السنة النبوية والضغوط السياسة والفكرية

السنة النبوية والضغوط السياسة والفكرية

معمر حبار

[email protected]

إنتهيت من متابعة الحلقة التاسعة من قراءات معاصرة التي يعدها الأستاذ مصطفى العمري، والتي كانت مع الأستاذ احمد صبحي منصور.

وقد طرح الأستاذ جملة من النقاط، فكان على متتبع الحصة، أن يقف على بعض النقاط، ويسلط عليها الضوء، لعله بذلك يثري النقاش، معتمدا على ثقافته الشخصية، ومحترما لطرح الأستاذ الفاضل.

يركز الأستاذ كثيرا على أن السنة النبوية، كتبت بطلب من العباسيين ومن قبلهم الأمويين، فجاءت الأحاديث كلها تصب في خدمة السلطان، ومؤيدة له في مايحب ويكره، فيعطي لذلك مثالا ويقول، أن القائلين بأن أبى طالب يدخل النار، كان خدمة للدولة العباسية ، وتماشيا مع سياستها المعارضة لبني أمية.

وهناك أمثلة دقيقة ذكرها الأستاذ في تدخله، لايريد صاحب الأسطر التطرق إليها، ويفضل الوقوف على نقطة واحدة فقط، ألا وهي، تعرض السنة النبوية للضغوط السياسية، ومدى صحة هذا القول، وكيف يمكن التعامل معه؟.

ما يجب التأكيد عليه، أن الضغوط السياسية لم تتوقف يوما عند بني أمية أو بني العباس، ولن تتوقف. فكل سلطان وكل دولة وكل جهة، تسعى بكل مالديها، لتجعل السنة النبوية وفهمها، وفق أهدافها وأغراضها.

ولو وقف المرء الآن لما حدث في حرب الخليج الأولى والثانية، ويحدث الآن في حرب اليمن، لرأى توظيفا للسنة النبوية ، حسب هذا السلطان أو ذاك، فكل يوظف الأحاديث النبوية، وفق ميولاته السياسية، وما يراه سلطانه.

إذن المسألة لاتتعلق بالدولة العباسية والأموية فقط، بل تشمل جميع الدول دون استثناء، بما فيها الحالية والتي ستليها، وانطلاقا من هذه النظرة الشاملة، كان هذا التعقيب.

القول أن السنة النبوية كلها، كتبت وفق طلب السلاطين يومها، وتحت ضغوط سياسية، مايستوجب حسب أصحاب هذا الرأي، رفضها جملة وتفصيلا، وعدم الاعتماد عليها، يعتبر ..

إجحافا في حق علماء أفنوا صغرهم وشبابهم، وقطعوا الأميال وتعرضوا للجوع والعطش والفقر، وحرموا أنفسهم العيش الرغد، بل حرموا الأهل والولد، لأن حياتهم كانت كل سفر وترحال، وإستخفافا بعقول من سبقونا، وكأن الأولين غير مدركين للضغوط السياسية، ولم يناهضوا أصحابها والداعين لها، وهم الذين واجهوا ضغوط السلطان وإغراءاته، حتى أنهم..

عرضوا السلاطين للبيع، كما حدث مع سلطان العلماء العز بن عبد السلام، رضي الله عنه وأرضاه.

والإمام مالك، رفض طلب السلطان، حين طلب منه فرض الموطأ على الأمصار. والإمام مالك طلب من السلطان عدم إعادة بناء الكعبة، حتى لاتكون لعبة بين الملوك. والإمام مالك، هو الذي طلب من السلطان، أن يقف حيث انتهى به المجلس، حين جاء ليستمع لدرسه، وهو الذي رفض بشدة، أن يذهب لقصر السلطان، ليعلم إبنه، وطلب منه أن يحضر إبنه لمجلس العلم، الذي يعقده مع الناس أجمعين، وهو ما تم له.

الغرض من سرد هذه الأمثلة التي استحضرتها الذاكرة الآن، وأمثلة أخرى مماثلة، هي تبيان موقف العلماء من السلاطين، ومقاومتهم للضغوط السياسية، وأن رجالا بهذه الطينة الصلبة القوية، لايمكنهم الاستجابة للضغوط والاغراءات، مهما كانت قوية مغرية، ولا يمكنهم بيع حديث نبويى لأي كان، أو أن يكتب حديثا وفق طلب السلطان.

