مؤشرات مهمة على خارطة الموقف

مؤشرات مهمة على خارطة الموقف

د. ضرغام الدباغ

[email protected]

شهر آذار يحمل مقدمات الربيع، وحتى في أوربا التي مازالت درجات الحرارة منخفضة نسبياً، ولكن الربيع في الوطن العربي قد بدأ، والأهم هنا ملاحظة ما يرافقه ظواهر ومظاهر هامة، حتى ليكاد المرء يعتقد أن هذا الشهر سوف لن ينتهي إلا وملفات عالقة ستجد طريقها للحل، أو أنها ستجتاز عتبة الحل.

الأحداث تتوالي، الحدث يلد أحداث، والموقف يخلق معطيات موقف جديد، والأصل في الأشياء هو الحركة الواسعة التي تمور في مجتمعاتنا العربية، ومستحقات التغير تجد حقاً إرادة التغير، وسواعد لتخرج الجنين ولو بعملية قيصرية، المهم أن لا تبقى حبيسة البرامج والآمال، فهناك الكثير من المياه الراكدة الآسنة، وجراح تقادمت والتهبت، وحملت الخراج الذي لابد من أن يلفظه الجسم وليكن ذلك بعملية دموية، فالنزف صحي، وأفضل من أن تبقى دماء فاسدة تمنع نمو الجسم بشكل طبيعي وصحي.

الحدث أنطلق وانبثقت عنه هزات ارتدادية، ويتمثل ذلك بالثورة السورية التي دخلت التاريخ الحديث للألفية الثالثة كأعظم ثورة شعبية من أجل الحرية رغم بحر الأشلاء والدماء، رغم التدمير فالثورة في مزيد من التصاعد، ثورة تستحق أن تعد من حروب الاستقلال، والحرية، ثورة تجاوزت في  مداها وقوتها أي ثورة معاصر، وفاقت بصمودها توقعات كل التوقعات والتحليلات.

العالم بأسره، سياسيون ودبلوماسيون وصحافيون ومتابعون بصرف النظر عن درجة تأييدهم للثورة، يقرون أنها إرادة شعبية عارمة، ثورة تصمد لمدة سنتين بوجه طغيان دموي لا شبيه له في التاريخ، فلم يسبق لحاكم أن بلغ طغيانه وسعاره الدموي أن يطلق النار بكافة الأسلحة على شعبه بما في ذلك الأسلحة المحرمة، بل تجاوز في وحشيته العدو الصهيوني المحتل للأرض، والدهشة يتحدث عنها حتى من يحاول أن ينظر بمنظار حيادي وموضوعي. إلا النظام رئيساً وأركاناً فيصر بغباء منقطع النظير يردد : مؤامرة، تدخل،  تكفيريون، وكأن حلفاؤه في بيروت وطهران هم من الاشتراكية العمالية العالمية، وما دعم حتى موسكو وبكين له ما هو إلا في إطار بناء متربول رأسمالي جديد له سمات وملامح خاصة، إلا أن النظام في كلا الدولتين (روسيا الاتحادية / الصين الشعبية) قد أصبح نظاماً إمبريالياً بكل جدارة يفوق في خصائصه الرأسمالية حتى أنظمة رأسمالية عريقة مثل ألمانيا والسويد والدانمرك وهولندة، وربما حتى بريطانيا، فهي دول تتمتع بمؤسسات وبقوانين اجتماعية ديمقراطية بملامح اشتراكية (Sozialdemokrat).

والخلاصة أو العبرة، والتي يأبى بعض السياسيون الشرقيون استيعابها، ويصرون على إنكارها ومواصلة الاستمتاع بالطغيان الذي يمارسوه، في إطار تخلف أعتبره عاماً يشمل مناحي التفكير الشرقي  من الأسرة إلى العمل، إلى الحكومة وأساليب عملها، فالحاكم يعتقد بثقة أنه حر التصرف بأموال ورقاب الناس، ويستنكر أي معارضة ويعتبرها جسارة وقلة أدب من الناس ...! كامتداد نظري وعملي للإقطاع الآسيوي والعبودية الاجتماعية، والتي ما تزال تجري ممارستها بهذا الأسلوب أو ذاك، فإذا كانت القيود من ذهب، فلا يعني أن على الإنسان أن يسعد بقيوده. وإذا كان من الممكن ممارسة هذا الضرب من الطغيان في الماضي، فمن الواضح أن عصر الانترنيت والفيس بوك والتويتر وثورة الاتصالات والأليكترون بكل منجزاتها قد أنهت تلك الحقب العبودية، والناس تشاهد عبر وسائل عديدة الحرية التي يتمتع بها الإنسان في المجتمعات الحرة، فيريدون أن ينعموا بشيئ من ذلك ... شيئ بسيط منه على الأقل، والحرية والديمقراطية ليست حكراً على الدول الصناعية المتقدمة، بل وحتى بلدان نامية وفقيرة تتمتع شعوبها بالحريات والديمقراطية.

