في إسلامية الثورة السورية، وإسلامية سورية كذلك!

خاص بالحركة الدستورية  

في إسلامية الثورة السورية،

وإسلامية سورية كذلك!

وليد جداع

المشرف على الحركة الدستورية السورية

ما اتفق السوريون ،على اختلاف آرائهم المعهود ، كاتفاقهم على أن الثورة السورية كانت مفاجأة للسوريين قبل الآخرين، وأن الذين صنعوها كانوا شبابا سوريين غير محددي التنظيم أو الاتجاه الفكري أو السياسي. بل يكاد يجزم الجميع أن ما حدث في سورية ، لم يكن ليحدث ربما ، لو لم تقم الثورتان التونسية أو المصرية من قبل ، ثم تحققان ذلك النجاح العظيم. صحيح أن التربة كانت شبه مهيأة لهذا الحدث الجماهيري العظيم، لفرط دكتاتورية النظام ودمويته وقمعه ، ولحجم الفساد السرطاني الذي انتشر في الجسد السوري وجعل ملايين من أبنائه في أشد حالات الفقر والعوز، ولتعطش الجماهير إلى مشاركة سياسية واجتماعية حرة تسهم في بناء وطنها. لكن اندلاع انتفاضة شعبية هائلة بهذا الحجم، لم يكن بحسبان أحد على الإطلاق. كل هذا من أجل التأكيد على أن الانتفاضة السورية العظيمة ليست من صناعة أحد مهما كان شأنه وحجمه، وأن أكثر ما كان للتنظيمات والجماعات والأفراد، أن تعمله ،هو الالتحاق بالثورة والانضمام إلى ركبها ، والتشرف بالانتساب لها..فهي الأم وهي المرجع وهي التي تصنع الرجال والتنظيمات والهيئات.

وإذا كانت الثورة كذلك، فإن من البديهي أن تنتسب هذه الثورة إلى الشعب السوري بجملته، لا إلى فصيل أو مجموعة أو حزب. ومن الطبيعي أيضا أن تكون أهدافها وطنية جامعة ، تهم كل السوريين، وتحقق أهدافهم وتطلعاتهم. غير أن هذا الشعب السوري ليس ضائع الهوية مشتتا، ولا نكرة الأصل، ولا طارئا على سورية أو مستوطنا حديثا لها ، لتضيع رافعة الثورة وتبهت مرجعيتها...إن سورية في إطارها العام ومرجعيتها الفكرية والثقافية والحضارية، عربية مسلمة في الغالب ، على تنوع وإضافات عرقية ودينية جميلة متناغمة ومتكيفة، في إطار إنسانية رحيبة ومتسعة. ولذا ، فأن نتحدث عن سورية عربية، إنما هو حديث عن غلبة أمر واقع دون أفضلية، للسان وثقافة مكتوبة بهذه اللغة العربية. وأن نتحدث عن سورية مسلمة إنما هو حديث عن أعظمية عددية نسبية لدين سماوي، متمم للديانات السماوية اليهودية والمسيحية وخاتم لها، مما هو واقع راهن وحالة واقعة، كما أن أوروبة في مجملها مسيحية، والصين بوذية، وهكذا.

إن الشعب السوري متعدد جدا في الولاءات والمرجعيات والاتجاهات الفكرية ، لكن أمرا غالبا على هذا التعدد هو انتماء إسلام- مسيحي الدين ، إسلام-مسيحي الثقافة، إسلام-مسيحي الاجتماع، يصاحبه شبه علمانية في كوادر الدولة-وليس النظام- وعلمانية رقيقة قشرية في علاقات أهلية اقتصادية اجتماعية، لا تعارض الدين ولكن تضع الدين في موضع الاحترام الكامل، وتتبعه في معظم مناحي الحياة، دون أن تكون له هيمنة قاسية أو فهم متشدد..وربما كان هذا ناشئا عن طبيعة سورية الجغرافية الداخلية بين سهول عريضة وجبال سامقة، إلى شبه صحراء وخضرة لا تغيب ...أنهار متعددة وفصول مناخية أربعة...ثم إطلالتها الطويلة على البحر الأبيض المتوسط. إضافة إلى تاريخ طويل عريض من العلاقات الخارجية المتنوعة جدا، بين سلم وحرب، وهدنات وغزوات! لنتأمل فقط مرحلة الحروب الصليبية التي امتدت قرابة مئتي عام ، لنرى كم مر على سورية من أقوام وغزوات وحركات مقاومة ودول وهيئات..تاريخ طويل عريض من الصراعات والأفكار والمدنيات والثقافات، مرت على سورية فجعلت منها بلدا عالميا ، غير قابل للتشدد والإقصاءات، وكيانات متنوعة متشابكة أحيانا ومنعزلة-بأمان كامل- أحيانا أخرى. إن سورية وبلاد الشام عموما ، ما كان يمكن أن تكون كيانا (أحاديا) في فهمه للإسلام وتطبيقاته وتجلياته، عربيا عنصريا في قومياته! بل هي بلاد الثقافات المتلاقحة والقوميات المتصالحة على معظم الفترات.