السنة النبوية تحتاج إلى تنقيح، ويكون التنقيح تحت إشراف هيئة تضم مختلف التخصصات في التاريخ واللغة والسيرة وعلم الآثار ودراسة الشعوب والتفسير وكل علم جديد أو قديم، تراه اللجنة يصلح للاعتماد عليه في عملية التنقيح، التي تتطلب وقتا وجهدا وتفرغا.

إن عملية التنقيح، تأتي أكلها بعد أن يتخلى كل منا عن الضغوط السياسية والفكرية الكامنة ضمن الفرد، والتي يريد أن يفرضها على غيره.

المشكلة أن الذين يتحدثون عن الضغوط السياسية التي تعرضت لها السنة النبوية، ويدعون لإلغاءها، يعيشون كذلك ضغوطا سياسية، ويقبلون هذا الحديث ويرفضون حديثا آخر، لأنه لايتماشى والضغوط السياسية والميولات الفكرية التي تربوا عليها منذ أمد. والمطلوب إذن، التخلي عن الضغوط التي تراها عيبا في الآخر، وتتبناها سرا وعلانية، وبشعور ودون شعور.

السنة النبوية والضغوط السياسة والفكرية

الحلقة الثانية

مقدمة المهتم.. لايوجد في تاريخنا، أن سلطانا فرض على فقيه أو عالم، أن يكتب له الحديث وفق هواه، وكان السلطان يطلب من المحدث أو الفقيه، أن يكتب له كتابا حول الدين مثلا، أو تسيير الملك، أو تعليم الأبناء، كما حدث مع رسالة أبي زيد القيرواني.

لو إفترضنا جدلا، أن هناك ضغطا من السلطان، فإنه لم يعرف أن الفقيه وافق هواه، بل إلتزم الصمت في أحسن الأحوال، وكان هناك من يدون سرا الأحاديث والسيرة النبوية.

عالم وسلطان.. ويكفي القول، أن الإمام مالك، قال أن طلاق المكره باطل، فغضب منه السلطان، لأنه فهم من كلامه أن بيعة المكره باطلة، وثبت الإمام مالك على قوله، ولم يغيره ولم يبدله، ولم يخشى السلطان، ولم يستطع السلطان فعل شيء تجاهه.

وحالات كثيرة، تبين أن السلاطين عرضوا على الفقهاء ، القضاء والوزارة، فرفضوا حتى لايكونوا تحت رحمة السلطان، والأمثلة على ذلك كثيرة.

لم يعرف عن العالم والفقيه والمحدث، أنه تعلم الحديث  وعلّمه، وفق مايحب السلطان، وأنه حذف مايغضب السلطان.

والمعروف عن فقهاءنا، لم يكونوا يقبلون عطايا وهدايا السلطان، بل كانوا يرفضون أموالهم وخدماتهم، حتى لا يكون العلم، وعلم الحديث، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحت رحمة السلطان.

إن علم الحديث يتطلب إجازة من الشيخ، ولكي يتحصل عليها التلميذ يتطلب منه وقتا وجهدا، ولكي ينال رتبة المحدث، أو الحافظ، أو أمير المؤمنين في الحديث، لابد أن يعترف له جمع من خيرة كبار العلماء والمجتهدين، ولذلك تجد عبر العصور، أن قلة قليلة جدا، تحصلت علة تلك الألقاب، رغم كثرة العدد، ومرور أربعة عشر قرنا من تعليم وتلقين الحديث.

إن الحديث الواحد، يحتاج لشهادة عالمين أو أكثر، ويتطلب قطع مسافات، ومواجهة الأخطار، وطلاق متاع الدنيا، ومواجهة حسد الأتراب وحقد السلطان ومغرياته.

لم يعرف في تاريخنا، أن السلطان أجاز عالم الحديث، بل إن العالم صحح حديثا للسلطان وحاشيته ووزراءه، ولو كان يغضبه، ويتعرض بسببه لسطوته وجبروته.