الإنسان ينبغي أن يكون حراً، وأن تحترم إرادته، وإلا فإنه سوف لن يستطيع العمل، ولا يبدع، بل وحتى أن يفكر، هكذا هو العالم اليوم، وهكذا هي شروط قيام مجتمعات حديثة تستطيع أن تعمل وتنتج، ويحق لها أن تدخل في مصاف الدول المحترمة، أما قصف الشعب بصواريخ بالستية وقنابل عنقودية وكيمياءية، وقصف بالطيران، فهذا بالتأكيد لا ينتمي إلى العصر، وبقاء وحش كاسر مطلق اليدين مسؤولية الإنسانية بأسرها .

العالم من حولنا يتغير، ومن هنا اخترت هذا كمدخل. البابا الألماني بنيديكت استقال، فهي المرة الأولى  يعتزل بابا الفاتيكان العمل بأختياره، وجميع البابوات الذين سبقوه (شغل هذا المنصب 266 رجل) يبقون في مناصبهم حنى يتوفاهم الله، ثم أن جميع البابوات في العصر الحديث (منذ 1464) هم من إيطاليا، بأستثناء البابا يوحنا بولس الثاني البولوني الجنسية أختير عام 1978 لمنصب البابوية وعلى الأرجح للتأثير في الشأن البولوني حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية البولونية تمثل قلعة المعرضة ضد النظام الاشتراكي الشيوعي ومعقل الثورة، ثم اختير البابا بنديكت الألماني الكاثوليكي من ألمانيا البروتستانتية، وعندما استقال من مهامه، اختير البابا الجديد من الأرجنتين، مما يشير بدرجة كافية من الوضوح، أن هناك تقديرات جديدة لم تكن جارية فيما مضى، وما هذا إلا اعترافاً بالعالم الجديد، فهذه أول مرة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية ذات التقاليد الصارمة أن يعتزل البابا طواعية.

مؤشر آخر : قيل الكثير عن جولة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بل ووصفها البعض بالجولة السياحية، ولكننا نرى ببساطة نرى أن الأمر ليس كذلك تماماً. فالولايات المتحدة كانت وما تزال لا تريد للثورة السورية الانتصار، ولكن القنوات التي تعتمد عليها الإدارة الأمريكية تتعامل بالحسابات التي تقرب من علم الرياضيات في معظم الملفات، وإن يمكن تخمين اتجاهات قرارات الإدارة الأمريكية، فيما يخص القضايا العربية والإسلامية، أو تلك التي لها علاقة بإسرائيل، فالكلمة السرية لدخول خزانة القرارات الأمريكية وحل شفرة قراراتها هي " الإرهاب ". والولايات المتحدة إن قررت شيئاً فذلك من أجل إحباط عملية سيؤدي إلى نشاط " ‘إرهابي " وهو بالضبط كان حصيلة زيارته للمنطقة واقترابه  لدرجة الملامسة تقريباً للوضع السوري، فبقاء الرئيس السوري يبدو مستبعداً لدرجة قبول نتائج إبعاده واستيعابها، رغم أن ذلك قرار غير مستحب، ولكنه ضرب من تعايش إرغامي، وشر ما من قبوله بد.

وتوصل الرئيس الأمريكي إلى قرار ربما وجد فيه الحكمة الواقعية، وهو الحيلولة دون بلوغ درجة انتشار التطرف، فاليأس يدفع حتماً إلى التطرف، والقمع ليس حلاً يقنع أو يرضي المقموعين، وإليكم الدليل في أكثر من مكان، العراق ، أفغانستان، سوريا، الكيان الصهيوني، ليبيا، ..الخ، والأمريكان يتعلمون من دروسهم ولو متأخراً، وقبول خسارة محدودة أفضل الهرولة نحو خسارة شاملة. وعلى هذا:إذ يمثل فقدان النظام السوري خسارة مؤكدة، ولكن الدفاع عنه يمثل خسارة أكبر للمستقبل، فتركوا هذه المهمة للروس الذين يجيدون القراءات الخاطئة، وبعناد يحسدهم عليه حتى الدب القطبي.   

