أقلام من عالم التشويه والتزوير

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 التشويه هو تغيير الموجود السويّ إلى صورة سيئة تزدريها النفوس، وترفضها العقول.. وقد يكون التشويه عن قصد وسوء نية، وقد يكون ناجمًا عن جهل وقلة معرفة بجوانب الموضوع.

 أما التزويرفيكون دائمًا بقصد وسوء نية لخدمة رؤية الكاتب, والحصول على نفع دنيوي .ومن صوره : التزوير "بالإسقاط" أي إسقاط جزء من الحقيقة يغير أو يبدل من صورتها أو مضمونها، وقد يكون التزوير بالإضافة . أي يضاف إلى الشيء جزئية ليست منه مع الادعاء أنها منه، مثله كمثل إضافة رقم إلى العدد المكتوب ولو كان صفرًا .

 *******

 والسيد رفعت السعيد من أشهرالمزورين، وخصوصًا فيما يكتبه عن الإسلام، أو جماعة الإخوان .

فله كتب شوه فيها تاريخ الإمام حسن البنا, وجرّح فيها الإخوان, وطعن تاريخهم وفكرهم, هذا عدا مقالات كثيرة تتجه نفس الاتجاه في الافتراء والتشويه. ويحاول رفعت أن يوهم القراء بأنه ينهج نهجا علميا فيما يكتب, فيحيل القارئ علي مراجعه, وخصوصا دوريات الإخوان مثل مجلتهم وصحف أخري مضي علي صدورها قرابة سبعين عاما, ويصعب علي القارئ - بل يستحيل- أن يرجع إليها في وقتنا الحاضر, فيميل إلي تصديق ما يكتبه . إلي أن خرج له من القمقم شاب -أو كهل- في الأربعين من عمره, اسمه «منصور أبو شافعي», وسدد إليه القاضية بكتاب ضخم عنوانه «العلمانيون والحرام العلمي: مراجعة نقدية لعلمية كتابات رفعت السعيد عن حسن البنا» (صدر في سبتمبر 2004) – دار القلم بالقاهرة - . وقام منصور في كتابه هذا - وبمنهج علمي رصين- بتعرية رفعت السعيد تعرية فاضحة صارخة.فإذا بالمحترم رفعت - الذي يزعم أن الإخوان زوروا فكر الأمة بشعارهم العاطفي " الإسلام هو الحل - إذا به -كما فضحه منصور- يوظف كل أنواع التزوير المعروفة في القانون, وأشهرها: التزوير بالإضافة, والتزوير بالحذف والإسقاط, حتي يحقق أهدافه التي يحرص علي تحقيقها, وهي أهداف مناقضة للحق والحقيقة والقيم الإنسانية. ونكتفي في هذا السياق بمثال واحد: يحرص رفعت «السعيد» علي إيهام القارئ -بل الناس جميعا- بأن الماركسية لا تناقض الدين, ولا تتعارض معه, فيورد النص التالي لكارل ماركس: «إن الدين عند الكثيرين هو النظرية العامة لهذا العالم, وهو مجموعة معارفهم الموسوعية, وهو منطقهم الذي يتخذ شكلا شعبيا, وهو موضوع اعتزازهم الروحي, وموقع حماستهم، وهو أداة قصاصهم, ومنهجهم الأخلاقي». ..ويكتشف الأستاذ منصور - بعد رجوعه للمصدر الأصلي- أن «أمير التزويرات» رفعت السعيد قد حذف من نص كارل ماركس ما يناقض معناه تماما, فقبل الجزء السابق مباشرة حذف رفعت السعيد من كلام ماركس قوله «إن الإنسان هو الذي يصنع الدين, وليس العكس, فالدين في حقيقته هو الوعي الذاتي للإنسان..» أي أن الدين عند ماركس -وتلاميذه طبعا- ليس من عند الله, بل هو صناعة بشرية. ويعرض أبو شافعي عشرات من التناقضات المرة لرفعت السعيد, وكذلك عشرات من الأخطاء الموضوعية الخطيرة. منها مثلا: أنه يتعامل ويتحدث عن كتاب ( من هنا نعلم ) على أنه من تأليف سيد قطب مع أن مؤلفه هو الأستاذ محمد الغزالي رحمه الله.

