العدل الدولية وصيد السَحَرة: إقلاق عظام كيسنجر

أمر منتظَر أن تتباين الآراء حول تقييم الخلاصات التي انتهت إليها محكمة العدل الدولية بصدد شكوى جنوب أفريقيا ضدّ دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأن يتراوح التفاوت بين قطب يرى فيها انتصاراً صريحاً أحرزه سجلّ الاحتكام إلى القانون الدولي؛ وقطب، نقيض أحياناً، لا يلمس فيها مستوى ملموساً أو كافياً من الإجراء الاحترازي الردعي، خارج اللغة الغائمة والتعبير الرمزي والرطانة القانونية المطاطة.

ثمة، إلى هذا، منطقة توسّط ليست البتة أقلّ وضوحاً، ولعلها أعلى من القطبين المتوازيين السالفين قدرةً على حيازة إجماع عريض، قوامها: 1) أنّ محرّمات عديدة تمتعت بها دولة الاحتلال على امتداد عقود، بعضها جوهري ومزمن، قد سقطت في لاهاي، على رأسها تسييج الكيان الصهيوني بمتاريس دفاع حصينة، مثل العداء للسامية ومأساة الهولوكوست؛ و2) أنّ تصويت قضاة المحكمة الدولية بمعدلات بلغت 15، وأحياناً 16، من أصل 17، شكّل تحوّلاً ساطع الدلالات بصدد إجراءات بعضها تجاوز الصفة الاحترازية، أياً كانت مفردات الحذر والتحفظ.

فإذا شاء امرؤ البحث عن «حسّ» انتصار ما في خلاصات العدل الدولية الأخيرة، لصالح جنوب أفريقيا وضدّ دولة الاحتلال؛ فالأرجح أنّ من الخير ترحيل تلك الرغبة (المشروعة تماماً، ولعلها مطلوبة أيضاً) إلى منطقة وسطى ثانية؛ تردّ عناصر السجال إلى إشكالية المحكمة في ذاتها هذه المرّة، وإلى قسط من التربّص بها واستهدافها والسعي إلى تفريغها من أيّ محتوى قانوني/ جيو – سياسي يحاذي منطق العلاقات الدولية وموازين الستراتيجيات الذرائعية الكونية.

وقد يكون هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأشهر في عقود الحرب الباردة وسائر النصف الثاني من القرن العشرين، هو سيّد المنظّرين لهذا المنطق التوسطي؛ حتى إذا كان قد تسيّده ابتداءً من فترة لم يكن فيها حاكماً مطلقاً على الدبلوماسية الأمريكية. ففي مقال شهير، يعود إلى صيف 2001 نشرته «فوريين أفيرز» وحمل عنوان «مزالق الاختصاص القضائي الكوني»؛ حذّر كيسنجر من إخضاع العلاقات الدولية إلى إجراءات قضائية يمكن أن تنطوي على أخطار «إحلال طغيان القضاة محلّ الحكومات، فالتاريخ يقول إنّ دكتاتورية ما هو فاضل قادت غالباً إلى محاكم التفتيش أو حتى صيد السَحَرة».

ولأنه كان أستاذ تاريخ في عداد الأردأ تفسيراً للتاريخ وحولياته بين الأمم والمراكز الإمبراطورية والإمبريالية، فقد تناسى كيسنجر سلسلة اجتهادات حاسمة تفيد العكس، وتحثّ على الضرورة، تمتدّ من القانون الروماني وحتى 1948 سنة تأسيس محكمة العدل الدولية، من جهة أولى؛ وأنّ الولايات المتحدة خصوصاً، وخلال عهود هيمنة كيسنجر نفسه على الدبلوماسية الأمريكية، سعت مراراً وتكراراً إلى توظيف وإساءة تأويل اختصاص المحكمة القانوني طبقاً للمصالح الأمريكية، سلباً أو إيجاباً، من جهة ثانية.

ليس عجيباً، والحال هذه، أن تعيد الإدارة الأمريكية الراهنة عزف الأنغام ذاتها التي سبق أن عزفتها إدارات سابقة ضمن معادلة ازدواج التفسير ذاتها؛ فيسارع جون كيربي، الناطق باسم مجلس الأمن القومي، إلى ردّ دعوى جنوب أفريقيا بهذه الشطحة المختصرة المبتسرة الوقحة: «لا قيمة لها، معكوسة الأثر، بلا أيّ أساس فعلي أياً كان». لم يكن هذا منطق قراءة الإدارة ذاتها، في آذار (مارس) 2022، لقرار المحكمة إياها الذي قضى بمطالبة روسيا إيقاف العمليات العسكرية في أوكرانيا؛ رغم أنّ البراهين على أعمال الإبادة هناك كانت أقلّ بما لا يُقاس مقارنة مع جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزّة.

لا عجب، كذلك، أن يذهب امرؤ إلى أنّ إجراءات لاهاي الاحترازية، بعجرها وبجرها كما يُقال، قد تتكفل بإقلاق عظام كيسنجر، خاصة وأنّ اعتقال دكتاتور تشيلي أوغستو بينوشيه في لندن سبق أن أقلقه حيّاً؛ هو الذي كان مهندس انقلاب بغيض، حوّل جنرالاً مجرم حرب إلى «رئيس».

وسوم: العدد 1068