السياسة سبب العفن.. تمعنت في قول القائلين، بوجوب الاستغناء عن كتب الأحاديث، وعلى رأسها صحيح البخاري ومسلم، فوجدت أن السياسة من وراء ذلك.

لو إفترضنا جدلا، أن ضغط السلطان، كان من وراء كتابة الأحاديث. يبقى السؤال من السلطان المقصود؟. وهل إنتهى ضغط السلطان، أم مازال يمارس هواية الضغط؟.

إذن لنستخرج قائمة السلاطين، والفترات التي عاشوها، والدول التي عاصروها، ولا يستثنى أحد ولا فترة، بما فيها الفترة التي عشناها ونعيشها.

إن الذي يقول، إن العباسيين والأمويين ضغطوا على فقهاء الحديث، ليكتبوا لهم أحاديث تساير أهواءهم، وتسكت عن جرائمهم، وتمدح فضائلهم، يقابله في الجهة الأخرى من يواجهه بأن الفاطميين والعثمانيين، كذلك إستغلوا علماء الحديث في التركيز على مايعزز خلافتهم، ويقوي ملكهم، ويسكت عن جرائمهم، ويظهر خوارقهم وفضائلهم.

ونحن في الجزائر نقول، أن الاستدمار الفرنسي ضغط على علماء الدين، بأن لايواجهوا فرنسا، لأنها قدرا مقدورا، ومن تمام الإيمان الاستسلام للقدر وعدم مواجهته، لذلك وضع الاستعمار أئمة يخطبون فوق المنابر، أن حاكم فرنسا هو ولي أمر المسلمين، تجب طاعته، ولا يجوز الخروج عنه، ومن خرج عنه قتل حدا وشرعا.

إذن التطرق لضغط السلطان، يستدعي التطرق لجميع السلاطين، ولكل الفترات الزمنية دون تمييز. ومن ميز سلطانا أو فترة، فقد مارس ضغطا، وهو الذي يحاربه ويدعو لزواله ومحاربته وكشفه.

أين تكمن المشكلة.. المشكلة ليست في الأحاديث المروية، فذاك مجهود علماء وقرون من الجد والمثابرة، وإن وجد مشكل في حديث، ليطرح على أهله وهم أعرف بكيفية التعامل معه.

والمشكلة كذلك ليست في فهم الحديث، ولا في إختلاف الفهم عبر العصور، لكن تكمن المصيبة في إحتكار الفهم، وإدعاء الحق، ولعن المخالف واتهامه بشتى أنواع السباب والشتائم والتهم، وعدم الأخذ بالرأي المخالف ولو كان الأفضل والأحسن.

فنتج عن هذا الموقف تعصبا أعمى، حرم الناس من الاستفادة من الرأي الآخر، وحروبا فكرية، قسمت المجتمع إلى طوائف متناحرة بسبب فهم حديث، أو سوء فهم لحديث.

والداخل لمساجدنا الجزائرية على سبيل المثال، يلاحظ في الآونة الأخيرة، ملصقات كبيرة الحجم، تحتوي على الأذكار عقب الصلاة، التي كنا نقولها ونحن صغار. المشكلة ليست في الأذكار النبوية، لكن المشكلة تكمن في تعمد إختيار هذا المحدث دون غيره عمدا، ورفض غيره من المحدثين ولو كان الأفضل، وكأن المسألة لا تتعلق بحديث، إنما تتعلق بشخص بذاته، تحولت بالتالي الأذكار إلى أذكار صححها فلان ، وليست أذكار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن البغض والحقد والكره تجاه الآخر، وفي المقابل تقديس الذات واعتبارها المعصومة الناجية، هي من وراء إستغلال الأحاديث النبوية، لصالح نزوات هذا ومصالح ذاك.

إن السعي وراء السلطة والسلطان، جعل البعض يستغل الأحاديث ليرضي بها سلطانه، لعله ينال ماوعده به، وياليته إعترف أن فاقة دفعته، أو دينا إضطره لذلك، أو يسعى وراء قوت أهل وولد، بل راح يصيح في الناس، أن هذه هي السنة وهذا هو الدين، والدين من فعلته براء.