********

 وغير رفعت السعيد نرى كاتبًا يصفه غلاة العلمانيين بأنه رائد التنوير الديني، وهذا يعني أننا كنا في جهالة وأمية دينية إلى أن جاء محمد سعيد العشماوي، فنشلنا من الظلام الذي كنا نعيش فيه، وأزال الغشاوة عن بصرنا وبصائرنا، فإذا بنا نعيش في فيوض علمه النوراني، وفقهه الساطع.

 والنص التالي يكشف لنا طبيعة هذه الريادة العشماوية التنويرية. يقول العشماوي عن الخلافة الإسلامية: "إنه نظام لا يختلف عن أي نظام متخلف في السطو... والسيطرة ... والغشومة.. والظلم.. والاستبداد.. والتنكر لحقوق الإنسان.. وتنكب حدود الله .. وهو نظام جاهلي غشوم مناف لروح الدين، مناف لمعنى الشريعة" ـ "والخلافة لم تخدم الإسلام حقيقة.. بل إنها أضرت به حين ربطت العقيدة بالسياسة، ومزجت الشريعة بنظام الحكم".

هذا وما زال السيد عشماوي يردد ـ اعتمادًا على أخبار ملفقة زائفة: أن القرآن الذي بين أيدينا به كثير من الأخطاء في القواعد واللغة.

********

 وأنا أقصد بصفة أساسية من هذا المقال - لا عرض السقوط الصريح كالنص السابق- ولكن عرض صور من الغش والتزوير؛ وذلك بأن ينسب الكاتب للمصدر أو المرجع الذي يأخذ منه بعض مادته، ما لم يقله هذا المرجع، وذلك بقصد خدمة رؤيته الخاصة، ومن الشواهد الدالة على ذلك:

1ـ عندما يفسر العشماوي قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)... يقول العشماوي: "الآية الكريمة نزلت بعد أداء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة فريضة الحج.. ومن ثم فإن المقصود بها أن الله سبحانه وتعالى أكرم المؤمنين بإكمال فرائض الدين وشعائره.. وليس المقصود بها أن الدين كان ناقصًا وكمل"، وأحال العشماوي على تفسير القرطبي ـ طبعة دار الشعب ص 2059 وما بعدها.

وبالرجوع إلى القرطبي نراه يقرر أن النقص وارد.. ولكن من النقص ما ليس بعيب.. كنقصان أيام الشهر، ونقصان صلاة المسافر، ونقصان أيام الحيض عن المعهود، ونقصان أيام الحمل.. فنقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في علم الله تعالى، هذه ليست بشين، ولا عيب...".

2ـ من تزويره ـ بادعاء العلم ـ ما قاله في آية الحرابة: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).

يقول العشماوي: "وواضح من الآية وسبب تنزيلها أنها تقضي بالجزاء على من يحارب الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي يحارب دين الله، وشخص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهي بذلك من الآيات، المخصصة بشخص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده هو الذي يوقع الجزاء على من يحاربه.. ويحارب الله في شخصه، وهو الفيصل العدل في تحديد شخص من حاربه، وما يعتبر حربًا عليه.. أما بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعد خلفائه الراشدين.. فمن ذا يكون كذلك؟ الخلفاء ومنهم الفاسقون.. أم الفقهاء وفيهم المغرضون؟".

 وهذا يعني عمليًّا إلغاء حد الحرابة من قائمة الحدود التي شرعها الله ـ سبحانه وتعالى ـ وبعدها هبت أقلام موكوسة تدعي أن رجم الزاني المحصن ليس من الإسلام. وأن المرتد عن الإسلام لا يقتل إلى آخره.