المؤشرات تترى، فما الذي يدفع الصهاينة للاعتذار من الأتراك، وتلبية طلباتهم، سوى قراءة أمريكية لنقاط القوة في الموقف التركي، وأتساعه في المرحلة المقبلة على ضوء التعاظم المطرد للاقتصاد التركي،  ونفوذ سياسي /  اقتصادي تركي في البلاد العربية وفي أوربا والعالم، والنصيحة الأمريكية هنا، هي استباق لضرر وتدهور متزايد في الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة، فالاعتذار الصهيوني هو إيعاز أمريكي، أو طلب في أقل الأحوال بنتائجه التي ستعزز الموقف التركي العام.

ولا يمكن فهم الموقف التركي إلا بربط ذلك بالتطور المثير الذي كان يترقبه الكثير من المحللين السياسيين، فالاتفاق مع الأكراد سيزيد من متانة مواقف تركيا والمزيد من حرية العمل في ملفات أخرى، فالقيادة التركية التي استطاعت أن تواجه نفسها، والقوى التركية المتطرفة، وأثبتت بأنها حكومة قوية قادرة على اتخاذ القرارات الكبيرة، وقراءات دقيقة للمرحلة المقبلة، وأطفأوا بأنفسهم ناراً دون ضغوط لا داخلية ولا خارجية، فعالجوا دملاً يهدد بالانفجار في أي لحظة، بظروف مريحة، مشروع ملتهب يمكن أن يلتهم الكثير من طاقتهم وقدراتهم. وسينجم عن هذه تحولات كثيرة ستكون كلها لمصلحة الموقف التركي.

ومن المؤشرات الهامة أيضاً، هو استقالة الحكومة اللبنانية، وللمطلعين على الشأن اللبناني ومفرداته الكثيرة، يدركون حساسية ملفاته، بيد أن إشعاع الثورة السورية بدأ يصل إلى لبنان ويعبث بتوازناته الهشة أصلاً، فالوزارة التي يهيمن عليها حزب موال لسورية وإيران، لم يتمكن من تحقيق شعار وسياسة النأي بالنفس، الذي أقترحه الرئيس اللبناني كوسيلة لتفادي وصول شظايا الحريق السوري، بيد أن العناصر الموالية للنظام السوري قررت التدخل لإنقاذ النظام من سقوط وشيك، رغم أنه من المشكوك فيه مآل هذه المحاولة، ولكنها تنطوي على أمر آخر لا يقل خطورة، وهو إشعال الموقف في  لبنان في محاولة لتعقيد الأزمة وأبعادها وبالتالي التأثير المحتمل في حلولها.

مؤشر آخر ينطوي على أهمية كبيرة، هو المؤتمر السوري الكبير في الذي أختتم أعماله في القاهرة يوم 23 / آذار ـ مارس الذي ألغى المراهنة الكبيرة التي تلعبها إيران أولاً وقوى أخرى كثيرة تتربص بالأقطار العربية الإسلامية، والمؤتمر الذي شاركت فيه كافة القوى السورية من أطياف وأديان وطوائف، نزع بشكل حاسم المسحة الطائفية من نظام متهالك يتوسل ولاءات طائفية وأقليات دينية وعرقية من أجل الحفاظ على الكرسي، الشعب السوري لا جدال على رقيه وسمو وعيه، كما كان سباقاً طليعياً في الوعي القومي، والثقافة الاشتراكية، يأبى إلا أن يكون سباقاً في انتزاع هذه الشوكة الطائفية المؤذية التي أقحمها أعداء أقطارنا وأمتنا  والقذف بها بعيداً عن مجرى حياتنا وتطورنا المقبل، سننتزعها في العراق، وفي كل جزء يريدون منها أن تكون ثغرة ضعف.

ببساطة أعزائي القراء، إنني أعتقد لدرجة اليقين، أن هذه المؤشرات هي متلازمة متلاحمة، إحداها تقود للأخرى في ديالكتيك منطقي غير مخالف لقوانين التطور، هذه البلاد تمور فيها حركات كبيرة، إنها أمة ترفض ما بها وما علق بها، ترفض أن تكون في زوايا الموقف لا في صدره كما تستحق. هو مسير سيستغرق وقتاً، سنخوض مخاضات، سنخسر رجال وشخصيات، وسنقاوم محن وأنواء، ولكنني على ثقة تامة بأننا سنصل، سنعبر وسيرتفع شأن هذه الأمة وأقطارنا، ليمض المخلصون يداً بيد وكتفاً لكتف.

لتكن الديمقراطية على رأس جدول أعمال حركاتنا الوطنية، والقومية والاجتماعية، الديمقراطية التي تناسب تاريخنا وحياتنا، تنطوي على تداول سلمي للسلطة، ديمقراطية تمنح الفرد حرياته الأساسية، ديمقراطية تمنحه الأمن والأمان، ديمقراطية تحول دون سيطرة فرد على آخر، أو فئة على أخرى.

هذه ستكون موضوعة لقاءات قادمة.