وإذا كان الشعب السوري على هذا النحو، وإذا كانت الانتفاضة السورية ابنة هذا الشعب وثمرة من ثماره، فإن وجود تنوع في فصائل المقاومة من حيث الالتزام الديني أو المرجعية الثقافية أو الإطار الوطني البحت كحركة تحرر وطني ، أمر مفهوم ومسوغ ولا يحتاج لتأويلات كثيرة. فهذه الفصائل والتنظيمات نتاج المجتمع السوري بتنويعاته. وهي تعكس-خصوصا- حزمة عريضة من الآراء والاتجاهات، كانت غائبة أو مغيبة أو كامنة أو منزوية. وجاءت فرصة الانتفاضة الشاملة لتعبر عن نفسها وتوجهاتها. ومن الطبيعي إذا أن نجد ما يتموضع في أقصى اليمين من تأويلات الإسلام وأنماط فهومه، إلى أقصى اليسار من هذه الأنماط والفهومات. ومن الطبيعي أيضا أن نجد انعكاسا مباشرا لتأثيرات البيئة المحلية على هذه الفصائل والتنظيمات، من ريف إلى حضر إلى بادية إلى مدينية حديثة ... كل ذلك يتبدى الآن ويجد فرصته في الانعتاق والظهور ومغادرة الانطواء القسري والانزواء!

غير أن من المفيد التأكيد على أن الوطنية السورية الجامعة كما يحب كثيرون أن يدعوها، لا يتناقض معها أبدا بل يعززها، الميول الفكرية والاتجاهات السياسية. وفيما يخص العامل الإسلامي بالذات، فإن المتابع للتاريخ العربي يدرك تماما أن الإسلام كعقيدة دينية قام ويقوم بدور إيجابي جدا في الأزمات العامة ولا سيما في مجال التحرر من الاستعمار، والتحرر من الطغيان، والقيام بأدوار الإغاثة والعمل الاجتماعي التطوعي في الأزمات الطبيعية كالزلازل والفيضانات وحالات المجتمعات الفقيرة. وإذا كان الإسلام كعقيدة حية ومؤثرة، لا يقوم بهذا الدور ، فما قيمته إذا وما فاعليته في الحياة! بلى إن العامل الديني فاعل وينبغي ان يكون فاعلا اليوم، في مواجهة الآلة العسكرية الجبارة للنظام، تماما كما إن من الواجب الحتمي على كل مستطيع مهما كان دينه ومذهبه وأفكاره، أن يقوم بواجبه تجاه وطنه، وتجاه ثورة هذا الوطن. والإسلاميون من واقع دور الإسلام في الحياة ،ومن واقع إيجابية المسلم واندماجه الوطني والإنساني، مطالبون بأن تتشابك إسلاميتهم ووطنيتهم وإنسانيتهم ، معا ودون تناقضات أو افتراقات، في معركة التخلص من النظام الدموي في سورية. إن التنظيمات الإسلامية على الساحة السورية ، تدرك أن عملها في مواجهة النظام هو جزء أو تعبير عن تناغم وانسجام تامين بين الإسلامية والوطنية، ومحور ذلك هو الدور الحيوي للدين في الحياة.

ثم إن من الضرورة بمكان، ملاحظة أن الإسلامية الراهنة الظاهرة في التيارات وبعض الشعارات والأمنيات، ليست هي روح المطالبات الشعبية الوحيدة، وليست هي الباعث المهم الوحيد في كفاح الشعب السوري. بل هي بالتأكيد بعض مظاهر إضافية للمشروع الأساسي في التحرر الوطني. والأمر ليس أكثر من تطابق مع حالة نضال وطني، وتشابك مع أحلام وميول خاصة في رؤى المستقبل والحياة القادمة. فالمقاتل من أجل الحرية كمشروع أساسي، يحلم أو يتمنى، ومن حقه ذلك بالتأكيد، أن تكون الحياة الحاضرة أو المستقبلية على صورة ما ، دون إكراه أو قسر. وهو يستطيع أن يطالب بحقه في صياغة مستقبل وطنه، مادام ذلك على قدم المساواة مع المواطنين الآخرين، ومادام ذلك في إطار الدستور والقانون.

