الثَّورة السّوريَّة و«الوصاية الدَّوليَّة»

د. محمد عناد سليمان

د. محمد عناد سليمان

[email protected]

لم يكن من المتوقّع لدى الكثير من المتابعين لـ«لثّورة السّوريّة» أن تتحوَّل إلى أزمة تجعل منها «قضيّة دوليّة» بامتياز، ساعد في ذلك الدَّور الاستراتيجيّ الذي تشغله «سوريا» في منطقة «الشّرق الأوسط»، يأتي في مقدِّمتها السّياسة التي لعبتها في حماية الحدود الشّماليّة لـ«دولة إسرائيل»، تحت ستار «المقاومة والممانعة» التي ظهر كذبها ونفاقها لـ«لشّعب السّوريّ» خاصّة، والشّعوب العربيّة والإسلاميّة عامّة.

هذه المقاومة والممانعة التي سمحت لسلاح الجوّ «الإسرائيليّ» أن يخترق الأجواء «السّوريّة» لأكثر من مرّة، ويقصف عدّة مواقع تمثّلُ نقطةَ ارتكاز عسكريّة وإستراتيجيّة بالنّسبة إلى النّظام، ليس آخرها «جبل قاسيون»؛ بل إنَّ المقاومة والممانعة دفعت النّظام «الأسديّ الإرهابيّ» إلى أن يمهّد لعمليّات عسكريّة مع عدوّه «الإسرائيلي» -كما يزعم- سمحت له الأخيرة بدخول دبّاباته وعرباته العسكريّة إلى معبر «الجولان»، ومناطق منزوعة السّلاح كما هو مفترض حسب قرارات «مجلس الأمن الدّوليّ».

ومن المعلوم مسبقًا أنّ «مجلس الأمن الدّوليّ» بات معطّلا تمامًا فيما يخصّ «القضيّة السّوريّة»، بوجود الـ«فتيو» «الرّوسيّ» و«الصّينيّ»، الذي حال دون التّوصّل إلى اتّفاق سياسيّ دوليّ لحلّ الأزمة بين الأطراف المتنازعة؛ مّما يدعونا إلى التّساؤل عن جدوى عقد مؤتمر «جنيف2» في ظلّ التّناقضات والخلافات بين «روسيا» و«الولايات المتّحدة الأمريكيّة» وعدم وضوح الأفق السّياسيّ بين الطّرفين.

إضافةً إلى الخلافات الدَّاخلية والتَّناقضات التي تنخر جسم «الائتلاف الوطنيّ»، وحالة الفساد الإداريّ والماليّ التي لم تعد خافية على أحد، وعدم وضوح رؤية جادَّة في إمكانيّة حضور «إيران» من عدمه في المؤتمر، وما له من أثر على تغيير المسار السّياسيّ لـ«لأزمة السّورية».

ومن الغريب حقًّا عندما نرى بعض المحللّين يقذفون «روسيا» بأنّها تبحث عن تأمين مصالحها في منطقة «الشّرق الأوسط» عبر البوّابة «السّوريّة» فقط، جاعلين من ذلك السّبب الرّئيسيّ خلف الدّعم المطلق للنّظام «الأسديّ الإرهابيّ»، وفي ذلك تجنِّ كبير، وانتقاصٌ ظاهرٌ من ثورة ستجعل رياح تغيير العالم يمرُّ عبر بوّابتها، في دحض مزاعم ازدواجيّة المعايير في التّعاطي مع أزمات منطقة «الشّرق الأوسط» بشكل خاصّ.

فثمّة أسباب كثيرة جدًا تكمن وراء الدّعم «الرّوسي» لـ«لنّظام الإرهابيّ»، وهو دعم لن يتوقّف حتّى لو سقط هذا «النّظام»، وسينتقل إلى «إيران»، الحليف الأوّل، والذّراع القويّة البديلة لـ«روسيا» في المنطقة، وهذا ما يبرّر الصّمت الدّولي على دخول «الحرس الثّوريّ الإيرانيّ» وذارعه «اللّبنانيّ» و«العراقيّ» في «سوريا»، في حين تحرّك العالم عند غزو «العراق» لـ«لكويت»، باعتباره تدخّلا ومساسًا بسيادة الدّول.