وكأن العشماوي بذلك حريصٌ على أن ينقض عرى الدين عروة عروة، وطبعًا هو لم يسمع بقاعدة العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

********

 والذي يقرأ إصدارات وزارة الثقافة في عهد الوزير فاروق حسني يرى سيلاً من "الإبداعات" الشعرية والقصصية تلطم القيم الدينية والخلقية، والآداب العامة، والذوق الجمالي، وكأن ذلك ناجم عن خطة موضوعة لتدمير هذه القيم، ولا تبالي، ويكون الخطأ خطيئة إذا كان في عمل نقدي من عمل الوعي الذي لاحظّ فيه للأحلام والتحليقات والتهويمات، وكل ـ أو أغلب ـ هذه الأعمال الصادرة عن وزارة الثقافة تضع الدين مقابل العلم.. أي تضع التفكير الديني مقابلاً دميمًا ذميمًا للتفكير العلمي المستنير، وتحت يدي إصدارٌ نقدي من إصدارات وزارة الثقافة، وهو يصفق لكتب ساقطة.. موضوعيًّا.. وفنيًّا.. وفكريًّا بالمعايير النقدية الحصيفة ـ بصرف النظر عن قيمتها الدينية، وموقفها من الدين، ومن هذه الكتب التي مجَّدها هذا الكتاب النقدي: "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، وكتاب "في الشعرالجاهلي" لطه حسين، وكتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية" للويس عوض، وكتاب "الأنبياء في القرآن الكريم" لأحمد صبحي منصور، ورواية: "مسافة في عقل رجل" لعلاء حامد.

وعن هذه الكتب يقول الكاتب: "إنها كتب تخاطب العقل، أي أنها تستخدم لغة العلم، أو تخاطب الوجدان، وحاسة النقد لدى الإنسان.. وبذلك يكون مفهومًا هجوم المؤسسات الدينية عليها، وهي مؤسسات لا تستخدم إلا لغة الدين".

 وأكتشف ـ من كلام الكاتب نفسه ـ أنه لم يقرأ هذه الكتب التي صفق لها وهلل؛ فهو يذهب إلى أن الأزهر كان وراء مصادرة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، "لمجرد أنه ذكر أن النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم في المدينة كملك، حكومة تقوم على ذات الأساس الذي كان موجودًا لدى القبائل العربية في عهد ما قبل الإسلام". ويحيل الكاتب استقاء هذه "المعلومة" على كتاب علي عبد الرازق، وكتاب: "الخلافة الإسلامية" لسعيد العشماوي.

 وبالرجوع إلى هذين الكتابين نجد أنهما يذكران نقيض ما ذكره الكاتب: فعلي عبد الرازق يورد قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرجل ارتعد في حضرته: "هون عليك.. فإني لست بملك ولا جبار.. وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة". ويعلق بقوله: فذلك صريح في أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن ملكًا، ولم يطلب الملك، ولا توجهت نفسه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إليه.

ويقول سعيد العشماوي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة أنه لم يحكم الناس أصلاً ـ كملك، أو أمير، أو رئيس، أو سلطان، وإنما حكمهم عرضًا كنبي الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الناس.

 *********

 والأمثلة التي عرضناها لا يمكن أن تـنـتسب للفكر السويّ، ولا للفن النظيف، كما لا يمكن أن تنتسب للحرية البناءة الراقية.. فالحرية بلا ضوابط من القيم السامية والصدق والوعي الرشيد تتحول إلى فوضوية مدمرة.

فالفن السوي لا ينهل من المراحيض والمستنقعات، والشذوذ والسفاهة، ولكنه يمثل النبض الصادق، والتطلعات الإنسانية في ظل القيم الرفيعة، خلوصًا إلى بناء مجتمع ناهض سليم.