والذين يلاحظون غلبة ما في الاتجاه الإسلامي، ينبغي أن يدركوا أيضا أن أحد أسباب هذه الغلبة أو القوة أو الاستمرارية، ليس قوة ذاتية فقط، بل وجود حاضنة شعبية قوية أحيانا. وما مرد تلك الحاضنة هو التطابق أو الاندماج السياسي والفكري الكامل، بل بسبب أن هذه الحاضنة وطنية أساسا ، وتترفق بالإسلاميين أو تدعمهم من منطلق وطني متشابك مع بعض التوافقات الفكرية والسياسية...وأكثر من ذلك فهذه الحاضنة قابلة لاحتضان كل الفصائل والاتجاهات وهي تفعل ذلك حقا. والواقع السوري بتفصيلاته كلها يشهد على ذلك...إن الوطنية السورية وطنية جامعة شاملة ، على المستوى الشعبي الجماهيري، مهما عكرها شوائب هنا أو هناك...ويكفي أن تعود الحياة الطبيعية إلى البلاد، لتتجلى من جديد حياة الألفة والتعاون والاندماج.

لا يعني هذا بطبيعة الحال أن الصورة في غاية الإشراق! إن سلبيات خطيرة حقا ، تظهر جانبا مظلما من الموضوع! إن التطرف الموجود في ساحة الإسلاميين المقاومين، وإن التشتت والتناحر بين هذه التنظيمات والجماعات، وإن الولاء لبعض الاتجاهات الفكرية وإعلائها على المصلحة الوطنية السورية، وإن التفكير بمصادرة مسبقة لأفكار السوريين وتطلعاتهم، وإن تأكد وجود اختراقات خطيرة من جانب النظام أو إيران أو حزب الله لفصائل المقاتلين الإسلاميين، وإن أمراض الزهو العسكري والجنوح بهذا الزهو نحو ديكتاتورية بدت بواكيرها وتنذر بالأخطر...وإن عشرات الأمراض والعلل الأخرى التي تعكر صفو هذه التنظيمات وتقلق الشعب السوري كله وتقض مضجعه وتخيفه من القادم أن يكون دكتاتورية دينية بطريقة ما...هذا كله يحتاج لتصحيحات مستمرة ومعالجات حكيمة، وعدم نسيان الهدف الأساسي الذي قامت الانتفاضة السورية من أجله: سورية حرة كريمة مستقلة.

إسلامية الثورة السورية في المحصلة، إحدى صور الثورة السورية وليست صورتها الوحيدة! وإسلامية الثورة السورية هي في خدمة المشروع السوري الكبير في الحرية وبناء دولة القانون ، وليست مهيمنة على هذا المشروع! وإسلامية الثورة السورية ليست سوى انعكاس لميول عند قسم من الشعب السوري وليس كل الشعب. وعلى الفصائل الإسلامية من ثم، أن تؤمن بقوة ، بأنها جزء من فصائل الكفاح الشعبي السوري ضد الطغيان، وأن دورها العسكري التحرري ينبغي أن لا يتجاوز خدمة العمل العسكري والسياسي والاجتماعي العام في خدمة الشعب السوري، وسينتهي هذا الدور العسكري عند تحقق التحرر والانعتاق من نظام الطاغية الأسد، وعلى هذه الفصائل من بعد أن تنخرط في العمل الوطني بتنويعاته، في حدود الدستور والقانون!

لا وصاية للفصائل الإسلامية المسلحة على ثورة الشعب السوري. ولا دور لهذه الفصائل إلا دعم الثورة السورية والانتقال بها من نصر إلى نصر. وإن من أول ما ينبغي لهذه الفصائل أن تنجزه إن أرادت أن تكون حيوية ومبدعة، هو قدرتها على المواءمة بين تطلعاتها الإسلامية الخاصة بها، وتطلعات الشعب السوري في التحرر والاستقلال. وهذا التحدي أمام الفصائل الإسلامية المقاتلة هو عينه التحدي الذي ستواجهه هذه الفصائل بعد التحرر ، عندما ستدعى إلى المشاركة في العمل السياسي ، وفي بناء سورية الجديدة ، وتجاوز ما لحق بها من دمار.