ولعلّ من أهمّ هذه الأسباب هو عدم قدرة أيٍّ من الطَّرفين على ليّ ذراع الآخر من خلال مدِّ النّفوذ أو جزره في منطقة «الشّرق الأوسط»، ولا يخفى على أحد الخسارة الكبيرة التي مُنيت بها «روسيا» بعد سقوط نظام «القذّافي»، والذي تحاول إعادته عبر بوّابات جديدة، ولا شكَّ أنَّ «الانقلاب العسكري» في «مصر» يصبُّ في مصلحتها، ويدلُّ على الخلط الواضح في تعاطي «الولايات المتّحدة الأمريكيّة» مع الملفات العربيّة، مّما دفعَ «روسيا» إلى العناد ومزيد من التّعّنت في التّنازل أو تغيير موقفها حيال هذه الملفّات في الوقت الرَّاهن على الأقلّ.

وأرى أنَّ «روسيا» استطاعت حتّى هذه اللّحظة أن تمسك بذراع «الولايات المتحدّة الأمريكيّة» وتسييرها حسب ما تشتهي بما أنَّ الخطر لم يمسَّ أمن واستقرار «إسرائيل»، وهو الهاجس الأوّل والأخير الذي من الممكن أن يؤرّق «الولايات المتّحدة» وليس دماء الشّعوب المستباحة في «سوريا» أو«العراق» أو«اليمن» أوغيرها.

 

يظهر ذلك من خلال تراجع الموقف «الأمريكيّ» والتردّد المستمرّ في كيفيّة التّعامل مع الموقف الذي تحتلّه «القضيّة السّوريّة»، بدءًا من جعل أيَّام «الأسد» معدودة حسب تصريحات متتالية لـ«لخارجية الأمريكية»، وانتهاء بالقبول بمؤتمر «جنيف2» استنادًا إلى «جنيف1»، واعتباره مرجعيّة أساسيّة لبناء الثّاني، ولا يخفى على أحد تفوّق الرّؤية «الرّوسيّة» في الأوّل على الموقف «الأمريكيّ».

بل إنَّ «روسيا» استطاعت بحنكتها ودهائها السّياسيّ الذي غاب في «ليبيا» و«تونس» أن يبرز وبقوّة في «القضيّة السّوريّة»، بغض النّظر عن تداعياتها على دول الجوار التي فقدت كثيرًا من أمنها واقتصادها، وإحداث خللٍ في بنيتها الاجتماعيّة، وتوغّل «الاستخبارات السّوريّة» فيها بأضعاف ما كانت عليه، مّما يجعلها عرضة لانفلات أمنيّ سريع، يتخلّله سلسلة من عمليّات الاغتيال السّياسيّ على نحو ما حدث فيها في «الثّمانينات».

وأكاد أجزم أنَّ «روسيا» حاولت جاهدة أن تُوصل «الثّورة السّوريّة» إلى الملفات المتقدِّمة لدى المجتمع الدُّوليّ، وأن تحوّلها إلى «قضيّة دوليّة»، يعود القرار الفصل فيها إليها، لتحدث نوعًا من التّوازن الاستراتيجيّ بين قضايا «الشّرق الأوسط»، فتكون «القضيّة السّوريّة» موازية لـ«لقضيّة الفلسطينيّة»، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأمن واستقرار الحليف الأوحد لـ«لولايات المتحدة» في المنطقة، مستفيدة من دورها في «مجلس الأمن الدّوليّ»، وحقّها «النقضيّ» في منع استصدار أيِّ قرار من شأنه أن يدعم الثّورة إن في المجال الإغاثيّ الإنسانيّ، وإن في المجال السّياسيّ والدّبلوماسيّ. ساعدها في ذلك ضعف التّمثيل السّياسيّ لـ«لثّورة السّوريّة» عبر مؤسّستها الممثّلة بـ«الائتلاف الوطنيّ» الذي أثبت فشلا واضحًا في إدارة الثّورة، وعجزه عن القيام بأدنى دور إنسانيّ قد يسهم شيئًا قليلا في التّخفيف من معاناة أهلنا سواء أكانوا في الدّاخل أم في الخارج، فضلا عن التّصريحات المتناقضة لـ«هيئة أركان الجيش الحرّ» التي تتعارض مع ما يحدث على الأرض، من سقوط «القصير» إلى «تل كلخ» إلى «الخالديّة» تمهيدًا لسقوط «حمص»، في عجزٍ واضحٍ عن تلبية مستلزمات «الجيش الحرّ» لتحقيق تحوّل نوعيّ ملحوظ على الأرض، ممّا يزيد الفجوة الموجودة أصلاً بين «الكتائب» و«الألوية» العاملة وبين «هيئة الأركان»، وبعبارة أخرى بين «المعارضة العسكريّة» من جهة و«المعارضة السّياسيّة» من جهة أخرى.

