محاولات إحياء «الخلافة» بالوطن العربي وعوامل الإخفاق

على الرغم من الضعف والقصور الذي داهم الدولة العثمانية، فإنها ظلت لحين إلغائها على يد أتاتورك قبل قرن من الزمان راية جامعة لانتماء العرب ضمن المنظومة الإسلامية في المشارق والمغارب، يتمسكون بها على الأقل لمواجهة السيطرة الاستعمارية.

‏وبعد إلغاء الخلافة وفقدان ما تبقى منها من سلطة روحية تجمع تحت لوائها العرب، وجدت الشعوب العربية نفسها في حالة اغتراب، وقامت عدة مشاريع لإحياء فكرة الخلافة الإسلامية من جديد.

‏«الإخوان» اعتمدت المنهج الإسلامي كحل لجميع المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية

‏1- جماعة الإخوان المسلمين:

‏تعد أول التنظيمات التي تأسست لإحياء الخلافة، على يد الشيخ حسن البنا في مصر عام 1928م، وبدأت كجمعية دينية تدعو الناس للتمسك بالقيم والأخلاقيات الإسلامية، ثم تحولت إلى العمل السياسي، وشاركت بقوة في العمل العسكري ضد الاحتلال البريطاني، وامتد نشاطها إلى العديد من الدول العربية والإسلامية والغربية، وتعتبر هي الجماعة الأم التي انبثقت منها سائر الجماعات الأخرى التي نادت أو عملت على إحياء الخلافة.

‏واعتمدت الجماعة المنهج الإسلامي كحل لجميع المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأدى عملها القوي في حرب عام 1948م في فلسطين ضد الصهاينة، إلى تخوّف بريطانيا وحكومة النقراشي في مصر من ازدياد نفوذها، فقامت بحلها ومصادرة أملاكها.

‏وقد شاركت الجماعة بقوة في إنجاح انقلاب 23 يوليو 1952م للإطاحة بالملك بعد أن أخذت وعداً من جمال عبدالناصر بتحكيم الشريعة، لكنه تنكر لوعوده وقام بحملات اعتقالات واسعة للجماعة وملاحقة رموزها.

‏«التحرير» اعتمد التغيير الفكري الثقافي فالمجتمعات لا يمكن تغييرها إلا من خلال مهاجمة أفكارها

‏وعلى الرغم من الانتشار الواسع للجماعة في عدة دول وتكوينها قواعد شعبية كثيفة، فإنها لم تحقق أهدافها في إقامة الخلافة، وذلك لعدة أسباب، منها:

‏– توغل الجماعة بعد عهد البنا في العمل السياسي على حساب الاهتمام بالتغيير الاجتماعي وإصلاح الفرد، خلافاً لما كان عليه المؤسس من العمل الشمولي الذي يتجه للتغيير الاجتماعي والسياسي معاً، وبذلك فقدت عنصراً مهماً من عناصر التغيير وهو الحل الفردي، بمعنى عودة الأفراد إلى المنهج الرباني القويم وإقامة العبودية بمفهومها الشامل، ولا أقول: إن الجماعة أعرضت عن العمل في هذه المسارات، ولكن لا شك أن الاهتمام بالشأن السياسي تغول على هذه المناحي.

‏– استعجال الجماعة لتسلم السلطة في ظل عدم وجود قراءة صحيحة لمؤامرات الغرب المتنفذ وترصّده لأي محاولات لبعث إسلامي، وفي ظل عدم تقدير موازين القوى، وكذلك مع عدم وجود التأهيل الجماهيري الكافي للاحتشاد خلف قوة إسلامية مؤثرة.

‏2- حزب التحرير:

‏وهو حزب ذو توجه إسلامي، انبثق عن جماعة الإخوان المسلمين، أسسه الشيخ تقي الدين النبهاني في فلسطين عام 1952م، ويعتمد الحزب فكرة استعادة الخلافة كفكرة مركزية في مساره، إلا أنه تسبقها مرحلة إقامة حكم إسلامي في الدول العربية، كمرحلة إلى الخلافة العامة، وقد امتدت فروعه للعديد من الدول العربية ودول آسيا وبعض دول أوروبا.

‏يعتمد حزب التحرير على التغيير الفكري الثقافي، فهو يرى أن المجتمعات لا يمكن تغييرها إلا من خلال مهاجمة أفكارها، بمعنى إحداث انقلاب فكري يعقبه انقلاب سياسي، ويكون هذا الانقلاب الفكري بتثقيف الجماهير تثقيفاً جماعياً بالثقافة الإسلامية، لذلك ينشط كثيراً في العمل الإعلامي.

‏«السلفية الجهادية» تتخذ العمل المسلح أساساً في انطلاقها نحو إعادة الخلافة وضد الأنظمة الحاكمة

‏وللحزب موقف متباين من المشاركة في الحياة السياسية، فهو في الأساس يرى عدم مشروعية المشاركة لعدم احتكام هذه المجالس إلى الشريعة، لكنه في بعض البلدان العربية قد دفع بمرشحيه كما هي الحال في ترشيح الشيخ عبدالقديم زلووم، والشيخ أحمد الداعور وغيرهما في الأردن، وفي لبنان ترشح الشيخ عثمان صافي، ويوسف بعدراني، وفي سورية رشح عبدالرحمن المالكي.

