحلال ما يسمى بالمرجعية الكونية محلها، ومما لا شك فيه أن غلوه في مطالبته بالتغيير الجذري للمدونة، الذي يعتبر من أهم مؤشرات استهداف الشريعة الإسلامية، لم يكن ليوجد لولا استقواءه بالغرب من جهة، ولولا الفرصة الذهبية التي أتاحها له ذلك الغموض المعتمد في صياغة ديباجة الدستور، حتى يُؤوِّلَها لصالحه، والتي تنص على "سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية".

في الأخير أريد أن أوجه نداء لكل غيور على دينه وثقافته، بالتحلي باليقظة وعدم السقوط في فخ تبني واستعمال هذه المصطلحات الملغومة، والتشبث في المقابل بالمصطلحات الشرعية التي بدونها سنفقد هويتنا الإسلامية لا قدر الله، وننتسب بذلك إلى ما أَطلَق عليه أحد الأفاضل هوية "اللاهوية" أو هوية الغراب الذي استهوته مِشية الحمام. 

وسوم: العدد 1065