لقد بات واقعًا ملموسًا أنَّ «الائتلاف الوطنيّ» يشكّل العقبة الكبرى في إحراز أيَ تقدّم سياسيّ يخدم المصلحة العليا لـ«لثّورة السّوريّة»، وما قبوله حضور «جنيف2» من دون شروط مسبقة إلا دليل على ذلك، إضافة إلى تحويله إلى داء مسرطن يقف حائلا دون الوصول إلى أيّ نقطة اتّفاق ولقاء من شأنه أن يدفع عجلة «الثّورة» نحو الأمام، ساهمت الدّول المموِّلة له بفشله نتيجة الاختيار الخاطئ لمن يدَّعون تمثيل «الثّورة السّوريّة»، ومن أهمّ مظاهر فشله من وجهة نظري تمثَّلَ في تناقص عدد الدّول الدّاعمة لـ«لثّورة» لينتهي عند إحدى عشرة دولة في دلالة دامغة على دور «الائتلاف» اللامتناهي في عزل الثّورة سياسيًا، وعدم قدرته على إحراز أيّ تقدّم من شأنه زيادة الدّعم الدّولي له،  وتحويل الاعتراف به من الدّائرة الأخلاقيّة إلى الدّائرة القانونيّة، وما لذلك من أثر على سحب الشّرعيّة السّياسيّة والدّبلوماسيّة من «النّظام الإرهابيّ».

ولا نغفلُ أيضًا الدَّور السّلبي لـ«جامعة الدّول العربيّة» في كيفيّة إدارة «الملف السّوري»، وليس ذلك بجديد عليها، فنحن نعلم الإخفاق الكبير الذي كانت وما زالت تعاني منه «الجامعة» في إدارة الأزمات التي تتعلّق بـ«الدّول العربيّة»، ومدى تأثير بعض الأطراف دون بعض على قراراتها، مّما جعلها عرضةً للسّلب السّياسيّ، والانحياز في معظم القرارات التي تصدر عنها، وغياب دورها في أحلك المواقف.

إنَّ جعل «الثّورة السّوريّة» «قضيّة دوليّة» مسألة مسيّسة لم يكن من باب المصادفة؛ بل سعيٌ حثيث من بعض الأطراف الفاعلة فيها، معتمدة في ذلك على المدّ الإقليميّ الذي أصبح واضحًا وعلى مرأى من الجميع، وما «مجلس الأمن الدّولي» عنه ببعيد، واستخدام ذريعة «المجموعات الإرهابيّة» وسيلة ذات حدّين تمثّل في التّردّد الظّاهر من تسليح «الجيش الحرّ» من قبل «الولايات المتّحدة» من جهة،  وضرورة العمل على تعزيز وجودها لكسر إراداتها من قبل «روسيا» من جهة أخرى.

ولا شكّ أنَّ السّياسة «الرّوسيّة» في «القضيّة السّوريّة» وجعلها كرة دوليّة تتقاذفها النّزاعات وتصفية الحسابات الدّوليّة قد أتت أكلها ونجحت في رضوخ جميع الأطراف لحضور «جنيف2» من دون أيّ شروط مسبقة، في تهميد واضح لإطالة عمر «النّظام الإرهابيّ» واستمرار عمليّات الإبادة الممنهجة، وتدمير المدن والقرى إلى نهاية ولايته الرّئاسيّة في عام 2014م.

وغالب الظنِّ أنّ وجود الحليف الاستراتيجيّ لـ«لولايات المتّحدة» وتحقيق أمنه واستقراره لن يفلت من دون دفع ثمن باهظ يقدّم لصالح القوّة «الرّوسيّة» من خلال دعم طرف استراتيجيّ آخر والدّفاع عن حقّه في امتلاك «السّلاح النّوويّ» لتتكامل صورة الصّراع السّياسيّ بينهما مّما يمهّد الطّريق صراحةً إلى تحقيق وجهات النّظر المختلفة بإعادة تشكيل «الشّرق الأوسط» الجديد بناء على تحقيق المصالح مع إبقاء ما يمكن إبقاؤه من «الأنظمة العربيّة» التي ما زالت تدين بالولاء والطّاعة، ولا تخرج عن السّياسة المرسومة لها في طريق إرساء قواعد اللّعبة ونجاحها.