المرشديون السوريون

ماجد رشيد العويد *

[email protected]

ما أحوجنا في هذه الفترة العصيبة من تاريخ بلادنا إلى نبش صفحات الكتب وإظهار ما أغلقته السياسة والمصالح. وعندما نعلم أن تاريخ سوريا الفائت في النصف الأول من القرن الماضي يوجد فيه الكثير من المسكوت عنه للاعتبارات آنفة الذكر، ندرك بعض الأسباب وراء الانهيارات القائمة في حاضر هذا البلد المنكوب بسياسة الاستبداد. ذلك أن الإبقاء على بعض الملفات في إطار المسكوت عنه يشجع على تنمية الحس الطائفي، وهذا ما يضر بالفسيفساء الجميلة لسوريا التي نراهن على جمالها وعمقها، ويبقي ثانياً بعض الطوائف الصغيرة رهن تجاذبات المستبد الذي يضع قادتها رهن إقامة جبرية أو يطلق سراحهم ليعمد من بعد إلى استغلالها على هواه. من هنا يأتي كتاب "شعاع قبل الفجر" لمؤلفه "أحمد نهاد السياف" ـ وهو من رجالات الجيل الثاني للكتلة الوطنية في سوريا، ومن ملازمي إبراهيم هنانو، هكذا يصفه جمال باروت محقق هذه المذكرات ـ إنصافاً لطائفة سورية صغيرة تتميز بالطيبة، وحبها الخير للآخرين، وإن ظهروا في قراهم على نحو يوحي بالعزلة والرغبة بها. وسبب هذا ما مرّوا به من ظروف حملتهم على اتقاء شر الآخر بالابتعاد عنه مسافة لا يقطعون معها حبهم له. وبرغم أن "إمامهم" سلمان المرشد قد دعا إلى إبطال مبدأ "التقية" إلا أنهم، وعبر ما مورس عليهم، يحاولون تجنب الآخر خشية الاصطدام به وهذا ما لا يطيقونه.

يرى المرشديون في سلمان المرشد إمامهم وزعيم عشيرتهم "عشيرة بني غسان" التي عمل على توحيدها من مجموعة من العشائر مثل العمامرة والدراوسة والمهالبة وجبل الحلو.

وما يمكن قوله هنا عن سلمان أنه أعاد أبناء عشيرته الغسانية، وهم الذين كانوا يسمون بالغيبيين، إلى مذهب علي بن أبي طالب، وعلّمهم عدم تقديس الأشياء وبعض الشخصيات على أنها الله. فالله لا يُمثّل بالشمس مثلاً ولا يمكن لروحه أن تحلّ في إنسان. وهو بهذا المعنى مجدد في عشيرته ومحيطها ومنقذ لها من الغرق الذي آلت إليه. إلى جانب تذكيره بوعد الله "أنه سيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً"

وينظرون إلى ولده مجيب على أنه "المخلص" وصاحب المعرفة الجديدة عن الله، وأما أخوه ساجي فهو إمامهم، إمام العصر، الذي عمل على تقعيد دينهم، وقضى من عمره ما يربو على 46 عاماً يعلم أبناء العشيرة تعاليم هذا الدين، وبوفاة ساجي تكون الإمامة قد انقطعت. غير أنه وقبل وفاته كلّف ما يسميه المرشديون "الملقن" وهو الرجل الذي يُتفَقُ عليه في أماكن تواجدهم على قواعد وأسس من أهمها أن يكون حسن الخلق، وأن يكون حاصلاً على الثانوية العامة في الحدّ الأدنى، وأن يقبل بهذا التكليف بمحض إرادته وليس قسراً، وأن يكون متزوجاً، وأن لا يتغيب كثيراً عن منزله، وإذا أخلّ بعمله هذا يُعزل من "المحلّة" التي كلفته. ويقوم عمل الملقن على تعليم الناشئة بعض أمور الدين من مثل الصلاة، ومن مهامه أيضاً عقد الخطوبة والقران. ولعل الأجمل في حياة هذه الطائفة أن المهر عندهم يمكّن الرجل من الزواج بيسر تام فلقد شرّع لهم "مخلّصهم" مهراً مقداره 400 ليرة سورية وإلى هذا اليوم يتزوج الرجل منهم بمهر مقداره هذا المبلغ، وليس لديهم مؤخر زواج.