‏فمراحل التغيير لدى حزب التحرير تتمثل في مرحلة الصراع الفكري عن طريق طرح ثقافته، ثم الانقلاب الفكري عن طريق تفاعله مع المجتمع بالعمل السياسي والثقافي، ثم تسلم الحكم عن طريق تحالفات مع قوى مؤثرة في الدولة.

‏وفضلاً عن كونه لم يقطع أي أشواط على طريق حلم الخلافة، فالحزب نفسه يتآكل بسبب تركيزه على العمل الثقافي والفكري دون الاهتمام بالجوانب العقدية والتربوية المؤهلة لتغيير المجتمع، وتكثيف جهوده حول الحكم أكثر من إعداد الناس، إضافة إلى أنه مستغرق بشكل كبير في التنظير، دون أن يعرض أطروحاته على مدى إمكانية تسويقها في الواقع، فهو على سبيل المثال يعول في مرحلة تسلم السلطة على استنصار قوى متنفذة في المجتمع، وهو أمر لا يمكن ضبطه وضمانه.

كما يؤخذ على الحزب بعض التشوهات في التصورات، فهو أشبه بالمعتزلة في تقديم العقل على النقل، إضافة إلى آراء فقهية شاذة لا مستند لها تجعله في حالة عدم تناغم مع المزاج الإسلامي العام.

‏3- السلفية الجهادية:

‏وأبرزها «تنظيم القاعدة»، وهو تنظيم تأسس عام 1989م إبان الحرب الروسية على أفغانستان، ثم امتد نشاطه إلى مناطق أخرى كالعراق وسورية وشبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا.

‏عودة الخلافة ليس ضرباً من الخيال وتبدأ بإصلاح المجتمعات من داخلها ومراعاة السنن الربانية

‏ومن أبرز رموزه أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، ويتخذ من العمل المسلح أساساً في انطلاقه نحو إعادة الخلافة، ويتبنى رفع راية الجهاد ضد الأنظمة الحاكمة التي يكفرها، وضد الوجود الأجنبي في البلدان الإسلامية، ويغلب على التنظيم الخلل في قضايا الكفر والإيمان.

‏وقطعاً باءت محاولات هذا التنظيم في إعادة فكرة الخلافة بالفشل، بسبب أنه تنظيم صدامي يتوجه لمقارعة الأنظمة بالسلاح، ومن ثم ليست له أي جهود في محاولة التغيير من الداخل وإصلاح المجتمعات وتهيئتها لمشروع الخلافة، إضافة إلى تقوقعه في قفصه التنظيمي الذي جعله في واد والشعوب في واد آخر.

‏لقد أهمل «تنظيم القاعدة» قراءة السنن الربانية، فالتغيير إنما يتم من داخل المجتمعات نفسها، وليس بإسقاط الأنظمة بقوة السلاح لتحقيق حلم الخلافة، بل تسببت أنشطته الصدامية في وضع العراقيل أمام السعي لتحقيق هذا الحلم.

‏تفرع عن «تنظيم القاعدة»، بسبب الانقسام، تنظيم آخر أكثر غلواً وتطرفاً يسعى لاستعادة الخلافة، وهو «تنظيم الدولة» المعروف باسم «داعش»، وسوف نتجاوز ما يؤكده الكثيرون من كون التنظيم صناعة استخباراتية، إلى القول: إنه تنظيم أبعد ما يكون عن سلوك الطريق إلى الخلافة، بسبب الغلو في التكفير واستباحة الدماء المعصومة، بل تسبب هذا التنظيم المتطرف في تجييش دول العالم لملاحقته في الدول العربية والإسلامية واستنزاف قوة وجهود الدول العربية والإسلامية، ومنح الغرب فرصة تاريخية لاتهام الإسلام بالإرهاب وفتح قنوات لتدخله الفعلي في الشؤون الداخلية لبلدان الأمة.

‏كلمة أخيرة..

‏عودة الخلافة ليس ضرباً من الخيال، بل دلت عليه الأحاديث النبوية الصحيحة، لكن الطريق إليها يبدأ بإصلاح المجتمعات من داخلها، مراعاة للسنن الربانية؛ (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، على أن يكون هذا التغيير التدريجي شاملاً لجميع مناحي الحياة، شاملاً لإصلاح منظومة التصورات والعقائد، وتحقيق معاني العبودية الحقة بشموليتها في الحياة، وصناعة الفرد المنتج الفعال في بلده، مع مراعاة قواعد المصالح والمفاسد وفقه الأولويات، وموازين القوى، والعمل على اغتنام كل ما يقود على المدى البعيد إلى تحقيق هذا الحلم، كالتكتلات الاقتصادية.

‏والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..

وسوم: العدد 1073