ولد سلمان المرشد في قرية "جوبة برغال" 1907 ـ 1946وعمل منذ صباه الباكر على خدمة عشيرته، وهو الذي عُرف عنه النباهة منذ كان في عامه السادس عشر. وذهب وهو يرى الواقع المزري لعشيرته ومن حولها إلى إبطال الاعتقاد بـ "الترائي"[1] و "التمثيل الكوني لله"[2] و "التقية" و "وراثية المشيخة" و "اختصاص بعض المشايخ ببعض الأعياد" وإلغاء اللباس الديني، وأنكر قدسية عبد الرحمن بن ملجم[3]، وأبطل الذبائح عند المقامات والزيارات وقال بتشخص الإمام القائم في كل دور بشرياً." ومن هنا جاء افتراقه عن طائفته الأم الطائفة العلوية[4]. وبحسب المؤرخ الروسي فلاديمير لوتسكي فإن "أخطر مخاوف الفرنسيين من مضاعفات انتشار الدعوة" كان في أن المرشد رأى تشكيل جماعات مسلحة لمقاومة الفرنسيين بهدف إجلائهم عن سوريا"[5] وفي هذا ما يبطل تهمة العمالة التي نسبت إليه وهو يُحاكم، ثم  ذهبوا إلى محاكمته بتهمة ادعاء الربوبية، وتخلّصوا منه وهو الذي عٌرف عنه مدافعاً عن مصالح أهله من عشيرة بني غسان الذين كانوا قد عانوا الأمرين على يدي إقطاع أهل المدينة وبعض تجارها.

على أن ادعاءه الربوبية، أو نسبتها إليه من أتباعه لا تجد لها ما يقيمها من الأدلة والبراهين، وهي محض افتراءات، وهو، أي المرشد، في نهايته رجل دعا أتباعه إلى فعل الخير وأداء الصلاة. وفي كتابه "أمريكا تستحث رفعت الأسد للوصول إلى السلطة" روى مصطفى طلاس أن المرشديين يتخذون من سلمان إلهاً. وهو الأمر الذي حمله لاحقاً على الذهاب إلى نور المضيء ابن سلمان المرشد للاعتذار وتبادلا خلال اللقاء كلمات دبلوماسية حملت اعتذراً صريحاً من وزير دفاع سوريا السابق، وهو ما يرويه قائد الجيش الشعبي السابق في سوريا محمد إبراهيم العلي في كتابه "حياتي والإعدام"[6]

ويبقى القول قائماً أن المرشدي لا يطلع الآخر على معتقده وفي هذا من التقية الكثير، الكثير. وهم بلا كتاب ويتمنون أن يأتي الوقت وتُنشر تعاليم إمامهم.

              

*أديب سوري

[1] المقصود بالترائي: أن علياً وأبناءه وأنصاره كانوا أنواراً تتراءى على الأرض ولم يكونوا من لحم ودم.

[2] التمثيل الكوني لله أن محيط عشيرة بني غسان وهي العشيرة التي ينتمي إليها سلمان المرشد كانت تقول بتجسد الله في مفردات الكون.

[3] كانوا يكرمون بن ملجم ويصلون عليه انطلاقاً من أن علياً لم يقتل وإنما شُبه لهم.

[4] بسؤال أحد المرشديين العارفين: إن المرشدية ليست فرعاً من العلويين وإنما هم من قبيلة بني غسان وهؤلاء ليسوا علويين

[5] شعاع قبل الفجر

[6] يروي محمد إبراهيم العلي في كتابه "حياتي والإعدام" في فصل بعنوان "قصتي مع المرشديين" ظروف تعرفه عليهم وعلى أبناء سلمان المرشد، ويروي ظروف زيارته مع مصطفى طلاس إلى بيت نور المضيء لتقديم الاعتذار عما لحق سلمان من إساءة. ولعل الغريب أن ينكر مصطفى طلاس معرفته بما كتب. وهنا قال له نور المضيء ما معناه " نحن أهل يا أبو فراس والحق على الكتبة"!!!